التفاسير

< >
عرض

فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٣٧
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٨
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٩
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٤٠
-مريم

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ }.
قيل: المرادُ النَّصارى، سُمُّوا أحزاباً؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النُّسْطُوريَّة، والملكانيَّة [واليعقُوبيَّة] وقيل: المراد بالأحزاب الكفَّارُ بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ، والنصارى، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه، ويؤيِّدهُ قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
قوله: { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ }: "مَشْهَد" مفعل: إمَّا من الشَّهادة، وإمَّا من الشُّهود، وهو الحضورُ، و "مَشْهَد" هنا: يجوز أن يراد به الزمانُ، أو المكان، أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمرادُ به الزمانُ، فتقديرهُ: من وقتِ شهادة، وإن أريد به المكانُ، فتقديره: من مكانِ شهادةِ يومٍ، وإن أريد به المصدرُ، فتقديره: من شهادة ذلك اليومِ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، والملائكة ُ، والأنبياءُ، وإذا كان من الشُّهود فيه، وهو الموقفُ، أو من وقت الشُّهود، وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع؛ كقوله
{ { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4]. ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة، وإمَّا مجازاً.
ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله.
قوله: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ }: هذا لفظ أمرٍ، ومعناه: التعجُّب، وأصحُّ الأعاريب فيه، كما تقرَّر في علم النَّحو: أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ، والباءُ زائدة، وزيادتها لازمةٌ؛ إصلاحاً للفظ؛ لأنَّ "أفْعِلْ" أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ؛ كقوله: [الطويل]

3606- تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرىءٍ أنْ تَسَرْبَلا

أي: بأنْ تسربل، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في "أفْعِلْ" ولنا قولٌ ثانٍ: أن الفاعل مضمرٌ، والمراد به المتكلِّمُ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ.
ولنا قولٌ ثالثٌ: أن الفاعل ضمير المصدرِ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقدير: أحسن، يا حُسْنُ، بزيدٍ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية، فإنَّ تقديره: وأبْصِرْ بهم، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو.
فصل في التعجب
قالوا: التعجُّب استعظام الشيء، مع الجهل؛ بسبب عظمه، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله.
قال الفرَّاء: قال سفيانُ: قرأتُ عن شريحٍ: { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } [الصافات: 12] فقال: إنَّ الله لا يعجبُ من شيء، إنما يعجبُ من لا يعلم، قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ - رضي الله عنه - فقال: إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ }.
ومعناه: أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا، فللتعجُّب صيغتان:
إحداهما: ما أفعلهُ، والثانيةُ أفعل به.
كقوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويُّون ذكروا له تأويلان:
الأول: قالوا: أكْرِمْ بزيدٍ، أصل "أكرم زيدٌ" أي: صار ذا كرمٍ، كـ "أغَدَّ البَعِيرُ" أي: صار ذا غُدَّة، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر، ومعناه الخبرُ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر؛ كقوله سبحانه وتعالى:
{ { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } [البقرة: 228]، { { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233]، { { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [مريم: 75] أي: يمُدُّ له الرحمنُ، والباء زائدةٌ.
الثاني: أن يقال: إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً، أي: بأن يصفه بالكرمِ، والباء زائدةٌ؛ كما في قوله:
{ { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195].
قال ابن الخطيبِ: وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً؛ وهو أن قولك: أكرم بزيدٍ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً، فهو الذي يلصقك بمقصُودك ويحصِّلُ لك غرضك.
فصل في معنى الآية
المشهورُ أنَّ معنى قوله: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } "ما أسمعهُمْ، وما أبْصَرهُم" والتعجُّب على الله تعالى محالٌ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا.
وقيل: معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ، ويصدعُ قلوبهم.
وقال القاضي: ويحتملُ أن يكون المرادُ: أسمع هؤلاء وأبصرهم، أي: عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا؛ ليعتبروا وينزجروا.
وقال الجُبَّائيُّ: ويجوز: أسمع النَّاسَ بهؤلاء، وأبصرهُم بهؤلاءِ، ليعرفُوا أمرهُم، وسُوء عاقبتهم، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم.
قوله تعالى: { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ لـ "أبْصِرْ". [ولا يجوز أن يكون معمولاً لـ "أسْمِعْ" لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب، ومعموله؛ ولذلك كان الصحيح أنه] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال، وقيل: بل هو أمرٌ حقيقة، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى: أسمعِ النَّاس، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
قوله تعالى: { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ }.
نصب "اليَوْمَ" بما تضمَّنه الجار من قوله "في ضلالٍ مُبينٍ" أي: لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يخبر عن الجثة [بالزمَّان؛ بخلاف] قولك: القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ؛ فإنَّهُ يجوز الاعتباران.
فصل في معنى الآية
المعنى: { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: خطأ بيِّنٍ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ.
وقيل: لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة؛ بخلاف المؤمنين.
وقوله { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ } من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر.
قوله: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ } هذا أمرٌ لمحمَّد - صلوات الله عليه وسلامه - بأن ينذر من في زمانه، والإنذار: التخويفُ من العذاب، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى، ويوم الحسرة: هو يوم القيامة؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار.
وقيل: يتحسَّر أيضاً في الجنَّة، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية؛ لقول رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه -:
"مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ، قالوا: فَما ندمهُ يا رسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ كان مُحْسناً، ندم ألاَّ يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ" والأول أصحُّ؛ لأن الحسرة [هَمٌّ]، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة.
قوله: { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ }: يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ، والمصدرُ المعرَّفُ بـ "ألْ" يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم، فكيف بالظَّرف؟ ويجوز أن يكون بدلاً من "يَوْم" فيكون معمولاً لـ "أنْذِرْ" كذا قال أبو البقاء، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان، ولم يذكر غير البدل، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي، فإن جعلت "اليوم" مفعولاً به، أي: خوِّفهُم نفس اليوم، أي: إنَّهُمْ يخافُون اليوم نفسهُ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة.
فصل في قوله تعالى { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ }
في قوله تعالى: { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } وجوه:
أحدها: قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل، وشرح أمر الثَّواب والعقاب.
وثانيها: [إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا، وزوالِ التَّكليف، والأول أقرب؛ لقوله: { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
وثالثها:] { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } فُرِغَ من الحساب، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النَّار النَّار، وذُبح الموتُ؛ كما روي أنَّه
"سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قوله: { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } فقال: حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلحَ، فيذبحُ، والفريقان ينظران؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ، وأهلُ النَّار غمًّا إلى غمٍّ" .
قوله تعالى: { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملتان حاليتان، وفيهما قولان:
أحدهما: أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله { في ضلالٍ مبينٍ } أي: استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ على هاتين الحالتين السيئتين.
والثاني: أنهما حالان من مفعول "أنذِرْهُم" [أي: أنذرهُم على هذه الحالِ، وما بعدها، وعلى الأول يكون قوله "وأنْذِرْهُم"] اعتراضاً.
والمعنى: وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون بذلك اليومِ.
قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } أي: نُميتُ سُكَّان الأرض، ونُهلِكُهم جميعاً، ويبقى الرَّبُّ وحده، فيرثُهُم { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }، فنجزيهم بأعمالهم.
[وقرأ العامَّةُ "يُرْجَعُون" بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول، والسُّلمي، وابن أبي إسحاق، وعيسى مبنيًّا للفاعل، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكون التفاتاً، وألا يكون].