التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ
٣٥
وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ }، في [فاعل "بدا"] أربعةُ أوجه:
أحسنها: أنَّه ضميرٌ يعود على "السَّجْن" فتح السِّين، أي: ظهر لهم حبسُه؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ بـ "السِّجْن" في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ "السَّجْن" في قراءة من فتح السين.
والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل؛ وهو "بَدَا"، أي: بدا لهُم بداءٌ، وقد صرَّح الشاعرُ به في قوله: [الطويل]

3105ـ................. بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ

والثالث: أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ، أي: لهم رأيٌ.
والرابع: أنَّ نفس الجملة من "لَيَسْجننَّهُ" هي الفاعل، وهذا من أصولِ الكوفيين، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ.
فإذا قلت: "خَرَجَ ضَرَبَ"، لم يفذْ ألبتة، فقدَّروا: ثُمَّ بدا لهم سجنهُ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم.
قال ابنُ الخطيب: الاسمُ قد يكون خبراً؛ كقولك: زيدٌ قائمٌ، فـ "قائم" اسمٌ وخبرٌ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً، لا ينافي كونه مخبراً عنه، وفي هذا الباب شكوكٌ:
أحدها: أنَّا إذا قلنا: "ضَرَبَ فَعَلَ"، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب، فالفعل صار مُخْبراً عنه.
فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغةُ، وهذه الصيغة اسم، فنقول: فعلى هذا التقدير؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم، لا فعلٌ، وذلك كذبٌ باطلٌ، بل نقول: المخبر عنه بأنه فعلٌ: إن كان فعلاً، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه، وإن كان اسماً، كان معناه: أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ، وذلك باطلٌ.
و"حتَّى": غاية لما قبله، وقوله: "ليَسْجُنُنَّهُ"؛ على قول الجمهور: جوابٌ لقسم محذوفٍ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: ظهر لهم كذا قائلين: والله، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ.
وقرأ الحسن: "لتَسْجُنُنَّهُ"، بتاء الخطاب، وفيه تأويلان:
أحدهما: أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك.
والثاني: أن يكون خُوطبَ به العزيزُ؛ تعظيماً له.
وقرأ ابنُ مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: "عَتَّى" بإبدال حاءِ "حتَّى" عيناً، وأقرأ بها غيره، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فكتب إليه: "إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بلُغتِهِمْ" وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ.
فصل في معنى الآية
المعنى: ثُمَّ بَدَا للعزيزِ، وأصحابه في الرأي؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر "يُوسفَ" على الإعراض عنه، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ "يُوسفَ" من: قدِّ القميصِ، وكلام الشَّاهِد، وقطع النساءِ أيديهنَّ، وذهابِ عقولهنَّ "ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ": إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم.
وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهم ـ: إلى أن تنقطع قالة النَّاس، قال عكرمةٌ: تِسْع سِنينَ، وقال الكلبيُّ: خمس سنين.
قال السديُّ: وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها: إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج، فأعتذرَ إلى الناسِ، وإما أن تحبسه، فحبسه.
قال ابنُ عبَّاس ـ عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ: حِينَ هَمَّ بها؛ فسُجِنَ، وحين قال: { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [يوسف:42]؛ { فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف:42]، وحين قال لإخوته:
{ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [يوسف:70]؛ { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [يوسف:77].
قوله: { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانَ } [يوسف:36] قيل: هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر:
أحدهما: خَبَّازٌ، صاحبُ طعامه.
والآخرُ: صاحبُ شَرابه، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما.
قوله: "قَالَ أحَدهُمَا": مُسْتأنفٌ لا محلَّ له، ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدُّخولِ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا، و"إنِّي" وما في حيِّزه: في محل نصبٍ بالقول.
و"أَرَانِي": مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية؛ فتكون الجملة من قوله: "أعْصِرُ" في محلِّ المفعول الثاني، ومن منع، كانت عنده في محلِّ الحالِ.
وجرت الحلمية مجرى العلمية ـ أيضاً ـ في اتحاد فاعلها، ومفعولها ضميرين متَّصلين؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ؛ فإنَّ الفاعل والمفعول مُتَّحدانِ في المعنى؛ إذ هما للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماً، ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر.
لا تقول: "أكْرَمتُنِي"، ولا "أكرمتَك"، ولا "زيدٌ أكْرمَهُ"؛ فإن أردت ذلك، قل: أكْرمْتُ نَفْسِي، أو إيَّاي ونفسكَ، أوْ [أكْرَمْتَ] إيَّاك ونفسهُ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك.
وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية، تعدت لثالثٍ، وتقدم هذا في قوله تعالى:
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } [الأنفال:43].
والخَمْرُ: العِنَبُ، أطلق عليه ذلك؛ مجازاً؛ لأنه آيلٌ إليه؛ كما يطلق الشيء على الشيء؛ باعتبار ما كان عليه؛ كقوله
{ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } [النساء:2]، ومجاز هذا أقربُ، وقيل: بل الخَمْرُ: العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ، وإزْدِ عمان.
وعن المُعْتَمر: لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ، فقلتُ: ما تحمل؟ قال: خَمْراً.
وقراءة "أبيِّ"، وعبد الله: "أعْصِرُ عِنَباً"، لا تدلُّ على الترادف؛ لإرداتهما؛ التفسير، لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبد الله: "فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً"، فإنه أراد التَّفسيرَ فقط.
و"تَأكُلُ الطَّيْرُ": صفةٌ لـ "خُبْزاً"، و"فَوْقَ" يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ، وأن يتعلق بمحذوفٍ، حالاً من "خُبْزاً" إلاّ أنه في الأصل صفة له، والضمير في قوله"نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ": قال أبو حيَّان: "عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ؛ كأنَّه قيل: تأويله ما رَأيْتَ".
وقد سبقه إليه الزمخشريُّ، وجعله سُؤالاً، وجواباً، وقال غيره: إنَّما واحد الضمير؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال: نبئنا مارأيتُ.
و"تُرْزَقانِهِ": صفةٌ لـ"طَعَامٌ"، وقوله "إلاَّ نَبَّأتُكُمَا": استثناء مفرَّغٌ، وفي موضعِ الجملة بعدها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وساغ ذلك من النكرةِ؛ لتخصُّصها بالوصف.
والثاني: أن تكون في محلِّ رفعٍ؛ نعتاً ثانياً لـ "طَعَامٌ".
والتقدير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله، أو مُنَبَّأٌ بتأويله، و"قَبْلَ" الظاهرُ أنَّها ظرفٌ لـ "نَبَّأتُكُمَا"، ويجوز أن يتعلق بتأويله، أي: نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه.
فصل
قيل: إنَّ جماعة من أهل مصر، أرادوا المكر بالملك، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً، ليَسُمَّا الملك في طعامه، وشرابه، فأجاباهم، ثمَّ إن الساقي نكل عنه، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام، فلما أحضروا الطعام، قال السَّاقي: لا تأكلْ أيُّها الملك؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ، وقال الخبَّازُ: لا تشربْ أيها الملكُ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ، فقال الملك للساقي: اشربْ، فشربهُ فلم يضرُّه، وقال للخبَّاز: كل من طعامك، فأبى، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة، فأكلتهُ: فهلكتْ؛ فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف حين دخل السِّجن، جعل ينشر علمه، ويقول: إنِّي أعبِّر الأحلام، فقال أحدُ الفتيين لصاحبه: هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيَّ، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأياً شيئاً.
قال ابنُ مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: "مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ" ـ عليه السلام ـ.
وقيل: بل رأيا حقيقة، فرآهما يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فذكرا أنَّهما صاحبا الملك ـ حبسهما ـ وقد رأيا رؤية همَّتهما، فقال يوسف ـ صلوات الله، وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ: قُصَّا عليَّ ما رأيتما! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه.
وتأويلُ الشَّيء، ما يرجعُ إليه، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر.
ثم قالا: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }: في أمر الدين، أي: نراك تُؤثِرُ الإحسانَ، وتأتي مكارمَ الأخلاق.
وقيل: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } في علم التعبير؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء.
[وقيل: إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب].
فصل في حقيقة علم التعبير
وحقيقة علم التَّعبير: أنه ـ تعالى ـ خلق جوهر النَّفس الناطقة، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ، والمانعُ لها من ذلك: اشتغالها بتدبير البدنِ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال، يقوى على هذه المطالعة، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال، تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني، إلى علم الخيال، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة.
قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ:
"الرُّؤيَا ثلاثةٌ: رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ" .
فصل
في قوله يوسف ما أحبني أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له: رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ، قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسفُ: ناشدتكما، لا تُحِبَّاني؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي، فدخل عليَّ بلاءٌ، ثم أحبَّني أبِي، فألقيتُ في الجبِّ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز، فحُبِسْتُ.
فلما قصَّا عليه الرؤية، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره، من إظهار المعجزة، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ.
فقال: { لا يأتيكما طعام ترزقانه } قيل: أراد به في النوم، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ، وقيل: أراد به في اليقظةِ؛ فقوله { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في منازلكما تطعمانه، وتأكلانه "إلاَّ نَبَّأتُكمَا" أخبرتكما "بتأويلهِ" بقدره، ولونه، والوقت الذي يصلُ إليكما، قبل أن يصل، وأيَّ طعام أكلتم، وكم أكلتم ومتى أكلتم.
وهذا مثلُ معجزةِ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيثُ قال:
{ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [آل عمران:49].
فقال: هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ، فمن أين لك هذا العلم؟.
فقال: ما أنا بكاهنٍ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي.
ثم قال: { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }، وفي سؤالٌ:
وهو قوله: { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } يوهمُ أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان في هذه الملَّة؟.
والجوابُ من وجوه:
الأول: أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء، وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه.
والثاني: أن يقال: إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عبداً لهم ـ بحسب زعمهم ـ ولعلَّه ـ قبل ذلك ـ كان لا يظهرُ التوحيد، والإيمان؛ خوفاً منهم، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
قوله: (إني تركت) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة، أخبر بذلك عن نفسه، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله: { ذلك مما علمني ربي }، أي: تركي عبادة غير الله، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب، و "لا يُؤمِنُونَ": صفةٌ لـ "قومٍ".
وكرَّر "هُمْ" في قوله: { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }؛ قال الزمخشريُّ: "للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها".
قال أبُوا حيَّان: "وليستْ "هُمْ" عندنا تدلُّ على الخُصوصِ".
قال شهابُ الدِّين: "لم يَقُل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ، وإنَّما قال: "وتكرير "هُمْ" للدلالةِ على الخصوصِ" فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنًى حسنٌ".
وقيل: كرَّر "هُمْ"؛ للتوكيد.
وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ: "آبَائِي"، ورويت عن أبي عمرٍو، وإبراهيم، وما بعده: بدلٌ، أو عطفُ بيانِ، أو منصوبٌ على المدح.
قوله { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }، لمَّا ادَّعى النبوة، وتحدَّى بالمعجزة ـ وهوعلمُ التَّعبير ـ قرَّر كونه من أهل النبوة، وأنَّ أباه وأجداده كانوا أنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده، لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً: فكما أنَّ درجة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإسحاق، ويعقوب، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنَّهُ ولدهم، عظَّموه، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه.
فإن قيل: إنَّه كان نبيَّا، فكيف قال: { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ }، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه؟.
فالجواب: لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر، ولعله كان رسُولاً من عند الله؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم ـ صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين ـ.
قوله: { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } فيه سؤال:
وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك؟.
والجواب: ليس المراد بقوله: "مَا كَانَ لنَا" أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم، بل المرادُ أنه ـ تبارك وتعالى ـ طهَّره، وطهر آباءه عن الكفر؛ كقوله
{ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [مريم:35].
قوله: "مِنْ شيءٍ" يحوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإشراك، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك، أي: ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكٍ، أو إنسٍ، أو جنٍّ، فكيف بصنَمٍ؟.
و"مِنْ" [مزيدة] على التَّقديرين؛ لوجود الشرطين.
ثم قال: "ذلِكَ" أي: التَّوحيد والعلمُ { مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ }، بِمَا بيَّن لهم من الهدى؛ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } نعم الله على الإيمان.
حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر، وقال له: يا هذا: هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا؟ فإنْ قلت لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته، فكيف تشكرهُ على ما ليس فعلاً له؟.
فقال له بشرٌ: إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا: القدرة، والعقل، والآلة، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً، فذلك باطلٌ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ، وقال: إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان، بل اللهُ يشكرنا عليه؛ كما قال تعالى:
{ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [الإسراء:19] فقال بشرٌ: "لمَّا صعب الكلامُ، سهُلَ".
قال ابنُ الخطيب: "واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ؛ بنص هذه الآية؛ لأنَّه ـ تعالى ـ بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ، وتكمُل الدلالة".
قال القاضي: قوله: "ذلِكَ" إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ، فهو من فضل الله ـ تعالى ـ لأنه إنما حصل بإلطافه، وتسهيله، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب: أنَّ "ذَلِكَ" إشارةٌ إلى المذكورِ السابقِ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله ـ تعالى ـ والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك.
قوله تعالى: { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ }: يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظرف؛ إذ الأصل: يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمفعول به، والمعنى: يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه؛ كقوله تعالى:
{ أَصْحَابُ النَّارِ } [الأعراف:44 ـ 50].
وقوله: { أَمِ ٱللَّهُ }، هنا: متًّصلةٌ؛ عطفت الجلالة على "أرْبَابٌ".
فصل
اعلم أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما ادَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبنينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما الشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفلكية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في المنع من هذه، وكان الأمرُ على هذا إلى زمانِ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ.
فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام؛ فقال: { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام: أنه ـ تعالى ـ بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفساد في هذا العالم؛ لقوله تعالى:
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الانتظام، وحسن الترتيب ـ قال هاهنا: { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }.
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم: أنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك.
ومعنى: كونهم متفرقين، أي: شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وهذا من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ.
{ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }، "الوَاحِدُ": لا ثاني لهُ، "القَهَّارُ" الغالبُ عل الكلِّ.
ثُمَّ عجز الأصنام، فقال: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً } أي: من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك.
فإن قيل: لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك؟.
فالجواب: لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً: الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى: أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحد القهار؟.
فإن قيل: كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله ـ تعالى ـ، حتَّى قيل: إنها خيرٌ أم اللهِ؟.
فالجوابُ: أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار؟.
قوله تعالى: { إِلاَّ أَسْمَآءً }، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي: ذواتُ المُسمَّيات، و"سَمِّتُمُوهَا": صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي: سَمَّيتُمُوها آلهة.
و"مَا أنْزَلَ": صفةٌ لـ "أسْمَاء"، و"مِنْ": زائدةٌ في: "مِنْ سُلطَانٍ"، أي: حُجَّةٍ.
و"إن الحُكْمُ": "إنْ" نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء؛ كقوله:
{ وَقَالَتِ اخْرُجْ } [يوسف:31]، ونحوه؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌ، فهي فاصلةٌ بينهما.
فصل
قال في الآية: { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ }، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ.
والجوابُ: أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ؛ وبيانه من وجهين:
الأول: أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَّة في الحقيقة غير موجودٍ، ولا حاصلٍ.
الثاني: رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام، قالوا: نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها؛ لاعتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك.
فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه، فقال: أمَّا تسميتها بالآلهةِ، فما أمر الله بذلك ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة، ولا برهاناً، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ.
ثم إنه تعالى: { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ }: لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه: الخلقُ، والإحياءُ، والعقلُ، والرزقُ، والهدايةُ، ونَعمُ الله كثيرةٌ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهٍ.
ثم قال تعالى: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية، والمناسباتِ الكوكبيَّة؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ.
ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ، أنَّ المدبِّر [لحدوث] الحوادث في العالم، هو الشمسُ والقمر، وسائرُ الكواكب.
ثم إنه ـ تعالى ـ إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ، وعرف أنَّها في ذواتها، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ، مبدع قادرٍ، قاهر، عليم، حكيمٍ، فذلك الشخصُ يكون في غاية النُّدرةِ؛ فلهذا قال: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
قوله "أمَرَ" يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً، و"قد" معه مرادة عند بعضهم.
قال أبو البقاءِ: وهو ضعيفٌ لضعف العامل فيه.
يعني بالعامل: ما تضمنه الجَارُّ في قوله "إلاَّ الله" من الاستقرار.
قوله تعالى: { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي }، العامَّة على فتح الياء، من سقاه يسقيه، وقرأ عكرمة في رواية "فيُسْقِي" بضم حرفِ المضارعة من "أسْقَى" وهما لغتان، قال: سقاه، وأسقاه، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع، و
{ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [النحل:66]، وهل هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ؟.
ونقل ابنُ عطيَّة، عن عكرمة، والجحدريِّ: أنَّهما قرءا "فيُسْقَى ربُّهُ" مبنيًّا للمعفول، ورفع "ربُّهُ"، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط.
فصل
اعلم أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قرَّر التوحيد والنبوة، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر، ففسَّر رُؤياهما، فقال: { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا }، وهو صاحبُ الشَّراب "فيَسْقِي ربَّهُ": يعني الملك، وأما الآخرُ: يعنى الخبَّاز، فيدعوه الملكُ، ويخرجه، ويصلبه؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه.
قال ابنُ مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: "لمَّا سَمِعَا قول يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قالا: مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ"، قال يوسف: "قُضِيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ".
فإن قيل: هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكره؛ بناءً على أنَّ الوحي من قبل الله ـ تعالى ـ أو بناءً على علم التَّعبير.
والأول باطلٌ؛ لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نقل أنه إنَّما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال الله: { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا }، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي، كان الحاصلُ منه القطعُ واليقينُ، لا الظنُّ والتَّخمينُ.
والثاني ـ أيضاً ـ باطلٌ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ، والقضاءُ: هو الإلزامُ والجزمُ والحكمُ البتُّ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ؟.
والجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما سألاه عن ذلك المنام، صدقا فيه أو كذبا، فإنَّ الله ـ تعالى ـ أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [التَّعبير].
ولا يبعد ـ أيضاً ـ أن يقال: إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.
وقوله { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله: "قُضِيَ الأمْرُ" قال الزمخشريُّ: "ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ، بل في أمرين مختلفين، فما وجهُ التوحيدِ؟ قلتُ: المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك، وما سُجِنَا من أجله، والمعنى: فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان".
قوله تعالى: { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ }، فاعلُ "ظنَّ": يجوزُ أن يكون يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين؛ كقوله تعالى:
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [البقرة:46] و { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ } [الحاقة:20] قال الزمخشريُّ. يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف؛ إلاَّ أن يكون تأويله بطريق الاجتهاد، لأنه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ، كان يَقِيناً؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ، فيصح نسبتُه إلى يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ إن كان تأويله بطريق الوحْيِ.
وذهب قتادة: إلى كونِ الظن على بابه ـ وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ـ، فإنه قال: "الظنُّ هو على بابه؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ".
قوله: "مِنْهُمَا"، يجوزُ أن يكون صفةً لـ"نَاجٍ"، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول.
قال أبو البقاءِ: "ولا يكونُ متعلقاً بـ "نَاجِ" لأنَّه ليس المعنى عليه" قال شهاب الدين: لو تعلق بـ"نَاجِ" لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو النَّاجي، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ.
والضميرُ في "فَأنْسَاهُ"، يعودُ على الشرابيِّ، وقيل: على يوسف؛ وهو ضعيفٌ.
فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه
قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ للناجي من الرجلين: { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ }، أي: عند الملك، أي: اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته، لما أخرجوه، وباعوه، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة؛ التي لأجلها حُبِسَ.
ثم قال تعالى: { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قيل: أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه.
ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول، فقال: لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ.
وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ، فلما ترك ذكر اللهِ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك، عوقب.
وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى:
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف:45]، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف، مع قوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر:42]، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطان؟.
وأجيب عن هذا بأن النسيان لا عصمة للأنبياء عنه، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى، فيما يلقَّونه؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم، قال عليه السلام:
"نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته" وقال: "إنَّما أنا بشرٌ، أنْسَى كما تَنْسَوْن" .
وقال ابنُ عباس ـ رضي الله عنهما ـ وعليه الأكثرون: "أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره، واستعان بمخلوقٍ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ".
"فَلبِثَ": مكث "في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ" قال صلى الله عليه وسلم:
"يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ؛ لوْ لَمْ يقُلْ: اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ؛ ما لبثَ فِي السِّجن" ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله: { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف. واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلم، جائزةٌ في الشريعة، لا إنكار عليه.
وإذا كان كذلك، فلم صار يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ مُؤاخذاً بهذا القدر؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [أولى]؟.
فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة، وما عابهُ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ ـ علمنا أنَّهُ ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مُبَرَّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ.
فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه
قال الزجاجُ: "اشتقاقُ البضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطعْتُ".
قال النَّواوي: "والبِضْعُ بكسر الباء، وقد تفتح: ومعناه القطعةُ من العدد".
قال الفراء: لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ، قال: وهكذا رأيتُ العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون: بضعٌ ومائةٌ، قال: وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة؛ والقرآنُ يردُّ عليه.
ويقال: بضعُ نسوة، وبضعةُ رجالٍ.
روى الشعبيُّ ـ رضي الله عنه ـ
"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهُ: كم البِضْعُ؟ قال: مَا دُونَ العَشرة" .
وقال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ: "مَا دُونَ العشرة".
وقال مجاهدٌ ـ رضي الله عنه ـ: مابين الثَّلاث إلى السَّبع.
وقيل إلى الخمسِ.
وقال قتادةُ ـ رضي الله عنه ـ: مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ.
وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته، اثنتا عشرة سنة.
قال ابن عبَّاسِ ـ رضي الله عنهما ـ: "لما تضرَّع يوسفُ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لذلك الرجلِ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ".
وقيل: البِضْعُ: فوق الخمسةِ ودُون العشرة.
وقد تقدم عند قوله
{ بِضَاعَةً } [يوسف:19]، والبَعْضُ قد تقدَّم أنه من هذا المعنى، عند ذكر البعوضةِ.
وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ:
أحدها: قال ابنُ جريجٍ، وقتادة، ووهبُ بنُ منبِّه: أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ.
وقال ابن عباسِ: اثنتَيْ عَشْرة سنة.
وقال الضحاكُ: أرْبع عشرة سنة.