التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
١
ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
٢
ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٣
-إبراهيم

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } يجوز أن يرتفع "كِتابٌ" على أنَّه خبر لـ "الر":إن قلنا: إنَّها مبتدأ، والجملة بعده صفة، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا، وأن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً، تقديره: كتاب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية.
قالت المعتزلة: النَّازلُ، والمنزلُ لا يكون قديماً.
والجواب: أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ.
قوله: { لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ } متعلق بـ"أنْزَلناهُ". وقرىء (ليَخْرُجَ الناس) بفتح الياءِ وضمِّ الراء، من خَرَجَ يَخْرُجُ. "النَّاسُ" رفعاً على الفاعليَّة.
قالت المعتزلة: اللاَّم في "لِتُخْرِجَ" لام الغرض والحكمة، تدلُّ على أنه ـ تعالى ـ إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، فدل على أنَّ أقوال الله ـ تعالى ـ وأفعاله معللة برعاية المصالح.
وأجيب: بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلاَّ بهذه الواسطة، وذلك محالٌ في حقِّ الله ـ تعالى ـ، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله ـ تعالى ـ وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر.
فصل
قوله تعالى: { مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي: لتدعوهم من ظلمات [الضَّلال] إلى نُورِ الإيمان.
قال القاضي ـرحمه الله ـ: هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات:
أحدها: أنَّه ـ تعالى ـ لو خلق الكفر في الكافر، فكيف يصحُّ إخراجه منه بالكتاب.
وثانيها: أنَّه ـ تعالى ـ أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإن كان خالق الكفر هو الله ـ تعالى ـ فكيف يصحُّ من الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إخراجهم منه، وكان للكافر أن يقول: إنَّك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟.
فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا: إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج.
وثالثها: أنه ـ صلواتُ الله وسلامه عليه ـ إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر، والاستدلال كونه ـ تعالى ـ عالماً قادراً حكيماً، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه.
والجواب عن الكل: أن يقال: الفعل الصادر من العبد.
إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك.
أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر.
والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه إلاَّ بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال، وإن لم يكن منه بل من الله، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله ـ تعالى ـ وهو المطلوب.
قوله: { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } يجوز أن يتعلق بالإخراج، أي: بتيسيره وتسهيله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فاعل: "يُخْرِجُ" أي: مأذوناً لك.
وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى، فإنَّ قوله: { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } معناه: أنَّ الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى.
والمراد بهذا الإذن: إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق، وحمل الإذن على الأمر محالٌ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم، والباطل متميزٌ عن الحقّ.
وأيضاً: حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلماتِ إلى النُّور تابع لذلك الخروج، ولا يمتنع أن يقال: إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج، ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن المراد من الإذن: المشيئة، والتخليق، وذلك يدلُّ على أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللماتِ إلى النُّور إلاَّ بمشيئة الله ـ تعالى.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟.
فالجواب: لفظ الإذن مجمل، ونحن نفصل القول فيه.
فنقول: المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم، أو لا يقتضي ذلك، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة، وامتنع أن يقال: إنه إنَّما حصل بسببه، ولأجله فبقي الأول، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم، ومتى حصل الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا.
فصل
دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر، والضلالات كثيرة، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلاَّ واحداً؛ لأنَّ الله ـ تعالى ـ عبر عن الجهلِ، والكفر بالظلمات، وهي صيغة جمع، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ.
قوله: { إِلَىٰ صِرَاطِ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من قوله "إلى النُّورِ" بإعادة العامل، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل: "إلى صِرَاطِ"، والمراد بالصِّراط: الدّين والعزيز هو الغالب و"الحَمِيدِ" المستحق للحمد.
وقدم ذكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه ـ تعالى ـ قادراً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر "العَزيز" على ذكر "الحَمِيد".
قوله: { ٱللَّهِ ٱلَّذِي } قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وأما الرفع فعلى وجهين:
أحدهما: أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره: الله الذي له ما في السموات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم.
والثاني: أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال: "لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا".
قال أبو حيان: "وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله "الإله" ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب".
وقال ابن عصفور: "لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع" وهو قليل، وللعرب فيه وجهان:
أحدهما: أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين:
أحدهما: أن يعرب صفة متقدمة.
والثاني: أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته.
والثاني ـ من الأولين ـ أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب "العَزيزِ الحَميدِ" صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله: [البسيط]

3189ـ والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ

وقل الآخر: [الرجز]

3190ـ وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرا

يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل.
قال شهابُ الدِّين ـرحمه الله ـ: "وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تلك الصفة على الحال".
قال ابن الخطيب: "اللهُ" اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا: "اللهُ"، ثم وصفناه كقوله:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [الحشر:22] الملك القدُّوسُ، ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول: هو الرحمن الرحيم الله، فعلمنا أنَّ "اللهَ" اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات.
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن: أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر:24] فأمَّا أن تعكس فتقول: هو الخالق المصور البارىء الله؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } مشكل لما بيَّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب:
فقال أبو عمرو بن العلاء: القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [والأرض].
وقيل: لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال: الإمام الأجلّ محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله: { صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
وتحقيق القول فيه: أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } فوقعت الشبهة في أن ذلك: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } من هو؟ فعطف عليها قوله { ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } إزالة لتلك الشُّبهة.
قوله: "وَويْلٌ" مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء كـ"سَلامٌ عَليكُمْ"، و"لِلْكافِرينَ" خبره، و"مِنْ عذَابٍ" متعلِّق بالويلِ.
ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله، وهو ممنوعٌ حيث يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل، وقد تقدم.
ولذلك جوزوا تعلق "بِمَا صَبرْتُمْ" بـ
{ سَلاَمٌ } [الرعد:24]، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ، ولا فرق بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ: "فإن قلت: ما وجه اتِّصالِ قوله: { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد".
قال أبو حيان: فظاهره يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }.
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر.
فصل
والمعنى: أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات، والأرض، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً، ولا ضرَّا، ويُخلَقُ، ولا يَخْلِقُ، ولا إدراك له، فالويل كل الويل لمن هو كذلك، وإنما خصهم بالويل، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ، ويقولون: يا ويلاه نظيره قوله تعالى:
{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [الفرقان:13] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع:
الأول: قوله: { ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ } يجوز أن يكون مبتدأ، خبره: "أوْلئِكَ" وما بعده.
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم الَّذينَ.
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [المدح] فيهما.
وأن يكون مجروراً على البدل، أو البيان، أو النعت، قاله الزمخشريُّ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم.
ورده أبو حيان: بأن فيه الفصل بأجنبيّ، وهو قوله ـ جل ذكره ـ { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال: "ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز، لأنك فصلت بين "زَيْدٍ" وصفته بأجنبي منهما، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز، والتركيب الصحيح أن تقول: الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ".
و"يَسْتحِبُّونَ" استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ، أو يكون على بابه، وضمن معنى الإيثار، ولذلك تعدّى بـ "عَلَى".
وقرأ الحسن: "يُصدُّونَ" بضم الياء من "أصَدَّ"، و"أصَدَّ" منقولٌ من "صَدَّ" اللازم، والمفعول محذوف، أي: غيرهم أو أنفسهم، ومنه قوله: [الطويل]

3191ـ أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ .........................

{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } تقدم مثله [آل عمران:99].
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ } فيه إضمار تقديره: يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع ـ تعالى ـ بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [وأما] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً.
والنوع الثاني من أوصاف الكفار: قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: يمنعوا النَّاس من قبول دين الله.
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله: { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً }. واعلم أنَّ الإضلال على مرتبتين.
الأولى: أن يسعى في صدّ الغير.
والثانية: أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله: { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً }.
قال الزمخشريُّ: "الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل".
وقيل: الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه: يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي: بجهة الحرام.
ولما ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المراتب قال في وصفهم: { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } وإنَّما وصف الله ـ تعالى ـ هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ:
الأول: أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض.
الثاني: أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى.
الثالث: أن المراد بالضَّلال: الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد: امتداده وزوال انقطاعه.