التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ
٣٥
وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
٣٦
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ
٣٧
-الرعد

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال "مثلُ الجَنَّة".
قال سيبويه: "مثَلُ الجنَّة" مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فيما قصصنا ـ أو فما يتلى ـ عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } تفسير لذلك المثل.
وقال أبو البقاء: "فعلى هذا "تَجْرِي" حال من العائد المحذوف في "وُعِدَ" أي: وعدها مقدراً جريان أنهارها".
ثم نقل عن الفراء: أنه جعل الخبر قوله: "تَجْرِي" قال: وهذا خطأ عند البصريين، قال: لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه، وشبهته: أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله: صفة زيد أنه طويل ويجوز أن يكون "تَجْرِي" مستأنفاً.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحوه الزمخشري، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين:
أحدهما: على حذف لفظة "أنها" والأصل: صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وكيف تحذف "أنها" من غير دليل؟.
والثاني: أن لفظة "مثلُ" زائدة، والأصل: الجنة تجري من تحتها الأنهار، وزيادة "مثلُ" في لسانهم كثير، ومنه
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [البقرة:137] وقد تقدم.
قال الزمخشري: "وقال غيره، أي غير سيبويه ـ: الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } كما تقول: صفة زيد أسمر".
قال أبو حيان: "وهذا أيضاً لا يصح أن يكون "تجْري" خبراً عن الصفة ولا "أسمر" خبراً عن الصفة، وإنما يتاول "تَجْرِي" على إسقاط "أن" ورفع الفعل، والتقدير أن تجري، أي: جريانها".
وقال الزجاج: "مثلُ الجنَّةِ"جنة" على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بما نشاهده.
ورد عليه أبو علي قال: "لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [المماثلة]".
والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة، فليس هنا ضرب مثل، فهو كقوله تعالى:
{ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل:60]، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة، وقال: معناه: الشبه.
وقرأ علي وابن مسعود "أمْثَالُ الجنَّةِ"، أي: صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة.
فصل
اعلم أنه ـ تعالى ـ وصف الجنة بصفات ثلاث:
أولها: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }.
وثانيها: { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } أي: لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا.
و"أكلها دائم" كقوله: "تجري" في الاستئناف التفسيري، أو الخبري، أو الحالية، وقد تقدم.
وثالثها: ظلها ظليل لا يزول، أي: ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى:
{ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [الإنسان:13] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا: نعيم الجنة يفنى.
ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث، بين أن تلك عقبى المتقين، أي: عاقبتهم، يعنى الجنة، وعاقبة الكافرين النار.
قوله: { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } يعنى القرآن وهم أصحاب محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ } أي: الجماعات، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } هذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل: الأحزاب ينكرون كلّ القرآن.
فالجواب: أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات لله ـ تعالى ـ وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم لا ينكرون هذه الأشياء.
وقيل: المراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، وعلى هذه ففي الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: { الذين ءاتيناهم الكتاب } كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون بنجران وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، فرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه.
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية. والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.
قال القاضي: وهذا القول أولى من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة.
ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به.
والثاني: أن الذين أتيناهم الكتاب: اليهود أعطوا التوراة، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن، لأنه مصدق لما معهم { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ } سائر الكفار { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو قول مجاهد.
قال القاضي: وهذا لا يصح لقوله { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال: إن قوله { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة "ما" للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً.
ثم إنه ـ تعالى ـ لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } وهذا كلام جامع لكل ما ورد التكليف به، وفيه فوائد.
أولها: كلمة "إنَّمَا" للحصر، ومعناه: إني ما أمرت إلا بعبادة الله ـ تعالى ـ وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك.
وثالثها: أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها:أن عبادة الله واجبة، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المحض.
وخامسها: قوله { وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ } وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله ـ تعالى ـ من الشمس والقمر والكواكب والأصنام والأوثان والأرواح، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية.
وسادسها: قوله (إليه أدعو) أي: كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [عبودية] الله ـ تعالى ـ وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة.
قوله: { وَلاۤ أُشْرِكَ } قرأ نافع في رواية عنه برفع "ولا أشْرِكُ" وهي تحتمل القطع، أي: وأنا لا أشرك. وقيل: هي حال.
وفيه نظر؛ لأن المنفي بـ"لا" كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال.
قوله: { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } الكاف في محل نصب، أي: وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك { أَنزَلْنَاهُ حُكْماً } و "حُكْماً" حال من مفعول "أنْزلْنَاهُ".
وقيل: شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي: كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن.
وقيل: كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين "عربياً" نسب إلى العرب، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة.
فصل
قالت المعتزلة: دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه:
الأول: أنه ـ تعالى ـ وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
والثاني: وصفه بكونه عربياً، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاً.
والثالث: أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث.
والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لا نزاع فيه.
قوله: { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم، فتوعده الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
وقيل: المراد منه حث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى.