التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٩
وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
٢٠
-إبراهيم

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين بعده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة، وذلك هو الخسران الشديد.
وفي ارتفاع: "مَثَلُ" أوجه:
أحدها: وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم، وتكون الجملة من قوله: { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: كَيْتَ وكَيْتَ "والمثل: مستعار للصفة التي فيها غرابة، كقوله: صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ، ومالهُ مَبْذولٍ".
الثاني: أن يكون "مثل" مبتدأ، و"أعمالهم" مبتدأ ثان، و"كَرمَادٍ" خبر الثاني، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل.
قال ابن عطيَّة: "وهذا عندي أرجحُ الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة" وإليه نحا الحوفي.
قال أبو حيان: "وهو لا يجوز؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيها يربطها بالمبتدأ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى عن رابط".
قال شهابُ الدِّين ـرحمه الله ـ: "بل الجملة نفس المبتدأ، فإن نفس مثلهم هو "أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ" في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً، ولا يبقى له أثر، فهو نظير قولك: "هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ" وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً؛ فإنه قال: "أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك: "صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول" فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد".
الثالث: أنَّ "مَثَلُ" زائدة، قاله الكسائي والفراء، أي: الذين كفروا أعمالهم كرماد، فـ"الَّذينَ" مبتدأ، و"أعْمالهُمْ" مبتدأ ثان و"كَرَمادٍ" خبره، وزيادة الأسماء ممنوعة.
الرابع: أن يكون "مثلُ" مبتدأ، و"أعْمَالهُم" بدل منه على تقدير: مثل أعمالهم و"كَرمَادٍ" الخبر، قاله الزمخشري. وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم.
الخامس: أنه يكون "مثل" مبتدأ، و"أعمالهم" بدلٌ منه بدل اشتمال و"كرماد" الخبر. كقول الزباءِ: [الرجز]

3204ـ مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا

السادس: أن يكون التقدير: مثل أعمال الذين كفروا، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ، قال الزمخشريُّ.
السابع: أن يكون "مَثَلُ" مبتدأ، و"أعْمَالهُم" خبره، أي: مثل أعمالهم فحذف المضاف، و"كَرمَادٍ" على هذا خبر مبتدأ محذوف.
وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل: "ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال "أعْمالهُمْ" من: "الَّذينَ"، وهو بدل اشتمال".
يعنى أنَّه كان يقرأ "أعْمَالهُمْ" مجرورة لكنَّه لم يقرأ به.
"والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ".
والرَّمادُ: الشبه المحكم، يقال: أرْمدَ الماءُ، أي: صار بلونِ الرَّمادِ.
والأرْمَدُ: مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ، وقيل للبعوض: رمدٌ لذلك، ويقال: رمادٌ رَمْددٌ، أي: صار هباء.
قوله تعالى: { ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ } في محل جر صفة لـ"رَمَادٍ"، و "فِي يَوْمٍ" متعلق بـ "اشْتَدَّتْ" وفي "عَاصِفٍ" أوجه:
أحدها: أنه على تقرير: عاصف ريحه، أو عاصف الريح، ثم حذف الريح وجعلت الصفة لـ"يَوْم" مجازاً، كقولهم: يَومٌ ماطرٌ، وليْلٌ قَائمٌ.
قال الهرويُّ: فحذفت لقتدم ذكرها، كما قال: [الطويل]

3205ـ إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ ....................

أي: كاسف الشمس.
الثاني: أنه عائد على النِّسب، أي: ذي عصوف، كلابن وتامر.
الثالث: أنه خفض على الجوار، أي: كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب، فيقال: اشتدت به الريحُ العاصفة في يومٍ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه، كقولهم: "جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ".
وفي جعل هذا من باب الخفض على الجوار نظر؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كالمثال المذكور، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً، وتنكيراً في هذا [التركيب] الخاص.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: ["يَوْمٍ عَاصفٍ"] وهني على حذف الموصوف، أي: في يوم ريح عاصف، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك.
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو: "البَقْلةُ الحَمْقَاء". ويقال: ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ، وأصله من العصف، وهو ما يكبر من الزرع، فقيل ذلك للريح الشديد؛ لأنَّها تعصف، أي: تكسر ما تمرُّ به,
قوله: "لاَ يَقدِرُونَ" مستأنف، ويضعف أن يكون صفة بـ"يَوْمٍ" على حذف العائدِ أي: لا يقدرون فيه، و"ممَّا كَسبُوا" متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من "شَيءٍ" إذ لو تأخر لكان صفة، والتقدير: على شيء مما كسبوا.
فصل
وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم: هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ. واختلفوا في المراد بتلك الأعمال، فقيل: ما عملوه من أعمال البرِّ كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الواليدن، وإطعام الجائع، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.
وقيل: المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم، وأتعبوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها، فصارت وبالاً عليهم.
وقيل: المراد من أعمالهم كلا القسمين؛ لأنَّ أعمالهم التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت، والأعمال التي اعتقدوها خيراً، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً، وصارت في أعظم الموجبات لعذابهم، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال: { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ }.
قوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ } الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحق، وأنَّ الله ـ تعالى ـ لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً، وكيف يليق بالحكمة أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب.
قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ } قرأ أبو عبد الرحمنرحمه الله تعالى: بسكون الراء، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
والثاني: أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم، فقالوا: "ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان" فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم، ونظيره "لَمْ أبَلْ" فإن أصله: أبالِي، ثم حذفوا لامه رفعاً، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه، وتوهموا الجزم في اللام، والرُّؤية هنا قلبية فـ "أنَّ" في محل المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقرأ الأخوان هنا: "(خالق السماوات والأرض) "خَالِقُ" اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه، وهو "الأرض"، وفي "النور": "خالقُ كُلِّ دابّةٍ" [أية:45] اسم فاعل مضاف لما بعده، والباقون: "خَلَقَ" فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا: "الأرْضَ" و
{ كُلَّ دَآبَّةٍ } [النور:45] وكسر "السَّمواتِ" في قراءة الأخوين خفض، وفي قراءة غيرهما نصب، ولو قيل: في قراءة الأخوين: يجوز نصب "الأرْضَ" على أحد وجهين، إمَّا على المحل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون "السَّموات" منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به.
و"بِالحقِّ" متعلق به "خَلَقَ" على أنَّ الباء سببيَّة، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل، أي: محقَّا، أو من المفعول، أي: متلبسة بالحق.
قوله "بالحَقِّ" تقدم نظيره في يونس
{ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [يونس:5] أي: لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
ثم قال ـ عزَّ وجلَّ ـ { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى: من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على [إفناء] قوم إماتتهم وعلى إيجاد آخرين أولى؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.
{ وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي: ممتنع لما ذكرنا من الأولوية.