التفاسير

< >
عرض

وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٥
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
٢٦
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
٢٧
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
٢٨
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ
٢٩
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } [الآية:23] أعلم أنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في غاية الجمال، فلما رأته المرأةُ؛ طمعت فيه.
"وَرَاوَدتْهُ"، أي طالبته برفقٍ ولين قول، والمُراودَةُ: المصدرُ، والرِّيادةُ: طلب النِّكاحِ، يقال: رَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، وراودته عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء، ومشى رويداً، أي: برفقٍ في مِشْيتهِ، والرَّودُ: الرِّفقُ في الأمورِ، والتَّأنِّي فيها، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك.
والمِرْودةٌ هذه الآية منه، والإرادة منقولة من رَادَ يَرُوُد إذا سعى في طلب حاجة، وتقدَّم ذلك في البقرة:[26].
وتعدى هنا بـ"عَنْ"؛ لأنه ضمن معنى خادعتهُ، أي: خادعته عن نفسه، والمفاعلة هنا من الواحدِ، نحو: داويت المريض، ويحتملُ أن تكون على بابها، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق، هي تطلبُ منه الفعل، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ.
والتشديدُ في "غَلّقتْ" للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ، أي: أغلقت الأبواب وكانت سبعةً.
قال الواحدي: "وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف، فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [هذا الفعل] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً، ومع الخوف الشديد".
قوله: "هَيْتَ لَكَ" اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟.
فقيل: معربةٌ من القبطيَّة بمعنى: هلمَّ لك، قاله السديُّ. وقيل: من السِّريانيَّة، قاله ابن عبَّاس، والحسن. وقيل: من العبرانية، وأصلها: هَيْتَلخَ أي: تعاله فعربه القرآن، قاله أبو زيدٍ الأنصاري. وقيل: هي لغة حورانيَّة وقعت [إلى أهل] الحجاز، فتكلموا بها، معناها: تعال، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنَّها عربيةٌ.
قال مجاهدٌ: هي كلمةٌ حثِّ، وإقبال. ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعليتها وفي بعضها اسميتها، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها.
فقرأ نافع، وابن ذكوان: "هِيْتَ" بكسر الهاءِ، وسكون الياءِ، وفتح التَّاء.
وقرأ ابن كثير "هَيْتُ" بفتح الهاء، وسكون الياء، وتاء مضمومة. وقرأ هشام "هِئْتُ" بكسر الهاءِ، وهمزة ساكنة، وتاء مفتوحة، أو مضمومة. وقرأ الباقون: "هَيْتَ" بفتح الهاء، وياء ساكنة، وتاء مفتوحة. فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ.
وقرأ ابن عباسٍ، وأبو الأسود، والحسنُ، وابن محيصن بفتح الهاء، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.
وقرأ ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضاً: "هُيِيْتُ" بضمِّ الهاءِ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة "حُيِيْتُ". وقرأ زيد بن علي، وابن إبي إسحاق: بكسر الهاء، وياء ساكنة، وتاء مضمومة، فهذه أربع قراءات في الشاذ، فصارت تسع قراءات.
وقرأ السلمي، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، يعنى تهيأت لك، وأنكره أبو عمرو، والكسائي، ولم يحك هذا عن العربِ، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاسٍ "هُيِيْتُ" بزنة، "حُيِيْتُ" وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء، أم بالهمز، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً، نحو: أين، وكيف، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها بـ"حَيْثُ"، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين كـ:"جَيْر"، وفتح الهاء، وكسرها لغتان، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس "هُيِيْتُ" بزنة: "حُيِيْتُ" فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من "هَيَّأتُ الشَّيءَ".
ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء، وضمَّ التاء، فتحتمل أن تكون فيه اسم فعل [بنيت على] الضم، كـ"حَيْثُ"، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم، من: هاء الرَّجل يَهيءُ، كـ "جَاء يَجِيءُ"، وله حينئذ معنيان:
أحدهما: أن يكون بمعنى: حسُنت هيئته.
والثاني: أن يكون بمعنى تَهَيَّأ، يقال: "هَيُئْتُ، أي: حَسُنَتْ هَيْئتي، أوْ تَهَيَّأتُ".
وجواز أبو البقاءِ: أن تكون "هِئْتَ" هذه من: "هَاءَ يَهَاءُ" كـ "شَاءَ يَشَاءُ".
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز، وفتح التَّاء، فقال الفارسي: يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله: "وَرَاودَتْهُ"، و"أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ"، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بنُ أبي طالب: "يجبُ أن يكون اللفظ "هِئْتَ لي" أي: تهَيَّأتْ لِي، ولم يقرأ بذلك أحدٌ، وأيضاً: فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [لم يزل] يفرُّ منها، ويتباعد عنها، وهي تراوده، وتطلبه، وتقدُّ قميصه، فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟".
وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى: تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هَيْأتُكَ. و "لَكَ" متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ، كأنها قالت: القول لك، أو الخطاب لك، كهي في "سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ".
قال شهابُ الدِّين: "واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً، فإنَّها حينئذٍ تتعلق بالفعل، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر". وقال أبو البقاءِ: "والأشبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً، لأنَّ ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ". وهو فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها، وإنَّما تَهيَّأتْ لهُ.
الثاني: أنه قال: "لَكَ"، ولو أراد الخطاب لقال: "هِئْتَ لي"، وتقدم جوابه وقوله: "إنَّ الهمزة بدلٌ من الياءِ". هذا عكس لغة العرب، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو: "بِير" و"ذِيب" ولا يقلبون الياء المكسور ما قبلها همزة، نحو: مِيل، ودِيك، وأيضاً: فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها، كالكلام في قراءة هشامٍ.
واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه.
ثمَّ إنَّهُ ـ تعالى ـ أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام، قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ { مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } "مَعاذَ اللَّهِ" منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ، أي: أعوذُ بالله معاذاً، يقالُ: عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [وعِيَاذةً]، ومعاذاً، وعوْذاً؛ قال: [الطويل]

3075ـ مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ

قوله "إنَّهُ" يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن، وما بعده جملة خبرية له، ومراده بربه: سيِّده، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى، و"ربِّي" يحتمل أن يكون خبرها، و"أحسنَ" جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ، وأن تكون مبتدأ، "وأحْسنَ" جملة خبرية له، والجملة خبر لـ"إنَّ" وقرأ الجحدريُّ، وأبو الطفيل الغنوي "مَثْويَّ" بقلب الألف ياء، وإدغامها كـ "بُشْرَيَّ" و"هُدَيَّ".
و: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛ فعلى قولنا: إنَّ الضمير في قوله: { إِنَّهُ رَبِّيۤ } يعود إلى زوجها قطفير، أي: إنه ربِّي سيِّدي، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها: { أَحْسَنَ مَثْوَايَ }، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل: إنها راجعةٌ إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ أي: أنَّ الله ربي أحسن مثواي، أي: تولاَّنِي، ومن بلاء الجبّ عافاني: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } يعني: إن فعلتُ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي، فأنا ظالمٌ، ولا يفلحُ الظالمُونَ.
وقيل: أراد الزناة؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه.
فصل
ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات:
الأول: أن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان حراً، وما كان عبداً، فقوله: { إِنَّهُ رَبِّيۤ } يكون كذباً، وذلك ذنبٌ وكبيرة.
والجواب: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً.
وأيضاً: إنَّه ربه، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة، فعنى بقوله: { إِنَّهُ رَبِّيۤ } كونه مربياً وهو من باب المعاريض الحسنةِ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه.
السؤال الثاني: ذكر يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: "مَعَاذ اللهِ".
والثاني: قوله: { إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ }.
والثالث: قوله: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض؟.
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسن؛ لأن الانقياد لأمر الله ـ تعالى ـ وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه، وألطافه في حق العبدِ، فقوله: { مَعَاذَ ٱللَّهِ } إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ.
وأيضاً: حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي، فيقبحُ معامله [إنعامه] بالإساءة.
وأيضاً: صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب، وهذه اللذَّة قليلة، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها، لقوله: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه: الترتيب.
السؤال الثالث: هل يدلُّ قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ "مَعاذَ اللهِ" على صحَّةِ القضاء والقدر؟.
والجوابُ: أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل، والقدرة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله ـ تعالى ـ، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع، وأنَّه محالٌ، فعلمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله ـ تعالى ـ لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة، وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية، وهو المطلوبُ.
ويدلُّ على ذلك:
"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع بصره على زينب قال: يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك" وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة، وإزالة داعية المعصية، فكذا هنا.
وكذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ" . قال: والمراد من الأصبعين: داعية الفعل وداعية التَّركِ، وهَاتانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله ـ تعالى ـ وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسلُ؛ فثبت أن قول يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "مَعَاذَ اللهِ" من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ، والقدرِ.
قوله تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [الآية:24] جواب "لولاَ" ما تقدَّم عليها، وقوله: "وهَمَّ بِهَا" عند من يجيزُ تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم: "أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ"، أي: فعلت، فأنت ظالمٌ، ولا تقول: إن "أنت ظَالمٌ" هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله: "بُرْهَانَ ربِّه" والمعنى: لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همٌّ ألبتَّة، كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى: إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري: "فإن قلت: قوله: "وهمَّ بِهَا" داخل تحت القسم في قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أم خارج عنه؟. قلت: الأمران جائزان، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ويبتدىء قوله: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت: لِمَ جعلت جواب "لَوْلاَ" محذوفاً يدلٌّ عليه: "هَمَّ بِهَا"، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟.
قلت: لأن "لوْلاَ" لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جائزٌ".
فقوله: "وأما حذف بعضها....إلخ" جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال: فإن قلتَ لمَ جعلتَ "لَوْلاَ" متعلقة بـ"هَمَّ بِهَا" وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا }؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما؟
قلتُ: نعم ما قلت: ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } اهـ.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي: كون قوله: "لَوْلاَ" متعلقة بـ"هَمَّ بِهَا" فإنه قال: ولو كان الكلام "لَهمَّ بِهَا" لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [يعني] الزجاج أنه: لا جائز أن يكون "هَمَّ بِهَا" جواباً لـ: "لَوْلاَ"؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ: ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله: [ولو كان] الكلام: "ولهمَّ بِهَا" فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب "لَوْ"، و"لَوْلاَ" مثبتاً جاز فيه الأمران: اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ باللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال: "قول من قال: إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ }، وأن جواب "لَوْلاَ" في قوله: "وهَمَّ بَهَا"؛ وأنَّ المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف".
فقوله: "يردُّه لسانُ العرب" فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله:
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } [القصص:10] فقوله: { إِن كَادَتْ } إمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.
فصل
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا: عزمُها على المعصية، وأما همُّه: فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
وعن مجاهدٍ ـرحمه الله ـ أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين ـ رضي الله عنهم ـ.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين: إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا: تم الكلام عند قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ }، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } على التَّقديمِ، والتَّأخير، أي: لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ: "وأنكره النُّحاة، وقالوا: إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ "لَوْلاَ" عن الفعلِ فلا يقولون: قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقُمْتُ".
وذكر ابنُ الخطيبِ عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ: "قال المفسِّرُون: هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: طمعت فيه، وطمع فيها".
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكُر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمَّا قال:
{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [يوسف:52] قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك: "ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي".
وقال بعضُ العلماءِ ـ رضي الله عنهم ـ: الهَمُّ همَّان:
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني: غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا }، فهمُّهُ ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان خُطُوراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [يوسف:23]، { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [يوسف:25].
ويشهد للثاني قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ
"إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ ـ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قال: لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ" .
قال ابن الخطيب: وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين: إنَّ يُوسفَ ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوهاً:
الأول: أن الزِّنا من منكراتِ الكبائرِ، والخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً: الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إلى زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ } وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ماهيَّة السُّوء، وماهية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحكمة الله ـ تعالى ـ أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك مستنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ: فإن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً: فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
فأمَّا يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فادَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال: { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [يوسف:26] و
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف:33] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة: { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } [يوسف:32] وقالت: { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف:51] وأمَّا زوج المرأة فقوله: { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } [يوسف:28ـ 29].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [يوسف:26].
وأمَّا شهادة الله ـ تعالى ـ بذلك فقوله: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [يوسف:24] فقد شهد الله ـ تعالى ـ في هذه الآية على طهارته أربع مرات:
أولها: قوله: { لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ }.
وثانيها: قوله: { لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ }.
والثالث: قوله: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا } مع أنه تعالى قال:
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا } [الفرقان:63].
والرابع: قوله: "المُخْلصِينَ"، وفيه قراءتان تارة باسم الفاعل، وأخرى باسم المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله ـ تعالى ـ استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته، وعلى كل [وجه] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله:
{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص:82ـ83] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريق الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية [يقع] في مقامين:
المقام الأول: أن نقول: إنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما همَّ بها، لقوله تعالى: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }، وجواب "لَوْلاَ" ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ: قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين:
الأول: أن تقديم جواب "لَوْلاَ" شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ.
الثاني: [أنَّ] "لَوْلاَ" يجابُ جوابها باللاَّمِ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال: ولقد همَّت به، ولهم بها لوْلاَ.
وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً، وهو: أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله: { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة.
واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [لا] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب "لَوْلاَ" حسنٌ جائزٌ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال: "إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ"، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم، والتَّأخير مربوطاًً بشدَّة الاهتمام، فأمَّا تعيينُ بعض الألفاظِ بالمنع، فذلك ممَّا لا يليقٌ بالحكمةِ، وأيضاً ذكرُ جوابِ "لَوْلاَ" باللاَّم جائزٌ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى:
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [القصص:10].
وأما قوله: لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة.
فنقولُ: بل فيه أعظم الفوائدِ: وهو بيان أنَّ ترك الهمِّ بها ما كان لعدم رغبته في النِّساءِ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: الذي يدلُّ على أنَّ جواب: "لَوْلاَ" ما ذكرناه أن "لَوْلاَ" تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: إنَّا نضمر له جواباً، وتركُ الجواب ذكر في القرآن، فنقول: لا نزاع أنه ذكر في القرآن، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً.
وأيضاً: فالجواب إنَّما يحسن تركه، وحذفه، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات، يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ.
المقام الثاني: سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول: إن قوله: "وهمَّ بِهَا" لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه:
الأول: المراد أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ همَّ بدفعها عن نفسه، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ، فوجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة، والتَّمتُّع، وأليق بالرسُولِ المبعوث إلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،
يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة قلنا: بل فيه أعظمُ الفوائد، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه ـ تعالى ـ أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله ـ تعالى ـ أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله ـ تعالى ـ أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب: أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه: لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه: هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا.
والمعنى: لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، وتهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله: أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم في الصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين.
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم:
"ما كَذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ" : فقلت: الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له: يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي: ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين. والله أعلم.
فصل
اختلفوا في البرهان ما هو؟.
فقال المحققون المثبتون للعصمة: رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ:
الاول: أنه حجَّة الله ـ تعالى ـ في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب.
الثاني: أن الله تعالى ـ طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول: إنه ـ تعالى ـ، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } [الأحزاب:33] والمراد برؤية البرهان: هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات.
الثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت:
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [الإسراء:32].
الرابع: أنَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكابِ الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله
{ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:2] وايضاً: فإن الله ـ تعالى ـ عيَّر اليهود بقوله { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة:44] وما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات.
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً:
الأول: أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ، [ولم؟ قالت: أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف:] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ.
الثاني: نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له: لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فاستحى منه. قالوا: وهو قول عكرمة، ومجاهدٍ، الحسن، وسعيد بن جبير.
وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ تمثَّل له يعقوب، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
الثالث: قالوا: إنَّه سمع في الهواء قائلاً: يا بْنَ يعقوب، لا تكن كالطَّير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه.
الرابع: نقلوا عن ابن عباس أن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج.
قال ابنُ الخطيب: "ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له: إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه، وأيضاً: فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً.
وأيضاً: روي أن جبريل عليه الصلاة والسلام امتنع من دخول حجرة النبي المختار ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [عليه] أربعين يوماً، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل ـ عليه السلام ـ، ولو أنَّ أفسق الخلق، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ذلك] العمل وهاهنا يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ عضّ على أنامله، فلم يلتفت، ثمَّ إنَّ جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ على جلالة قدره دخل عليه، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره".
فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، والخذلان في طلب اليقين.
فصل
والفرق بين السوء، والفحشاء من وجهين:
الأول: أنَّ السوء: جناية اليد، والفحشاء: الزِّنا.
الثاني: السُّوء: مقدمات الفاحشة من القُبلةِ، والنَّظر بالشَّهوة. والفحشاءُ: هو الزنا.
قوله: "وكَذلِكَ" في هذه الكاف أوجه:
أحدها: أنَّها في محل نصبٍ، وقدَّره الزمخشريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه.
وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك، وقدَّره ابنُ عطيَّة: جرت أفعالنا، وأقدارنا كذلك، وقدره أبو البقاء: نراعيه كذلك.
الثاني: أن الكاف في محل رفع، فقدَّره الزمخشريُّ، وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك، وقدَّره ابنُ عيطة: عصمته كذلك. وقال الحوفيُّ: أمر البراهين بذلك ثمَّ قال: والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها.
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً، وتأخيراً، تقديره: همَّت به، وهمَّ بها كذلك ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة.
وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم، والتَّأخير لا معنى لما ذكره.
قال أبو حيَّان: وأقولُ: إنَّ التقدير: مثل تِلْك الرُّؤية، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا، لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي، أو الرُّؤيةِ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله: { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }، و"لِنَصْرفَ" متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف، ومصدر "رَأى"رُؤيةٌ ورأيٌ"؛ قال: [الرجز]

3067ـ ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا [يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا]

وقرأ الأعمش "ليَصْرِفَ" بياء الغيبةِ، والفاعل هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ قوله تعالى: { ٱلْمُخْلَصِينَ } قرأ هذه اللفظة [حيث وردت] إذا كانت معرفة بأل مكسورة اللام: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر أي: الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ، والمفعول محذوفٌ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخلصهم الله، أي: اجتباهم، واختارهم، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم: { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ص:46].
وقرأ الكوفيُّون في مريم
{ إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [مريم:51] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المتقدم والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
قوله تعالى: { وَٱسُتَبَقَا ٱلْبَابَ } [الآية:25] "البَابَ" منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ "اسْتبَقَ" أن يتعدَّى بـ"إلى"، وإما على تضمين "اسْتَبقَ" معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى: { وَقَدَّتْ } يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على "اسْتبقَا" أي: استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قدَّت. والقدّ: الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم: القدُّ: فيما كان يشقُّ طولاً والقطُّ: فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية "وقرأت فرقة: وقَطّ" قال أبو الفضل بنُ حربٍ: رأيت في مصحف "وقطَّ مِنْ دبُرٍ" أي: شقَّ.
قال يعقوب: القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر: [الطويل]

3077ـ تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ

فصل
قال العلماء ـ رضي الله عنهم ـ وهذا الكلامُ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج "وقدَّتْ قَميصَهُ" [أي]: فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ: طلبُ السَّبْق، أي: يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف ـ عليه السلام ـ إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا "ألْفَيَا"، أي: وجدا "سيِّدهَا"، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة "لَدى البابِ" أي: عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها: سيِّدي.
فإن قيل: فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب: أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرأة من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ: "والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال: ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، كلٌّ بمعنى واحدٍ".
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمةِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف ـ عليه السلام ـ بالفعلِ القبيح، { وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: { إلاَّ أن يُسجنَ }، أي: يحبس، { أوْ عذابٌ أليمٌ } أي: يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله: "مَا جزاءُ" يجوز في "مَا" هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و"مَنْ" يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله: { إلاَّ أن يُسجنَ } خبر المبتدأ، ولما كان "أن يُسْجنَ" في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله: "أوْ عذابٌ". و "أوْ" تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن عليّ: (أو عذاباً أليماً) بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله: "هِيَ"، ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحيائه، وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.
فصل
قال ابن الخطيب: في الآية لطائف:
إحداها: أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنَّها بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً: لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت: { إلاَّ أن يُسجنَ } والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبَّر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين هدَّدهُ
{ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } [الشعراء:29] وأيضاً: لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول: إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً: يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [وكان] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها: { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوسف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: { هي راودتني عن نفسي } واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف:
منها: أنَّ يوسف ـ عليه السلام ـ في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها: أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها: أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها: أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها: أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه ـ تعالى ـ أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة، وهو قوله تعالى: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } فقوله: "مِنْ أهْلِهَا" صفة لـ: "شَاهِدٌ"، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا: قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ:
الأول: أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان مع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ: { إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ }، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، { وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ }، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها: { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [أي: من عَملكن] ثم قال ليوسف: "أعْرِضْ عَنْ هَذَا" أي اكتمهُ، وقال لها: { وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ }، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي: وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى:
{ وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف:18] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى: { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ: "انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ" .
قال السهيلي: كان عامر بن الظرب العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحكم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال: لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له: "اتْبَع القضاء المَبال" فقال: فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني: منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك ـ رضي الله عنهم ـ أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس ـ رضي الله عنه ـ: تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ: شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ: القول الأول أولى لوجوه:
الأول: أنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله: "إنَّها كَاذبةٌ" كافياً، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني: أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو كان هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث: أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث: أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ الشاهد: "قُدَّ قيمصه من دُبُر"، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه: أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله: "إنْ كَانَ..." هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره: "فقال" إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة "لِشَهدِ"؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله "مِنْ دُبرٍ.."، و "مِنْ قُبُلٍ..." قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى: من خلف، من قدام، أي: من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين العين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وابن يعمر] أيضاً بسكون العين وبنائهما على الضم ووجه ضمهما: أنَّهم جعلوهما كـ"قَبلُ، وبعْدُ" في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية: أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم: وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري: "والمعنى: من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه: من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ" وعن ابن أبي إسحاق: أنَّهُ قرأ "مِنْ قُبْلَ"، و"مِنْ دُبْرَ" بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعلمية، والتَّأنيث، وقد تقدم [البقرة:235] الخلاف في "كان" الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟.
قوله: "فَكذَبَتْ"، و"صَدقَتْ" على إضمار"قَدْ"، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاً، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى "قَدْ" لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله: { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ }: أي: فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال لها: "إنَّهُ"، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } { مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } وقيل: هذا من قول الشاهد.
فإن قيل: إنه ـ تعالى ـ قال:
{ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً: فكيدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟.
فالجواب عن الأوَّل: أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً: فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكْرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف: "أعْرِضْ عَنْ هَذَا" الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل: إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة ["واستغفري لِذنبكِ" إي: إلى الله { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } وقيل هذا من قول الشاهد] "واسْتَغفِري"، أي: اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ: إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل: إنَّ الله ـ تعالى عزَّ وجلَّ ـ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري: "وإنما قال: { مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ }؛ تغليباً للذكور على الإناث" ويحتملُ أن يقال: إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي ـرحمه الله ـ: تقديره: إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى:
{ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } [التحريم:12]، بيانه قوله: { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } [النمل:43].
قوله تعالى: "يُوسُفُ"، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ: "لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله" انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء: فيها وجهان:
أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر: [الخفيف]

3078ـ.................. يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي

يريد بأصلِ المنادى: أنه مفعولٌ به، فحقه النصب؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه: أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها؛ فصار اللفظ بها: "يُوسفَ أعْرض"؛ وهذا كما حكي: "اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ"، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي "أكْبر"، وفي "أشْهد"؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [من] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في "أكْبَر" خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف،و تقدم ذلك في سورة آل عمران [الآية:1].
وقرىء "يُوسفُ أعْرضَ" بضمِّ الفاءِ، و"أعْرضَ" فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون "يُوسفُ" مبتدأ، و"أعْرضَ" جملة من فعلٍ وفاعلٍ خبره.
قال أبو البقاءِ: وفيه ضعفٌ؛ لقوله: "واسْتَغْفرِي"، وكان الأشبه أن يكون بالفاء: "فاسْتَغفِري".