التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ
٨
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ
٩
سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ
١٠
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
١١
-الرعد

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } الآية في النَّظم وجوهٌ:
أحدها: أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أنَّه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد، وطلب البيان أظهرها، وما منعهم، لكنه ـ تعالى ـ عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد؛ فلذلك منعهم، ونظيره قوله تعالى:
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ } [يونس:20]، وقوله: { إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ } [العنكبوت:50].
وثانيها: أنه ـ تعالى لما قال:
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } [الرعد:5] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق، وتختلط بعضها ببعض، ولا يتميَّز، فبين الله ـ تعالى ـ أنه إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمَّا من: { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } كيف لا يميزها؟.
وثالثها: أنَّه متصلٌ بقوله:
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } [الرعد:6].
والمعنى: أنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه.
قوله: { ٱللَّهُ يَعْلَمُ } يجوز في الجلالة وجهان:
أحدهما: أنَّها خبر مبتدأ مضمر، أي: هو الله، وهذا على قول من فسَّر "هادٍ" بأنه هو الله [تعالى، فكان هذه الجملة تفسير له، وهذا [ما] عنى الزمخشري بقوله: وأن يكون المعنى: هو الله] تفسيراً لـ"هادٍ" على الوجه الأخير، ثم ابتدأ فقال: "يَعْلمُ".
والثاني: أنَّ الجلالة مبتدأ "ويَعْلمُ" خبرها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ.
قال أبو حيَّان، "و "يَعْلمُ" هاهنا متعدية إلى واحدٍ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات".
قال شهاب الدين ـرحمه الله ـ: "وإذا كانت كذلك، كانت غير فائتة" وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه.
قوله: "مَا تَحْمِلُ"مَا" تحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي: ما تحمله.
والثاني: أن تكون مصدرية، فلا عائد.
والثالث: أن تكون استفهامية، وفي محلها وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، و"تَحْمِلُ" خبره، والجملة معلقة للعلم.
والثاني: أنها في محلِّ نصب بـ"تَحْمِلُ" قاله أبو البقاء.
وهو أولى؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ.
ولم يذكر أبو حيان غير هذا، ولم يتعرض لهذا الاعتراض.
و"مَا" في قوله: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } محتملة للأوجه المتقدِّمة و"غاض، وزاد" سمع تعدِّيهما، ولزومهما، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما، وأن تجعلها مصدريّة على القول بمصدريتها.
فصل
إذا كانت "مَا" موصولة فالمعنى: أنه تعالى ـ يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو ذكرٌ، أم أنثى، وتامٌّ، أم ناقصٌ، وحسنٌ، أم قبيحٌ، وطويلٌ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال.
وقوله سبحانه: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } الغيضُ: النقصان سواء كان لازماً، أو متعدياً فيقال: غاض الماء وغضته أنا، ومنه قوله تعالى:
{ وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } [هود:44] والمعنى: ما تغيضه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع.
و"مَا تَزْدادُ"، أي تأخذه زيادة، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا، ومنه قوله تعالى:
{ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } [الكهف:25].
ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم، وما تزداده على وجوهٍ:
الأول: عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ، وعلى اثنين، وثلاثة، وأربعة.
يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه.
الثاني: عند الولادة قد تكون زائدة، وقد تكون ناقصة.
الثالث: [مدة ولادته] قد تكون تسعة أشهر [فأزيد] إلى سنتين عند أبي حنيفة ـرحمه الله ـ وإلى أربع عند الشافعي ـ رضي الله عنه ـ، وإلى خمس عند مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ.
قيل: إنَّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً.
الرابع: الدم؛ فإنه تارة يقلُّ، وتارة يكثرُ.
الخامس: ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم، وما يزداد بالتَّمامِ.
السادس: ما ينقصُ بظهور دم الحيض؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد، ونقص بمقدار ذلك النقصان، وتزداد أيام الحمل، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان.
قال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنه ـ: "كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً، زاد في مدَّة الحمل يوماً، ليحصل الجبرُ، ويعتدلُ الأمر".
وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ، وهو مذهب مالكٍ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية: إنَّه حيض الحبالى، وهو قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة.
وقال المخالف: لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة، وهذا بالإجماع.
السابع: أن دم الحيض فضلة تجتمع في [بطن] المرأة، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات؛ فاضت، وخرجت، وسالت من دواخل تلك العروق، ثم إذا سالت تلك المواد، امتلأت تلك العروق مرَّة أخرى.
هذا كلُّه إذا قلنا: إن "ما" موصولة.
فإذا قلنا: إنَّها مصدرية: فالمعنى أنَّه ـ تعالى ـ يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ، ويعلم غيض الأرحام، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا أوقاته، وأحواله.
ثم قال: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة: العلم ومعناه: أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه ـ تعالى ـ خصَّص كل حادث بوقت معين، وحال معينة بمشيئته الأزليَّة وإرادته السرمدية.
وعند حكماء الإسلام: أنه ـ تعالى ـ وضع أشياء كلّيّة، وأودع فيها قوى، وخواصَّ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية متعينة ومناسبات مخصوصة [مقدرة]، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ، وأحوالهم، وخواطرهم، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ.
قوله: "عِنْدَهُ" يجوز أن يكون مجرور المحل صفة لـ "شَيْءٍ"، أو مرفوعه صفة لـ "كُلُّ"، أو منصوبة ظرفاً لقوله: "بِمقْدارٍ"، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً.
قوله: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره: "الكَبيرُ المتعَالِ"، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو عالمٌ.
وقرأ زيد بن علي "عَالِمَ" نصباً على المدحِ.
ووقف ابنُ كثير، وأبو عمرو في رواية على ياءِ "المُتعَالِ" وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهر في لسانهم، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم.
واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل، والقوافي، ولأنَّ "ألْ" تعاقب التنوين، فحذفت معها إجراء لها مجراها.
فصل
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه.
قال الواحديُّ: "فعلى هذا "الغَيْب" مصدر يرادُ به الغائب، والشهادة أراد بها الشَّاهد".
واختلفوا في المراد بالغائب، والشَّاهد؛ فقيل: المراد بالغائب: [المعدوم]، وبالشَّاهد: الموجود. وقيل: الغائب مالا يعرفه الخلق.
واعلم أنَّ المعلومات قسمان: المعدومات، والموجودات.
والمعدومات منها معدوماتٌ يمتنع وجودها، ومعدومات لا يمتنع وجودها.
والموجودات قسمان: موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام، وخواص، والكل معلوم لله ـ تعالى ـ.
قال إمامُ الحرمين: لله ـ تعالى ـ معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل، وهو ـ تعالى ـ عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ }.
ثم قال: "الكَبِيرُ المُتعَالِ" وهو ـ تعالى ـ يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة، و"المُتعَالِ" المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته، وصفاته.
قوله تعالى: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ }.
في "سَواءٌ" وجهان:
أحدهما: أنه خبرٌ مقدمٌ، و:"مَنْ أسرَّ"، و"مَنْ جَهرَ" هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وهو ههنا بمعنى مستوٍ، و"مِنْكُمْ" على هذا حالٌ من الضمير المستتر في "سَواءٌ"؛ لأنه بمعنى مستوٍ.
قال أبو البقاء: "ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في "أسرَّ"، و"جَهَرَ" لوجهين:
أحدهما: تقديم ما في الصلة على الموصول، أو الصِّفة على الموصوف.
والثاني: تقديم الخبر على "مِنْكُم" وحقُّه أن يقع بعده".
قال شهابُ الدِّين ـرحمه الله ـ: "وحقُّه أن يقع بعده يعني: بعدهُ، وبعد المبتدأ، ولا يصير كلامه لا معنى له".
والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله: "مِنْكُم".
وأعرب سيبويه: "سواءٌ" عليه الجهر والسِّر كذلك، وقول بن عطيَّة: إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه.
قال ابنُ الخطيب: لفظ "سواء" يطلب اثنين، تقول: "سواء زيد، وعمرو"، ثم فيه وجهان:
الأول: أنَّ "سواءٌ" مصدر، والمعنى: ذو سواء، كما تقول: عدل زيد وعمرو، أي: ذو عدلٍ.
الثاني: أن يكون "سواءٌ" بمعنى مستوٍ، وعلى هذا التقدير، فلا حاجة إلى الإضمار، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال: مستو زيد وعمرو؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها.
ولقائلٍ أن يقول: بل هذا الوجه أولى؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
قوله: { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على "مُسْتَخْفٍ"، ويراد بـ "مَنْ" حينئذ اثنان، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ "هُوَ" على لفظها، فأفرده، والخبر على معناها فثناه.
والوجه الثاني: أن يكون عطفاً على "من هُوَ" في "ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ" لا على: "مُستَخفٍ" وحده.
ويوضح هذين الوجهين ما قاله الزمخشريُّ قال: "فإن قلت: كان حق العبارةِ أن يقال: ومن هو مستخف باللَّيل، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتناول معنى الاستواء المستخفي، والسارب، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب.
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن قوله: "سَارِبٌ" عطف على: "مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ" [لا على: "مُسْتَخْفٍ".
والثاني: أنَّه عطف على: "مُسْتَخْفٍ"] إلا أنَّ: "مَنْ" في معنى الاثنين؛ كقوله: [الطويل]

3166ـ................ نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ

كأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل، وسارب بالنَّهار".
قال شهابُ الدِّين: وفي عبارته بقوله: كان حق العبارة كذا سوء أدب، وقوله كقوله: "نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب" يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه: [الطويل]

3167ـ تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ

وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط، وهو مقصوده.
وقوله: "وإلا فقد تناول واحدٌ هو مستخف وسارب" لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّارب شخص واحد يستخفي بالليل، ويسرب بالنَّهار، ليري تصرفه في النَّاس.
الثالث: أن يكون على حذف "مَنْ" الموصولة، أي: ومن هو سارب، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يجيزون حذف الموصول، وقد تقدَّم استدلالهم على ذلك.
والسَّاربُ: اسم فاعل من "سَرَبَ، يَسْرُبُ"، أي: تصرف كيف يشاء؛ قال: [الكامل]

3168ـ أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ

وقال آخر: [الطويل]

3169ـ وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدهُ فهو سَارِبُ

أي: متصرف كيف توجَّه، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة، والقوة.
فصل
معنى الكلام: أي: يستوي في علم الله المسر في القول، والجاهر به. وفي المستخفي، والسَّارب وجهان:
الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي، واستخفى فلان من فلان، أي: توارى واستتر منه.
والسَّارب: قال الفراء والزجاج: أي: ظاهر بالنهار في سربه، أي: طريقه يقال: خلا له سربه، أي: طريقه، والسَّرب ـ بفتح السِّين، وسكون الراء ـ الطريق.
وقال الأزهري: "تقول العرب: سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً، أي: مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت".
فمعنى الآية: سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ.
قال ابن عباس: "سواء ما أضمرته القلوب، أو أظهرته الألسنة".
وقال مجاهد: سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي.
وقال ابن عباس أيضاً: "هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم".
والقول الثاني: نقل الواحدي عن الأخفش، وقطرب قال: المستخفي: الظاهر والسارب: المتواري، ومنه يقال: خفيت الشيء، أي: أظهرته، وأخفيت الشيء أي: استخرجته، ويسمى النَّبَّاش: المستخفي، والسَّارب: المتواري، أي: الداخل سرباً، وانسرب الوحش: إذا دخل في السِّرب، أي: في كناسه.
قال الواحديُّ: "وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً: فالليل يدلُّ على الاستتار، والنهار على الظهور".
قوله: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } الضمير فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه عائد على "مِنْ" المكررة، أي: لمن أسرّ القول، ولمن جهر به ولمن استخفى: "مُعَقباتٌ"، أي: جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً.
الثاني: أنه يعود على "مِنْ" الأخيرة، وهو قول ابن عبَّاسٍ.
قال ابن عطية: والمعقبات على هذا: حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا: والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ الماوردي ذكر على هذا التأويل: أنَّ الكلام نفي، والتقدير: لا يحفظونه، وهذا ينبغي ألاّ يسمع ألبتة، كيف يبرز كلام موجب، ويراد به نفي، وحذف "لا" إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً في جواب قسم، نحو
{ تَالله تَفْتَأُ } [يوسف:85] وقد تقدَّم تحريره وإنَّما معنى الكلام كما قال المهدويُّ: يحفظونه من أمر الله في ظنه، وزعمه.
الثالث: أن الضمير في "لهُ" يعود على الله ـ تعالى ـ وفي "يَحْفظُونَهُ" للعبد أي: للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن ـ رضي الله عنه ـ.
الرابع: عود الضميرين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله: "لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ".
و"مُعقِّباتٌ" جمع معقب بزنة مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به.
وقال الزمخشري: "والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله:
{ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ } [التوبة:90]، أي: المعتذِّرون، ويجوز "مُعقِّبات" بكسر العين ولم يقرأ به".
وقال أبو حيَّان: "وهذا وهمٌ فاحش، لا تدغم التَّاء في القافِ، ولا القاف في التَّاء لا من كلمة، ولا من كلمتين، وقد نصَّ التصريفيُّون على أنَّ القاف، والكاف كلُّ منهما تدغمُ في الأخرى، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما، وأمَّا تشبيهه بقوله:
{ { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ } [التوبة:90] فلا يتعيَّن أن يكون أصله "المُتعذِّرُون" وقد تقدَّم توجيهه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه.
وأما قوله: ويجوز "مُعقِّبات" بكسر العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه بناه على أن أصله: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي"مُعَقِّباتٌ" احتمالان:
أحدهما: أن يكون معقبة بمعنى معقب، والتَّاء للمبالغة، كعلاَّمة، ونسَّابة. أي: ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات، ونسَّابات.
والثاني: أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف، وذكر ابنُ جريرٍ: أن معقبة جمع معقب، وشبه ذلك بـ"رَجُلٍ، ورجالٍ، ورِجَالاتٍ". قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر، إنما ذلك كـ"جَمَلٍ، وجِمَالٍ، وجمالاتٍ" ومعقب، ومعقبات إنَّما هو كضارب، وضاربات.
ويمكن أن يجاب عنه: بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث "معقب"، فصار مثل: "الواردة" للجماعة الذين يريدون، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار، وعود الضَّمير، ومنه قولهم: الرِّجالُ وأعضادها، والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا، وتشبيهه ذلك برجل، ورجالات من حيثُ المعنى لا الصناعة".
وقرأ أبي، وإبراهيم، وعبيد الله بن زيادٍ: له معاقيب.
قال الزمخشريُّ: "جمع معقب، أو معقبة، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير".
ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي؛ فإنه قال: "مَعَاقِيب" تكسير مَعْقِب ـ بسكون العين، وكسر القاف، كـ"مُطْعِم، ومطاعم" و"مَقْدِم، ومَقَادِيم"، فكأن "مُعْقباً" جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في "معاقيب" عوضاً من الهاء المحذوفة في "مُعَاقبةٍ".
فصل
قال: المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله، ويجوز أن يكون عقبه، إذا جاء على عقب، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
والتَّعقيب: العود بعد البدءِ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات، كقولك: رجالات مكسر، وقد تقدَّم.
وفي المراد بـ"المعقبات" قولان:
أشهرهما: أن المراد الحفظة، وإنَّما وصفوا بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار، وبالعكس، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ، والكتابة، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه؛ فقد عقَّبهُ.
فعلى هذا المراد من المعقبات: ملائكة الليل، والنَّهار، قال ـ تعالى جلَّ ذكره ـ
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الانفطار:10، 11، 12،13].
قوله: { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة لـ"مُعقِّباتٌ" ويجوز أن يتعلق بـ "مُعقِّباتٌ"، و"مِنْ" لابتداء الغاية، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلام على هذه الأوجه تام عند قوله: { وَمِنْ خَلْفِهِ }.
وقد عبَّر ِأبو البقاء ـرحمه الله ـ عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة، وهي قوله: { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يكون صفة لـ"مُعقِّباتٌ"، وأن يكون ظرفاً، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده "انتهى".
ويجوز أن يتعلق بـ"يَحْفَظُونَه" أي: يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه.
فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ، وهما "مِنْ" الداخلة على "بَيْنِ" و"مِنْ" الداخلة على: "أمْرِ اللهِ"؟.
فالجواب: أنَّ "مِنْ" الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله: "يَحْفَظُونهُ" يجوز أن يكون صفة لـ"مُعقِّباتٌ"، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [خبراً]، و"مِنْ أمْرِ اللهِ" متعلق به، و"مِنْ" إمَّا للسَّببِ أي: بسبب أمر الله.
ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عليّ، وعكرمة ـ رضي الله عنهم ـ: بأمر الله.
وقيل: المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف.
قال ابن الأنباري: كلمة "مِنْ" معناها الباء، وتقديره: يحفظونه بأمر الله وإعانته، والدَّليل عليه: أنه لا بد من المصير إليه؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله، وممَّا قضاه الله عليه؛ وإمَّا أن تكون على بابها.
قال أبُو البقاء: "مِنْ أمْرِ اللهِ" من الجنِّ، والإنس، فتكون "مِنْ" على بابها.
"يعني: أن يراد بأمر الله: نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس، والجن، فتكون "مِنْ" لابتداء الغاية".
ويجوز أن تكون بمعنى "عَنْ"، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة لـ: "مُعقِّباتٍ" أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وبكونها "يَحفظه"، وبكونها "مِنْ أمْرِ اللهِ" ولكن يتقدَّم الوصف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائزٌ فصيحٌ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين:
الأول: أنه على التَّقديم، والتأخير، والتقدير: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه.
قال شهاب الدِّين ـرحمه الله ـ: "والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه".
والثاني: أن فيه إضماراً، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: ممَّا أمر الله به، فحذف الاسم، وأبقى خبره، كما يكتب على الكيس: ألفان، والمراد الذي فيه ألفان.
فصل
ذكر المفسرون: أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل، والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النَّهار، جاء في عقبها ملائكة الليل، لما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال
"يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللَّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُوا فيكُم؛ فيَسْألهُم وعو أعلمُ بِهِم: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟ فَيقُولُون: تَركْنَاهُم، وهُمْ يُصَلُّونَ، وأتَيْنَاهُمْ، وهُمْ يُصَلُّون" .
وقوله: { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعنى من قدام، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقيل: يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه.
قال مجاهدٌ: ما من عبدٍ إلا وله ملك موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس، والهوام.
وقيل: المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات "يحفظونه" أي يحفظون عليه، "من أمر الله" يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق.18].
وقال عبدالرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة، وكانت قصَّتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:
"أقبل عامر بن الطُّفيل، وأربد بن ربيعة، وهما عامريان يريدان رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه، فدخلا المسجد، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ، وكان أعورَ، وكان من أجمل النَّاس، فقال رجل: يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال: دعه؛ فإن يرد الله به خيراً يهده، فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال: تجعل لي الأمر بعدك؛ قال: ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله ـ عز وجل ـ يجعله حيث يشاءُ، فقال: تجعلني على الوبر وأنت على المدرِ، قال: لا، قال: فما تجعل لي؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال: أوليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة: إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه، فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثمَّ حبسه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عنده، فلم يقدر على سلّه، وجعل عامرُ يومىء إليه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحوٍ صائفٍ، فأحرقته، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً، وقال: يا محمد! دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً، وفتياناً مرداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا، وأبْناءُ قيْلة يريد الأوس، والخزرج؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح، ضم عليه سلاحه، وقد تغير لونه، فخرج يركض في الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشِّعر، ويقول: واللات لئن أصبح لي محمدٌ وصاحبه ـ يعني ملك الموت ـ لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ـ تبارك وتعالى ـ ملكاً فلطمه بجناحه، فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول: غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة، ثم دعا بفرسه، فركبه، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره، فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلَ عامرٌ بالطعن، وأربد بالصَّاعقة" ، وأنزل الله في هذه القصَّة: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يعنى للرسول صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله، يعني: تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديم وتأخير.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ واختاره أبو مسلم الأصفهاني ـرحمه الله ـ أن المراد يستوي في علم الله السرُّ، والجهر، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين، والأنصار، وهم الملوك، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره، ومن سار نهاراً بالمعقبات، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله ـ تعالى ـ والمعقب هو العون؛ لأنه إذا نصر هذا ذاك؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله، وقدره، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله، ومن قضائه؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة.
والمقصود من الكلام: بعث السلاطين، والأمراء، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله، ويعولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار؛ ولذلك قال تعالى ـ جل ذكره ـ بعده: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }.
قال القرطبي: "قيل: إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره: لا يحفظونه من أمر الله ـ تعالى ـ ذكره الماورديُّ.
قال المهدوي: ومن جعل المعقِّبات: الحرس، فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه، وزعمه.
وقيل: سواء من أسر القول، ومن جهر، فله حراس، وأعوان يتعاقبون عليه، فيحملونه على المعاصي، و"يَحْفظُونَهُ" من أن ينجع فيه وعظٌ.
قال القشيريُّ: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار، فيصير ذلك سبباً للعقوبة، فكأنه الذي يحل العقوبة".
وقال عبد الرحمن بن زيد: "المعقِّبات: ما تعاقب من أمر الله ـ تعالى ـ وقضائه في عباده".
قال الماورديُّ: "ومن قال بهذا القول، ففي تأويل قوله: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } وجهان:
أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله، قاله الضحاك.
الثاني: يحفظونه من الجنِّ، والهوام المؤذية، ما لم يأت قدرٌ، قاله أبو أمامة، وكعب الأحبارـ رضي الله عنهما ـ فإذا جاء القدر خلوا عنه".
قوله: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ }: من العافية والنعمة { حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من [الحالة الجميلة] فيعصون ربَّهم.
قال الجبائي، والقاضي: هذه الآية تدلُّ على مسألتين:
الأولى: أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه، فيغير الله حالهم من النِّعمة إلى العذاب.
الثانية: قالوا: الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة: إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال، والخذلان أوَّل ما يبلغ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب، مع أنَّه ما كان منه تغيير.
قال ابن الخطيب: "والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد، وقوله
{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [التكوير:29] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد، فوقع التَّعارض.
وقوله تعالى: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل بالفعل، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان، لكان قادراً على ردّ ما أراد الله ـ تعالى ـ من كفره، وحينئذٍ يبطل قوله: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ }؛ فثبت أنَّ الآية السابقة، وإن أشعرت بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا.
روى الضحاك عن ابن عبَّاس ـ رضي الله عنه ـ: لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه: لا رادّ لعذابي، و لا ناقض لحكمي: { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }، أي: ليس لهم من دون الله من يتولاهم، ويمنع قضاء الله عنهم، أي: ما لهم والٍ يتولَّى أمرهم، ويمنع العذاب عنهم.
قوله: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ } "العامل في "إذَا" محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره: لم يرد أو وقع، أو نحوهما، ولا يعمل فيها جوابها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها.