التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } الآية قال المفسرون: لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لم يذكر الله عن الملك أنه قال: قد فعلتُ؛ بل قال: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض }؛ فقال المفسرون: في الكلام محذوفٌ تقديره: قال الملك: قد فعلت؛ لأنَّ تمكين الله له في الأرض يدلُّ على أن الملك قد أجابه ما سأل.
قال ابن الخطيب: "وما قالوه حسنٌ، إلا أنَّ هاهنا ما هو أحسن منه، وهو أنَّ ما أجابه الملك في عالم الظاهر، وأمَّا المؤثر الحقيقيُّ، فليس إلاَّ أنه ـ تعالى ـ هو الذي مكَّنه في الأرض، وذلك؛ لأنَّ الملك كان متمكناً من القبول والرد فنسبة قدرته إلى القبول والرد على التَّساوي وما دام يبقى هذا التَّساوي، يمتنعُ حصولُ القبولِ، فلا بُدَّ وأن يرجح القبولُ على الردِّ في خاطر ذلك الملك؛ وذلك لأنَّ الترجيح لا يكونُ إلاَّ بمرجعٍ يخلقهُ الله ـ تعالى ـ وإذا خلق الله ذلك المرجح، حصل القبولُ لا محالة، فالتمكين ليوسف في الأرض ليس إلاَّ من خلق الله ـ تعالى ـ بمجموع القدرة والدَّاعية الجازمة التي عند حصولها، يجب ُ ألاَّ يؤخَّر هذا السببُ، فترك الله إجابة الملك، واقتصر على ذكر التَّمكينِ الإلهي؛ لأنَّ المؤثِّر الحقيقيَّ ليس إلا هو".
قوله: "وكَذلِكَ" الكافُ منصوبةٌ بالتمكين، و"ذلِكَ" إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملكِ، وإنجائنا إياه من غمِّ الحَبْس، { مَكنا له في الأرض }.
وقوله: "لِيُوسُف" يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة بـ "مَكَّنَّا" على أن يكن مفعول "مَكَّنَّا" محذوفاً، تقديره: مكنا ليوسف الأمورَ، أو على أن يكون المفعول به "حَيْثُ"، كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك.
وقد تقدَّم أنَّ الجمهور يأبون ذلك إلاَّ في موضعين.
وقله "يَتَبَوَّأ" جملةٌ حاليةٌ من "يُوسفَ"، و"مِنْهَا" يجوز أن تتعلَّق بـ "يَتَبَوَّأ"، وأجاز أبو البقاءِ: أن يتعلق بمحذوفٍ، على أنَّها حالٌ من "حَيْثُ"، و"حَيْثُ" يجوز أن يكون ظرفاً لـ "يَتَبَوَّأ"، ويجوز أن يكون مفعولاً به وقد تقدم تحقيقه في الأنعامِ.
وقرأ ابن كثير: "نَشَاءُ" بالنُّون على أنَّها نونُ العظمة لله تعالى.
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون الفاعل ضمير يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال: "لأنَّ مشيئتهُ من مشيئةِ اللهِ ـ عز وجل"؛ وفيه نظرٌ؛ لأن نظم الكلام يأباهُ.
والباقون: بالياء على أنه ضمير يوسف، ولا خلاف في قوله: "نُصِيبُ بِرحْمتِنَا من نَشاءُ"، أنَّها بالنون.
وجوزَّ أبو حيَّان: أن يكون الفاعل في قراءة الياء ضمير الله تعالى، ويكون التفاتاً. ومعنى "يَتَبَوَّأ منها" أي: ينزلُ منها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء.
فصل
روى الزمخشريُّ: أنَّ الملك أخرج خاتم الملك، ووضعه في أصبعه، وقلَّده سيفه، ووضع له سريراً من ذهب مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوت، فقال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما السريرُ، فأشدُّ به ملكك، وأما الخاتمُ، فأدبِّر به أمرك، وأمَّا التَّاجُ، فليس من لِباسِي، ولا لِباسِ آبائي، وجلس على السَّرير، ودان له القومُ، وأنَّ قُطْفِير زوج المرأةِ مات بعد ذلك، وزُوج يوسف راعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبتِ؟ فوجدها عذراء، فأصابها، فولدت له إفرائيم، وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك، وكثير من النَّاس، وفوَّض الملك أمر مصر إلى يوسف.
قال وهبٌ، والسديُّ، وابن عبَّاس، وغيرهم: ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح الزراع، وأمرهم أن يتوسَّعُوا في الزراعةِ، فلما أدركت الغلةُ أمر بها فجمعت، ثم بنَى لها المخازن، فجمعت فيها في تلك السنة غلةٌ ضاقت عنها المخازن؛ لكثرتها، ثم جمع غلَّة كُلِّ سنةٍ كذلك، حتى انقضتِ السبع المخصبة، وجاءت السنونُ المجدبةُ، فنزل جبريلُ ـ عليه السلام ـ وقال: يا أهلَ مِصْر: جوعوا فإنَّ الله سلَّط عليكم الجوع سبع سنين، فجعل الناسُ ينادون: الجُوع الجُوع، وأباع من أهل مصر في سنين القحط بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، وبالحليِّ والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدَّوابِّ، ثم بالضياع، ثم بالعقار، ثم ترقَّى بهم حتَّى استرقَّهم؛ فقالوا: والله، ما رأينا ملكاً أعظم ثباتاً من هذا، فلما صار كلُّ الخلق عبيداً له، قال: إنيِّ أشهدُ الله أنِّي اعتقتُ أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيعُ من أحدٍ ممن يطلب الطعام أكثر من حملٍ؛ لئلا يضيق الطعامُ عن الباقين.
فصل
قال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ "نُصِيبُ بِرَحْمتِنَا مَن نشَاءُ" أي: بنِعْتِنَا.
{ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } يعني الصَّابرينَ، هذا في الدنيا، { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ }: ثواب الآخرة خير.
قال ابن الخطيب قوله تعالى: { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ }؛ لأن إضاعة الأجر إما أن تكون للعجزِ، أو للجهلِ، أو للبخلِ، والكلُّ ممتنعٌ في حقِّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ فكانت الإضاعة ممتنعة، وهذه شهادةٌ من الله ـ تعالى ـ على يوسف أنَّه كان من المُحْسنِينَ، ولو صدق بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين؛ فهاهنا لزم إمَّا تكذيبُ الله في حكمه على يوسف أنَّه كان من المحسنين؛ وهو عينُ الكفرِ أو لزوم تكذيب ما رووهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ.
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدِ الخيرينِ أفضل من الآخر؛ كما يقال: الجلابُ خيرٌ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل؛ كما يقال: "الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله ـ تعالى ـ".
يعني: الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ }:إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال: منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله ـ تعالى ـ: { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }، شرح حال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ووجب أن يصدق في حقه أنَّه من { الذين آمنوا وكانوا يتقون }، وهذا تنصيص من الله ـ عز وجل ـ أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه:
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } [يوسف:24]، فكان هذا شهادة من الله تعالى ـ على أنَّهُ ـ عليه السلام ـ كان في ذلك الوقت من المتَّقين.
وأيضاً: قوله تعالى: { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } شهادة من الله ـ عز وجل ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المحسنين، وقوله:
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [يوسف:24] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم.
فصل
قال القاضيرحمه الله : قوله: { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنا إن حملنا لفظ "خَيْرٌ" على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حملناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم.