التفاسير

< >
عرض

قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ
٣١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ
٣٢
وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ
٣٣
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
٣٤
-إبراهيم

اللباب في علوم الكتاب

لما هدد الكفار، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال.
وفي "يُقِيمُوا" أوجه:
أحدها: أنه مجزومٌ بلام محذوفة، تقديره: ليقيموا، فحذفت وبقي عملها، كما يحذف الجار ويبقى عمله، كقوله: [الوافر]

3222ـ مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا

يريد: لتفدِ.
وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ.
قال الزمخشري: "ويجوز أن يكون: "يُقِيمُوا"، و"يُنْفِقُوا" بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، وليكون هذا هو المقولُ، قالوا: وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم؛ لأنَّ الأمر الذي هو "قُلْ" عوض منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز".
ونحا ابنُ مالكٍرحمه الله إلى قريب من هذا، فإنَّه جعل حذف هذه اللاَّم على أضربٍ: قليل، وكثير ومتوسط. فالكثير: أن يكون قبله قول بصيغة الأمر، كالآية الكريمة.
والقليل: ألا يتقدم قول؛ كقوله: [الوافر]

3223ـ مُحَمَّدُ تَفْدِ.......... ......................

والمتوسطُ: أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر، كقوله: [الرجز]

3224ـ قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا

الثاني: أن "يُقِيمُوا" مجزوم على جواب: "قُلْ"، وإليه نحا الأخفش والمبرد.
وقد رد النَّاس عليهما هذا؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم: أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر.
وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المراد بالعبادِ المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا؛ امتثلوا.
الثالث: أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ، تقديره: قل لعبادي أقيموا وأنفقوا، أي: يقيموا وينفقوا، قاله أبو البقاءِ ـرحمه الله ـ وعزاه للمبرّد، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده، وهو فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل، فهو خطأ، كقولك: قُمْ يَقُمْ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه: أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا.
والوجه الثاني: أنَّ الأمر المقدر للمواجهة، و"يُقِيمُوا" على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً.
قال شهاب الدين: "أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب، وأمَّا الثاني، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول: قل لعبدي أطعني يطعك، وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال".
الرابع: أن التقدير: أن يقول لهم: أقيموا يقيموا، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية، وهذا هو القول الثاني.
الخامس: قال ابن عطية: "يحتمل أن يكون "يُقِيمُوا" جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله "قُلْ" وذلك أن تجعل "قُلْ" في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة".
السادس: قال الفراء: الأمر معه شرط مقدر، تقولُ: أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا، وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ.
السابع: قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر، ومعناه: أقيموا.
وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه.
وأجيب عن هذا: بأنه بني لوقوعه موقع المبني، كما بني المنادى في نحو: يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير.
ولو قيل: بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا".
وفي معمول "قُلْ" ثلاثة أوجه:
الأول: الأمر المقدر، أي: قل لهم أقيما يقيموا.
الثاني: أنه نفس "يُقِيمُوا" على ما قاله ابن عطية.
الثالث: أنَّه الجملة من قوله: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } إلى آخره، قاله ابن عطية.
وفيه تفكيك النَّظم، وجعل الجملة: { يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده، أو يكون جواباً فصل به بين القولين، ومعموله، لكنه لا يترتب على قوله ذلك: إقامة الصلاة، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا.
وقرأ حمزة والكسائي: "لِعبَادِيْ" بسكون الياء، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين.
قوله: { سِرّاً وَعَلانِيَةً } في نصبهما ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهما حالان مما تقدم، وفيهما الثلاث التأويلات في: زيْدٌ عدْلٌ، أي: ذَوِي سرٍّ، وعلانيةٍ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة.
الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وقتي سر وعلانية.
الثالث: أنهما منصوبان على المصدر، أي: إنفاق سرِّ، وإنفاق علانية.
قوله: { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق بـ: "يُقِيمُوا" و"يُنْفِقُوا" أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.
وقد تقدَّم خلاف القراء في: "لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ".
والخِلال المُخالة، وهي المُصاحبة، يقال: خاللته خِلالاً، ومخَالَّة؛ قال طرفة: [السريع]

3225ـ كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ لا تَركَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه

وقال امرؤ القيس: [الطويل]

3226ـ صَرفْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ

وقال الأخفش: خِلال جمع لـ"خلة"، نحو "بُرمَة وبِرَام".
فصل
قال مقاتلٌ: يوم لا بيع فيه، ولا شراء، ولا مخاللة، ولا قرابة. وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [254].
فإن قيل: كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله:
{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67]؟.
فالجواب: أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع، ورغبة النفس، و الآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله ـ تعالى ـ ومحبَّتهِ.
قوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } الآية لما وصف أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله ـ تعالى ـ بذاته وصفاته، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله ـ تعالى ـ هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع، وكمال علمه وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل:
أولها: خلق السَّمواتِ.
وثانيها: خلق الأرض.
وثالثها: قوله: { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ }.
"مِنَ السَّماءِ" يجوز أن يتعلق بـ"أنْزلَ"، و"مِن" لابتداءِ الغايةِ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من "مَاءٍ"؛ لأنه صفته في الأصل، وكذلك "مِنَ الثَّمراتِ" في الوجهين.
وجوَّز الزمخشري وابن عطية: أن تكون: "مِنْ" لبيان الجنس، أي: ورزقاً هو الثمرات.
ورد عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم، وقد يجاب عنهما؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب، وقد تقدم ذلك في البقرة [البقرة 23، 25].
ورابعها: قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } يجوز أن يتعلق "بأمْرهِ" بـ"تَجْرِي" أي: بسببه، أو بمحذوف على أنَّها للحال، أي: ملتبسة به.
وخامسها: قوله { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ }.
وسادسها، وسابعها: { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } دائبين حال من "الشمسِ والقَمرِ"، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ.
وثامنها وتاسعها: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ }.
وعاشرها: قوله تعالى: { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } العامة على إضافة: "كُلِّ" إلى ما. وفي "مِنْ" قولان:
أحدهما: أنَّها زائدة في المفعول الثاني، أي: كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ.
والثاني: أن تكون تبعيضية، أي: آتاكم بعض جميع ما سألتموه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف، تقديره: وآتاكم من كل ما سألتموه، وهو رأي سيبويه و"مَا" يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والمصدر واقع موقع المفعول، أي: مسئولكم، فإن كانت مصدرية فالضمير في: "سَألتُموهُ" عائد على الله ـ تعالى ـ وإن كانت موصولة، أو موصوفة كان عائداً عليها، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف، لأنه إما أن يقدر متصلاً سألتموهوه، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه، وكلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }.
وقرأ ابن عباس، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والحسن، والضحاك، وعمرو بن فائد وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع ـ رضي الله عنهم ـ في رواية: "مِنْ كُلِّ" منونة، وفي "مَا" على هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنَّها نافية، وبه بدأ الزمخشري، فقال: و"مَا سَألتْمُوهُ" نفي ومحله النَّصب على الحال، أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائلين.
قال شهاب الدين: ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله: "مِنْ كُلِّ" كقوله تعالى
{ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل:16].
والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي، وهي المفعول الثاني لـ"آتَاكُمْ".
وهذا التخريج الثاني أولى؛ لأنَّ في الأول منافاة في الظاهر لقراءة العامة.
قال أبو حيَّان: "ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة، وبين تلك قال: ويجوز أن تكون: "مَا" موصولة على: وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به، فكأنكم طلبتموه، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول: "مَا سَألتْمُوهُ" بمعنى ما احتجتم إليه".
فصل
اعلم أنَّه ـ تعالى ـ بدأ بذكر خلق السموات، والأرض، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده.
ثمَّ قال: { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود.
واعلم أنَّ الماء إنَّما ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو؛ وقيل: ينزل من السماء إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى: { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ }.
قال أبو مسلم ـرحمه الله ـ: لفظ "الثَّمراتِ" يقع في الأغلب على ما يحصل من الأشجار، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات، كقوله تعالى:
{ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141].
ثم قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [إبراهيم:32] نظيره
{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [الشورى:32].
واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك؛ لأنَّ الله ـ تعالى ـ خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض، وبالعكس، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ، وهي الجمال، أو بسفن البحر، وهي الفلك.
فإن قيل: ما معنى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ } مع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ؟.
فالجوابُ: أنَّ فعل العبد خلقُ الله ـ تعالى ـ عند أهل السُّنَّة، فلا سؤال.
وأمَّا عند المعتزلة: فلأنه ـ تعالى ـ خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد، وسائر الآلات، وعرف العباد صنعه التركيب، وخلق الرياح، وخلق الحركات القوية فيها، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن.
وأضاف التسخير إلى أمره؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل، وإنَّما يقال: أمر، قال تعالى:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل:40] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات، ولما كانت تجري على وجه الماء، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر.
ثم قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ }، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات، فأنعم الله ـ تعالى ـ على الخلق بتفجير الأنهار، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات، وأيضاً: فماء البحر لا يصلحُ للشرب، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار.
ثم قال ـ عز وجل ـ { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } والانتفاع بهما عظيم قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ
{ وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } [نوح:16] { وَقَمَراً مُّنِيراً } [الفرقان:61] { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [يونس:5]، وتأثيرهما في إزالة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة.
ثم قال: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } ومنافعهما مذكورة في القرآن، كقوله
{ وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ:10، 11]، وقوله تعالى: { جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [القصص:73].
قال المتكلمون: تسخير الليل، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ، والأعراض لا تسخَّر.
ثم قال ـ عزَّ وجلَّ ـ: { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي: أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع ما لا يأتي على بعضها التَّعداد.
ثمَّ قال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } قال الواحديُّ: "النِّعْمةُ ههنا اسم أقيم مقام المصدر، يقال: أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً، ونِعْمةً، أقيم الاسم مقام الإنعام، كقوله: أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر".
وقال غيره: "النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به".
وخُتِمَت هذه الآية بـ { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ } ونظيرها في النحل بـ
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل:18] لأن في هذه تقدم قوله ـ عز وجل ـ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً } [إبراهيم:28] وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [إبراهيم:30] فجاء قوله { إِنَّ ٱلإنْسَانَ } شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك.
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات، وبالغ فيها، وذكر قوله ـ جلّ ذكره ـ
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [النحل:17] أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين.
وقال ابن الخطيب: "كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما: كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند إعطائها وهما: كوني غفوراً رحيماً، فكأنه ـ تعالى ـ يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم، أعلم عجزك، وقصورك، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء".