التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ
٧
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٨
ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ
٩
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
١٠
قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
١١
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
١٢
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ
١٣
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ
١٤
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } الآية.
قال الزمخشري: "أسماء إخوة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بنت ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين ـ تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة ـ أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت "ليا" تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين".
قوله تعالى { آيَاتٌ } قرأ ابن كثير "آية" بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و"للسَّائلِينَ": متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً لـ"آياتٌ".
فصل
معنى: { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } أنه عبرة للمعتبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسد، وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك.
وقيل: { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ }، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول ـ صلوات الله وسلام عليه ـ.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
"دخل حبر من اليهُود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منه [قراءة] سورة يوسف، فعاد إلى اليهودِ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة، فانطلق نفرٌ منهم، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له: من علَّمك هذه القصَّة؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: اللَّه عَلَّمَنِي" فنزلت: { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ }.
قال ابن الخطيب: "وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صلى الله عليه وسلم عنها، من تعلُّم ولا مطالعة.
الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله ـ تعالى ـ هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.
الثالث: أن يعقُوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله ـ تعالى ـ كما وعد مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله ـ تعالى ـ لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره".
قوله: { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } اللام في "ليُوسفُ": لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه "وأخُوهُ": هو بنيامين، وإنَّما قالوا: "وأخُوهُ" وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و"أحَبُّ" أفعل تفضيل، وهو مبنيٌّ من "حُبَّ" المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي بـ "إلى" وإلى المفعول المعنوي بـ"اللام"، أو بـ "في" فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك: "هو أبغضُ إليَّ منْهُ" أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

3050ـ لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلَّتْ دِيَارهُ أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ

وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الأب هو فاعل المحبَّة.
و"أحَبُّ": خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل: اللاَّم في: "ليُوسُفُ": جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في: "ونَحْنُ عُصْبَةٌ": للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع "عُصْبةٌ" خبراً لـ "نَحْن".
وقرأ أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون "عُصْبَةٌ" حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري: "هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته".
قال أبو حيَّان: "وليس مثله؛ لأن "عُصْبَةٌ" ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً".
قال شهاب الدِّين: "ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلك، ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره".
وقال المبرد: هو من باب: "حُكمُك مُسمًّطاً" أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ:

3051ـ يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً

أراد لك حكمك مُسمَّطاً.
قال: واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك: الهلال والله، أي: هذا الهلال، والمُسَمَّط: المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد: حكمُك ثبت مُسمَّطاً،وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير: أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو: ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف: "ضَرْبِي زيْداً شديدٌ" فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني: "مُسَمَّطاً" يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.
والعُصْبَة: ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ؛ وعنه: مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل: مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس.
فصل
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه:
أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا: { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
قال ابن الخطيب: "وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فلما كان يعقُوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟.
فالجواب: أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك" حين كان يحبُّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟.
والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد؛ وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليَّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه:
أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطَّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعْظِيم.
والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، وألقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حُصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب".
{ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً } الآية.
في نصب "أرْضاً" ثلاثة أوجه:
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله:
{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف:16]، وقول الشاعر: [الكامل]

3052ـ لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ

وإليه ذهب ابن عطيَّة.
قال النَّحاس: "إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه".
والثاني: النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ: " أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة".
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال: "وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يُوسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه".
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال: "وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت: "جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً" لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع "دخلْت" على الخلاف في "دَخلت" أهي لازمة أم متعدِّية".
وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم: عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصره، ولا أقطار تحويه، و"أرضاً" في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث: أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى: "اطْرحُوهُ" أنزلوه، و"أنزلوه" يتعدى لاثنين، قال ـ تعالى ـ:
{ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } [المؤمنين:29] وتقول: أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح: الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ: [الطويل]

3053ـ ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ

والمعنى: اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي: في أرض تأكله السِّباعُ.
و"يَخْلُ لكُمْ" جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً } [آل عمران:85].
قوله: { وَتَكُونُواْ } يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار "أن" بعد الواو في جواب الأمر.
فصل
اعلم: أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا: لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله: { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي: أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي: من بعد قتل يوسف، { قَوْماً صَالِحِينَ }: أي: نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل: يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل: شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل: القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب: شمعون، وقال كعب: دان، وقال مقاتل: رُوبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم: بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا: فإنَّهُم قالوا: { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } وهذا يدلُّ على أنَّهُم قبل النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً: قولهم:
{ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [يوسف:97] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم: بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح: أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال: { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ }.
قيل: إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله. وقيل: يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله: "فِي غَيابَةِ" قرأ نافع: "غَيابَات" بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون: بالإفراد؛ لأن المقصُود: موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في هذه القراءة: أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني: "ووجدت من ذلك: الفخَّار: للخَزَف".
وقال صاحب اللَّوامح: "يجوز أن يكو على "فعَّالات" كحمَّامات، ويجوز أن يكون على "فيْعَالات"، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة".
وقرأ الحسن: "في غَيَبةِ" بفتح الياء، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة.
والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّان: "وفي حرف أبيٍّ: "في غيْبَةِ" بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة".
قال شهاب الدين: "والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون".
وقال الكلبيُّ: "الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ أسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه".
وقال الزمخشري: "هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله".
قال المنخل: [الطويل]

3054ـ فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ

أراد: غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ: البئر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك: إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي: ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ: القطعُ، ومنه: الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى: [الطويل]

3055ـ لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ

ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.
فصل
والألف واللام في "الجُبِّ" تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه:
فقال قتادة: هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل: بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قولهم: "يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ" لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرَب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيه، فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله "يَلتَقِطْهُ" قرأ العامَّة: "يَلْتَقِطْهُ" بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة: بالتَّاء من فوق؛ للتَّأنيثِ المعنويِّ، والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا: قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر: [الوافر]

3056ـ إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ

وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [الأنعام:160 ـ الأعراف:56].
والإلتِقَاط: تناول الشيء المطروح، ومنه: اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر: [الرجز]

3057ـ ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا ..........................

قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } أي: يجده من غير أن يحتسب.
فصل
اختلفوا في الملقوط فقيل: إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى:
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [يوسف:20] وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.
فصل
والسيَّارة: جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ: يريد: المارَّة، ومفعول "فَاعِلينَ" محذُوف، أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى: أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله ـ تعالى ـ:
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل:126] يعني: الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قوله تعالى: { قَالُواْ يَـأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } الآية.
"تَأمَنَّا" حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة: تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني: "وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس".
وقرأ بعضهم ذلك: بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها: [إشراب] الكسرة شيئاً من الضمِّ [نحو قيل،
{ وَغِيضَ } [هود:44] وبابه، وقد تقدم في أول البقرة].
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في
{ ٱلصّرَاطَ } [الفاتحة:6]، { وَمَنْ أَصْدَقُ } [النساء:87، 122] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها: الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى، وقرأ أبو جعفر: الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك: بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز: "لا تَأمُنَّا" بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إدغامها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ: "لا تِيْمَنَّا" بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال أبو حيَّان: "ومجيئُه بعد "مَا لَكَ" والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم: "ما أحْسَنَّا" في التعجُّب؛ لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي".
قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله: "لالتبس بالنَّفْي الصحيح".
فصل
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعي، فسألوه إرساله معهم، وكان يعقُوب ـ عليه والسلام ـ يحب تطييب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له: { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة.
وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا على التَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ }.
وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
قوله: { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } في: "يرْتَعْ ويَلعَبْ" أربع عشرة قراءة:
أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ: "نَرْتَعِ ونلعب" بالنُّون وكسر العين.
الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عنه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر: "نَرتَعْ ونَلعَبْ" بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة: قراءة الكوفيين: "يَرْتَعْ ويَلعبْ" بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد: "نَرْتَعْ" بالنُّون، "ويَلْعَبْ" بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة: "يَرْتَعِ ويَلْعَبُ" بالياء فيهما، وكسر العين وضمِّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوب: "نَرْتَع" بالنون، "ويَلْعَب" بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن: "يَرْتَعْ ويَلْعَب" بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي: "يُرْتَع ويُلْعَب" بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء: "نَرْتَعِي ونَلْعَبُ" بثبوت الياء، ورفع الباء.
وقرأ ابن أبي عبلة: "نَرْعَى ونَلْعَب".
فهذه أربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ.
قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ.
وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما
"رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابرـ: هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك" .
وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم: "إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ" وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، اعتقد أنه جزم بحذف الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال:

3058ـ....................وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ

ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالياء من تحت في "يَلْعَب" دون "نَرْتَع"؛ فلأن اللَّعب مُناسبٌ للصِّغار، ونَرْتَع: افتعال من: رَعيْت، يقال: رَعَى الماشيةُ الكَلأ، ترعاها رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ: "نُرْتع" رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل:
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله: [الطويل]

3059ـ ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سَلِيماً وعَامِراً .....................

ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في "نَرْتَعي" مع جزم "يَلْعَب" وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد:

3060ـ ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي......................

وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و"نَرْتَع" يحتمل أن يكون وزنه: نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال: [الخفيف]

3061ـ تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَا رِ فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ

ويحتمل أن يكون وزنه "نَفْعَل" من رَتَعَ يَرْتَع: إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى: "القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة"؛ وقال الشاعر: [الوافر]

3062ـ أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّيوبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا

قوله: { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }: جملة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟.
فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإعمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله: { أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } فاعل: "يَحْزُنُنِي"، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ "أن تذْهَبُوا" مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا "ليَحْزُنُنِي" حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو مُحل وأجيبَ عن ذلك بأنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير: ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن: "ليَحْزُنِّي" بالإدغام.
وقرأ زيد بن علي: "تُذْهِبُوا بِهِ" بضم التَّاء من "أذْهَبَ" وهو كقوله: { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون:20] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتِ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤب؛ قال: [الطويل]

3063ـ وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ

وأرضٌ مذْأبة: كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.
وقوله: { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }: جملة حاليَّة، العامل فيها: "يَأكلهُ".
فصل
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين:
أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحْزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني: خَوْفه عليه من الذِّئب إذا غفلوا عنه برعيهم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فلأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا الكلام، أجابوه بقولهم: { لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وفائدة اللام في "لَئِنْ" من وجهين:
أحدهما: أن كلمة "إنْ" تفيد كون الشَّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام دخلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني: قال الزمخشري ـرحمه الله ـ "هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين".
والواوُ في: "ونَحْنُ عُصْبَةٌ" واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: "وَنحْنُ عُصْبةٌ": جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } جواب القسم، و"إذاً": حرف جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.
فصل
ونقل أبو البقاء: أنه قرىء "عُصْبَةً" بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم: { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله ـ تعالى ـ:
{ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [المؤمنون:34] أي: لعاجزون.
الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع: أنَّهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل: إنَّ يعقُوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.