التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قال القاضيرحمه الله تعالى: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } [البقرة:127] وإن كان متأخراً في التلاوة، فهو متقدم في المعنى.
قوله تعالى: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً ءَامِناً } والجعل هنا يعني التَّصيير، فيتعدّى لاثنين فـ "هذا" مفعول أول و "بلداً" مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان، و "آمناً" صفة أي ذا أمن نحو:
{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة:21] أو آمناً من فيه نحو: ليلُهُ نائم. والبلد معروف، وفي تسميته قولان:
أحدهما: أنه مأخوذ من البلد.
والبلْد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت، أي: صدرها، والبلد صدر القرى، فسمي بذلك.
والثاني: أن البلد في الأصل الأثر، ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه.
وقيل لبركة البعير: "بَلْدَة" لتأثيرها في الأرض إذا برك، قال الشاعر[الطويل]

783ـ أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَلِيلٌ بِهَا الأًصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُها

إنما قال في هذه السورة "بَلَداً آمناً" على التنكير.
وقال في سورة إبراهيم:
{ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم:35] على التعريف لوجهين:
الأول: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال:
{ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [إبراهيم:37].
فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً.
الثاني: أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً، فقوله: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً ءَامِناً } تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حارًّا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة، فقوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة، والله أعلم.
فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم
قيل: المراد من الآية دعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمؤمنين من سكّان "مكة" بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى "مكة" فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله ـ عز وجلّ ـ كما فعل بأصحاب الفيل.
فصل في الرد على بعض الشُّبهات
فإن قيل: أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير، وخرب الكَعْبة، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟
فالجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.
فإن قيل: ما الفائدة في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
{ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم:35]، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ قبل ذلك بقوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [البقرة:125]؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أن الله ـ تعالى ـ لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمناً، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده آمناً، فطلب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكون الأمن بجميع البلد.
وثانيها: أن يكون قوله تعالى:
{ { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلبَيْتَ } [البقرة:125] بعد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم:35] فيكون إجابة لدعائه، وعلى هذا فيكون مقدماً في التلاوة مؤخراً في الحكم.
وثالثها: أن يكون المراد من الأَمْنِ المذكور في قوله تعالى:
{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [البقرة:125] هو الأمن من الأعداء والخيف والخَسْف والمَسْخ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القَحْط، ولهذا قال: { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ }.
فإن قيل: الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين، وإذا كان البلد آمناً مخصباً تفرغ أهلها لطاعة الله ـ تعالى ـ وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
وثانيها: أنه ـ تعالى ـ جعله مثابة للناس، والناس إنما يمكنهم الذَّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنةً، والأقوات هناك رخيصة.
وثالثها: أن الأمن والخِصْب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر العظيمة، والمواقف الكريمة، فيكون الأمن تتمّةً في تلك الطاعة.
فصل في المراد بالأمن
اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل: الأمن من القَحْط؛ لأنه أسكن ذرّيته بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع.
وقيل: الأمن من الخَسْف والمَسْخ.
وقيل: الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي، واحتج عليه بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سأله الأمن أولاً، ثم سأله الرِّزْق ثانياً.
ولو كان المَطْلوب هو الأمن من القَحْط لكان سؤال الرِّزْق بعده تكرار، وقد يجاب بأنه: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخَسْف والمَسْخ، أو لعله الأمن من القَحْط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية، وقد يكون بالتَّوْسعة فيها، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القَحْطِ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.
قال القرطبيرحمه الله تعالى: دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن، ورَغَدِ العيش.
فروي أنه لما دعا بهذا أمر الله ـ تعالى ـ جبريل، فاقتلع "الطائف" من "الشام" فطاف بها حول البيت أسبوعاً، فسميت "الطائف" لذلك، ثم أنزلها "تهامة"، وكانت "مكة" وما يليها حين ذلك قَفْراً لا ماء فيها ولا نَبَاتَ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثَّمَرات.
فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟
اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟
فقالوا: إنها كانت كذلك أبداً لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ" .
قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } [إبراهيم:37] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكّده بهذا الدعاء.
وقيل: إنها إنما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقبله كانت كسائر البَلَدِ، والدليل عليه قوله عليه السلام:
"اللَّهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ المَدِيْنَةَ كَمَّا حَرَّمَ إِبْرَاهِيْمُ مَكَّةَ" .
وقيل: كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة.
قوله: "مَنْ آمَنَ" بدل بعض من كلّ، [وهو "أَهْلَهُ"] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه، و"من" في "مِنَ الثَّمَرَاتِ" للتبعيض.
وقيل: للبيان، وليس بشيء، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها.
فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدُّعاء
إنما خصَّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجهين:
الأول: أنه لما سأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل الإمامة في ذرّيته، قال الله تعالى:
{ { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة:124] فصار ذلك [تأديباً] في المسألة، فلما ميّز الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصّص المؤمنين بهذا الدُّعاء دون الكافرين.
الثاني: يحتمل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحَجّ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.
قوله: { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ } يجوز في "من" ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون موصولة، وفي محلّها وجهان:
أحدهما: أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره، قال الله: وأرزق من كفر، ويكون "فأمتعه" معطوفاً على هذا الفعل المقدر.
والثاني: [من الوجهين]: أن يكون في محلّ رفع بالابتداء، و "فأمتعه" الخبر، دخلت الفاء في الخبر تشبيهاً له بالشرط.
وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا، والرد عليه.
الثَّاني من الثلاثة الأوجه: أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع.
الثالث: أن تكون شرطية، ومحلّها الرفع على الابتداء فقط، و "فَأُمَتِّعُهُ" جواب الشرط.
ولا يجوز في "من" في جميع وجوهها أن تكون منصوبةً على الاشتغال.
أما إذا كانت شرطاً فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء، وفعل الشرط هنا غير ناصب لضميرها بل رافعة.
وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو "فأمتعه" شبيه بالجزاء، ولذلك دخلته الفاء، فكما أن الجزاء لا يفسر عاملاً فما أشبهه أولى بذلك، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون "من" مبتدأ، و"فأمتعه" الخبر؛ لأن "الذي" لا تدخل "الفاء" في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقاً بالصلة نحو: الذي يأتيني فله درهم، والكُفْر لا يستحقّ به التمتع.
فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو جعلت الخبر محذوفاً، و "فأمتعه" دليلاً عليه جاز تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه.
ويجوز أن تكون "من" شرطية، والفاء جوابها.
وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن كفر أرزق، و "من" على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل فعل الشرط انتهى.
أما قوله: "لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع" فليس بمسلّم، بل التمتُّع القليل والمصير إلى النار مستحقَّان بالكفر.
وأيضاً فإن التمتُّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّاً بالكفر؛ ولكن قد عطف عليه ما هو مستحقّ به، وهو المصير إلى النار، فناسب ذلك أن يقعا جميعاً خبراً.
وأيضاً فقد ناقض كلامه؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية، وهل الجزاء إلاَّ مستحق بالشرط، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به.
وأما تجويزه زيادة الفاء، وحذف الخبر، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها.
وقرىء "أُمْتِعُهُ" مخفَّفاً من أمتع يمتع، وهي قراءة ابن عامر رضي الله عنه، و "فأمتعه" بسكون العين، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه تخفيف كقوله: [السريع]

784ـ فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ .........................

والثاني: أن "الفاء" زائدة وهو جواب الشرط؛ فلذلك جزم بالسكون، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد { فَأمْتِعْهُ ثُمَّ اضْطرَه } على صيغة الأمر فيهما، ووجهها أن يكون الضمير في "قال" لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و "من" على هذه القراءة يجوز أن تكون مبتدأ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخراً عنها؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام.
وقال الزمخشري: "وَمَنْ كَفَر" عطف على "من آمن" كما عطف "ومن ذرّيتي" على الكاف في "جاعلك" قال أبو حيان: أما عطف "من كفر" على "من آمن" فلا يصح؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام؛ لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وارزق من كفر؛ لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل.
"من آمن" العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في "ومن كفر"، وإذا قدرته أمراً تنافى مع قوله: "فأمتعه"؛ لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع، وإلجائهم إليه ـ تعالى ـ وأن كلاًّ من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوز إلاَّ على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي: قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ: وازرق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أَضطره، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على "من" كما عطف "ومن ذريتي" على الكاف في "جاعلك".
فقال: فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟
فالجواب: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم، وأما الرزق فربما يكون استدراجاً.
والمعنى: قال: "وارزق من كفر فأمتعه" فظاهر قوله "والمعنى قال" أن الضمير في "قال" لله تعالى، وأن "من كفر" منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم.
و"قليلاً" نعت لمصدر محذوف أو زمان، وقد تقدم له نظائر واختيار سيبويه فيه.
وقرأ الجمهور: "أَضْطَرُّهُ" خبراً.
وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الهمزة، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال: إِخَال.
وقرأ ابن محيصن "أطَّرَّه" بإدغام الضاد في الطاء، [نحو]: اطَّجع في اضطجع وهي مَرْذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف: ضغم شقر، نحو: اطجع في اضطجع، قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الدَّاني اللام في
{ يَغْفِرْ لَكُم } [نوح:4] والضاد في الشين: { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } [النور:62] والشين في السين: { ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء:42].
وأدغم الكسائي الفاء في الباء:
{ نَخْسِفْ بِهِمُ } [سبأ:9].
وحكى سيبويهرحمه الله تعالى أن "مْضَّجَعاً" أكثر، فدلّ على أن "مطّجعاً" كثيرٌ.
وقرأ يزيد بن أبي حبيب: "أَضطُرُّهُ" بضم الطاء كأنه للإتباع.
وقرأ أبي: "فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَّرُّهُ" بالنون.
واضطر افتعل من الضُّرِّ، وأصله: اضْتَرَّ، فأبدلت التاء طاء؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدٍّ، وعليه جاء التنزيل؛ وقال: [البسيط]

785ـ إِضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَإٍ .....................

والاضطرار: الإلجاء والإلزاز إلى الأمر المكروه.
قوله: "أُمَتِّعُهُ" قيل: بالرزق.
وقيل: بالبقاء في الدنيا.
وقيل: بهما إلى خروج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقتله أو يخرجهُ من هذه الديار إن قام على الكُفْر، [وقيد المتاع بالقلّة]؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد.
وفي الاضطرار قولان:
أحدهما: أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه، كما قال الله تعالى:
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور:13] و { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [القمر:48] يقال اضطررته إلى الأمر أي: ألجأته [وحملته عليه] وقالوا: إن أصله من الضَّر؛ وهو إدناء الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوّها.
الثاني: أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختياراً، كقوله تعالى:
{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [البقرة:173] فوصفهُ بأنه مضطر إلى تناول الميتة، إن كان ذلك الأكل فعله، فيكون المعنى: أن الله ـ تعالى ـ يلجئه إلى أن يختار النار، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده.
قوله: "وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" المصير فاعل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: النار ومصير: مفعل من صار يصير، وهو صالح للزمان والمكان.
وأما المصدر فقياسه الفتح؛ لأن ما كسر عين مضارعه، فقياس ظرفيه الكسر ومصدره الفتح، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب.
أحدها: كالصحيح [وقد تقدم].
والثاني: أنه مخير فيه.
والثالث: أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى، فإن كان "المصير" في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبئس المصير النّار كما تقدم، وإن كان مصدراً على رأي من أجازه فالتقدير: وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النَّار.