التفاسير

< >
عرض

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً:
أحدها: أنه ـ تعالى ـ لما حكم بجواز النسخ في الشرائع، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم، فمنعهم الله ـ تعالى ـ عنها، وبين أنَّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة ولسلام].
وثانيها: لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم: إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه السلام ما ليس له أن يسأله. عن أبي مسلم.
وثالثها: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و "أم" هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [لقوله تعال: "ألم تعلم" وهي مفرقة لما جمعته أي: كما أن "أو" مفرقة لما جمعته تقول: اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً، فإذا قلت: اضرب أحدهم.
قلت: اضرب زيداً أو عمراً.
أو تكون منقطعة، فتقدم بـ "بل" والهمز، ولا تكون إِلاَّ بعد كلام تام كقوله: إنما الإبل أم شاء؛ كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى:
{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } [هود:35] أي: يقولون.
قال الأخْطَلُ: [الكامل]

730ـ كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ

ويكون إضراباً للالتفات من قصّة إلَى قصة].
قال أبو البقاء: أم هنا منقطعة، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أَيّهُما، والهمزة من قوله: "ألم تعلم" ليست من "أم" في شيء، والمعنى: بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام.
وأصل تريدون: "تُرْوِدُون"؛ لأنه من رَادَ يَرُودُ، وقد تقدّم، فنقلت حركة "الواو" على "الراء"، فسكنت "الواو" بعد كسرة فقلبت ياء.
وقيل: "أم" للاستفهام، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها.
وقيل: هي بمعنى "بل" وحدها، وهذان قولان ضعيفان.
قوله تعالى: "أَنْ تَسْأَلُوا" ناصب ومنصوب في محل نصب مفعولاً به بقوله: "تريدون" أي: أتريدون سؤال رسولكم.
قوله: "كَمَا سُئِلَ" متعلق بـ"تسألوا" و "الكاف" في محلّ نصب، وفيها التقديران المشهوران: فتقدير سيبويه ورحمه الله تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف.
أي: إن تسألوه أي: السؤال حال كونه مُشَبَّهاً بسؤال قوم موسى له، وتقدير جمهور النحاة: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و "ما" مصدرية، أي: كسؤال موسى. [وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى] و "موسى" مفعول لم يسمّ فاعله، حذف الفاعل للعلم به، أي كما سأل قوم موسى.
والمشهور: "سئل" بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسن: "سِيلَ" بكسر السين وياء بعدها من: سال يسال نحو: خفت أخاف، وهل هذه الألف في "سال" أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه، وسيأتي تحقيقه في "سأل" وقرىء بتسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ و "من قبل" متعلّق بـ "سئل"، و "قبل" مبينة على الضم؛ لأن المضاف إليه معرفة أي: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدماً على سؤالهم.
قوله: "بالإيمان" فيه وجهان:
أحدهما: أنها ياء العِوَضية، وقد تقدم تحقيق ذلك.
والثاني: أنها للسببية.
قال أبو البقاء: يجوز أن يكون مفعولاً يتبدّل، وتكون الباء للسبب، كقولك: اشتريت الثوب بدرهم، وفي مثاله هذا نظر.
وقوله تعالى: { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } قرىء بإدغام الدَّال في الضاد وإظهارها.
و "سواء" قال أبو البقاء: سواء السبيل ظرف بمعنى وسط السبيل وأعدله، وهذا صحيح فإن "سواء" جاء بمعنى وسط.
قال تعالى:
{ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات:55].
وقال عيسى بن عمر: ما زلتُ أكتب حتى انقطع سَوَائِي؛ وقال حَسَّان: [الكامل]

731ـ يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ورَهْطِهِ بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المْلْحَدِ

ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير: [الوافر]

732ـ أَرُونَا خُطَّةً لاَ عَيْبَ فِيهَا يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيْهَا السَّوَاءُ

والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان، فهو جَارٍ على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم، فالمُبَدِّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه: إنه ضل سواء السبيل.
والسبيل يذكر ويؤنث:
{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ } [يوسف:108].
والجملة من قوله: "فقد ضَلَّ" في محل جزم؛ لأنها جزاء الشرط، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطاً.
فصل في المخاطب بهذا
في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه:
أحدها: [أنهم المسلمون قاله الأصم، والجُبَّائي، وأبو مسلم، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن قوله تعالى]: "أَمْ تُرِيدُونَ" يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا } فكأنه قال: وقولوا: انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟
وثانيها: أن المسلمين كان يسألون محمداً ـ صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ـ عن أمور لا خير لهم في البَحْثِ عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما لم يَكُنْ لهم فيه خير عن البحث عنه.
وثالثها: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أَنْوَاطٍ كما كان للمشركين ذات أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونها، ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة.
القول الثاني: أنه خطاب لأهل "مكة"، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رهط من قريش فقال: يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد، ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً [من عند الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فأتبعوه. وقال له بقية الرَّهْط: فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من] عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك، فنؤمن لك عند ذلك.
فأنزل الله تعالى: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ } محمداً أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا:
{ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة:55]. وعن مجاهدرحمه الله تعالى أنّ قريشاً سألت محمداً عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصَّفا ذهباً وفضّة، فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا.
القول الثالث: المراد بهم اليهود، [وهذا القول أصح، لأن هذه السورة من أول قوله]:
{ يَٰبَنِي إِسْرَاءِِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [البقرة:47] حكاية ومحاجّة معهم؛ ولأن الآية مدنية، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم.
فصل في سؤالهم
[قال ابن الخطيبرحمه الله تعالى: ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفيته، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة.
فإن قيل: إن كان ذلك السؤال طلباً للمعجزة فليس بكفر؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً، وإن كان طلباً لوجه الحكمة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراً؛ لأن الملائكة ـ عليهم السلام ـ طلبوا الحكمة في خَلْق البشر، ولم يكن ذلك كفراً. والجواب أن يُحمل على أنهم طلبوا أن يُجعل لهم إله كما لهم آلهة، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنُّت، أو اللِّحَاج، فهذا كفر، والسبب هذا السؤال، والله أعلم].