التفاسير

< >
عرض

مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
١٠٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

لما بين حال اليهود والكفار في العَدَاوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحَذَر منهم فقال: { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين.
قوله: { مِنْ أَهْلِ ٱلكِتَابِ }: في "من" قولان:
أحدهما: أنها للتبعيض، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال، ويتعلّق بمحذوف أي: ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.
والثاني: أنها لبيان الجنس، وبه قال الزمخشري؛ لأن "الذين كفروا" جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى:
{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ } [البينة:1].
قوله: "وَلاَ الْمُشْرِكِينَ" عطف على "أهل" المجرور بـ "من" و "لا" زائدة للتوكيد؛ لأن المعنى: ما يود الذين كفورا من أهل الكتاب والمشركين كقوله:
{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ } [البينة:1] بغير زيادة "لا".
وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار، وأن الأصل ولا المشركون، عطفاً على الذين، وإنما خفض للمجاورة، نحو
{ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة:6] فى قراءة الجر، وليس بواضح.
وقال النحاس: ويجوز: ولا المشركون بعطفه على "الذين" وقال أبو البقاءرحمه الله : وإن كان قد قرىء: "وَلاَ المُشْرِكُونَ" بالرفع فهو عطف على الفاعل، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفض على الجوار.
قوله: "أَن يُنَزَّلَ" ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول بـ "يودّ" أي: ما يود إنزاله من خير، وبني الفعل للمفعول للعمل بالفاعل؛ وللتصريح به في قوله: "مِنْ ربِّكُمْ"، وأتي بـ "ما" في النفي دون غيرها؛ لأنها لنفي الحال، وهم كانوا متلبّسين بذلك.
قال القُرْطبي: و "أن" في موضع نصب، أي بأن ينزل.
قوله: "مِنْ خَيْرٍ" هذا هو القائم مقام الفاعل، و "من" زائدة، أي: أن ينزل خير من ربكم.
وحسن زيادتها هنا، وإن كان "ينزل" لم يباشره حرف النفي؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى؛ لأنه إذا نفيت الوَدَادَة انتفى متعلّقها، وهذا له نظائر في كلامهم نحو: "ما أظن أحداً يقول ذلك إلاَّّ زيد" برفع "زيد" بدلاً من فاعل "يقول" وإن لم يباشر النفي، لكنه في قوة: "ما يقول أحد ذلك إلاَّ زيد في ظني".
وقوله تعالى:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [الأحقاف:33] زيدت "الباء"؛ لأنه في معنى: أو ليس الله بقادر، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه.
وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا.
وقيل "من" للتبعيض، أي: ما يودون أن يُنَزَّل من الخير قليل ولا كثير، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل: "عليكم"، والمعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخُيُور.
والمراد بالخير ـ هنا ـ الوَحْي.
والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله: { وَٱللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ }.
قوله: "مِّن رَبِّكُمْ" في "من" أيضاً قولان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، فتتعلّق بـ "ينزّل".
والثاني: أنها للتبعيض، ولا بد حينئذ من حَذْف مضاف تقديره: من خُيُور ربّكم، وتتعلق حينئذ بمحذوف، لأنها ومجرورها صفة لقوله: "من خير" أي: من خير كائن من خُيُور ربكم، ويكون في محلّها وجهان:
الجر على اللفظ، والرفع على الموضع، لأن "من" زائدة في "خير"، فهو مرفوع تقديراً لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.
وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ "من" قولين:
الأولى: قيل: إنها للتبعيض، وقيل: أو لبيان الجنس.
وفي الثانية قولان: زائدة أو للتعبيض.
وفي الثالثة: أيضاً قولان: لابتداء الغاية، أو التبعيض.
قوله: { وَٱللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ وَدَادَتهم ذلك.
و "يختص" يحتمل أن يكون متعديًّا، وأن يكون لازماً، فإن كان متعدياً كان فيه ضمير يعود على الله تعالى، وتكون "من" مفعولاً به أي يختص الله الذي يشاؤه برحْمته، ويكون معنى "افتعل" هنا معنى المجرد نحو: كسب مالاً واكتسبه، وإن كان لازماً لم يكن فيه ضمير، ويكون فاعله "من" أي: والله يختصّ برحمته الشَّخص الذي يشاؤه، ويكون "افتعل" بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو: اضطراب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا [يتبين فساد] قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس إلاّ.
و "مَنْ" يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد، أي: يشاء اختصاصه.
ويجوز أن يضمن "يشاء" معنى يختار، فحينئذ لا حاجة إلى حَذْف مضاف، بل تقدره ضميراً فقط أي: يشاؤه، و "يشاء" على القول الأول لا محلّ له لكونه صلةً، وعلى الثاني محلّه النَّصب، أو الرفع على [حسب] ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلاً أو مفعولاً.
فصل في تفسير الرحمة في الآية
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يختصّ برحمته" أي بنبوّته، خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الرحمة القرآن.
وقيل: هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاً.