التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٣٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

والكلام في "أو" [كالكلام فيها عند] قوله: { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة:111].
و "تهتدوا" جزم على جواب الأمر، وقد عرف ما فيه من الخلاف: أعني هل جزمه بالجملة قبله، أو بـ "إن" مقدرة.
قوله: "مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ" قرأ الجمهور: "ملّة" نصباً، وفيها أربعة أوجه:
أحدها: أنه مفعول فعل مضمر، أي بل نتبع ملة؛ [فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه] لأن معنى كونوا هوداً: اتبعوا اليهودية أو النصرانية.
الثاني: أنه منصوب على خبر "كان"، أي: بل نكون ملّة أي: أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم: "إني من دين" أي من أهل دين، وهو قول الزَّجَّاج، وتبعه الزمخشري.
الثالث: أنه منصوب على الإغْرَاء، أي: الزموا ملّة، وهو قول أبي عبيدة، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به، وإن اختلف العامل.
الرابع: أنه منصوب على إسقاط حرف الجر، والأصل: نقتدي بملّة إبراهيم، فلما حذف الحرف انتصب.
وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيكون تقدير الفعل: بل نكون، أو نتبع، أو نقتدي كما تقدم، وإن يكون خطاباً للكفار، فيكون التقدير: كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا.
وقرأ ابن هرمز، وابن أبي عبلة "مِلَّةُ" رفعاً وفيها وجهان:
أحدهما: أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: بل ملتنا ملّة إبراهيم، أو نحن ملة، أي: أهل ملة.
الثاني: أنها مبتدأ حذف خبره، تقديره: ملة إبراهيم ملتنا.
قوله: "حَنِيفاً" في نصبه أربعة أقوال:
أحدها: أنه حال من "إبراهيم"؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياساً في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم.
أحدها: أن يكون المضاف عاملاً عمل الفعل.
الثاني: أن يكون جزءاً نحو:
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [الحجر:47].
الثالث: أن يكون الجزء كهذة الآية؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء.
والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه، ولو كان المضاف جزءاً، قالوا: لأن الحال لا بد لها من عامل، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام، أو معنى الإضافة، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل.
ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك: "رأيت وجه هند قائمة"، وهو قول الزجاج.
الثاني: نصبه بإضمار فعل، أي: نتبع حنيفاً وقدره أبو البقاء، بـ "أعني"، وهو قول الأخفش الصغير، وجعل الحال خطأ.
الثالث: أنه منصوب على القطع، وهو رأي الكوفيين، وكان الأصل عندهم: إبراهيم الحنيف، فلما نكره لم يمكن إتْباعه، وقد تقدم تحرير ذلك.
الرابع: وهو المختار: أن يكون حالاً من "ملّة" فالعامل فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وتكون حالاً لازمة؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف، وكذلك على القول بجعلها حالاً من "إبراهيم"؛ لأنه لم ينتقل عنها.
فإن قيل: صاحب الحال مؤنث، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث، فيقال: حنيفة.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن "فعيلاً" يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والثاني: أن الملّة بمعنى الدين، ولذلك أبدلت منه في قوله
{ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [الأنعام:161] ذكر ذلك ابن الشَّجَرِيِّ في "أماليه".
و "الحَنَفُ": الميل، ومنه سمي الأَحْنَفُ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى؛ قالت أُمُّهُ: [الرجز]

809ـ وَاللهِ لَوْلاَ حَنَفٌ بِرِجْلِهِ مَا كَانَ في فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ

ويقال: رجل أَحْنَفُ، وامرأة حَنْفَاءُ.
وقيل: هو الاستقامة، وسمي المائل الرِّجْل بذلك تفاؤلاً؛ كقولهم لِلَّدِيغ "سَلِيم" ولِلْمَهْلكة: "مَفَازة" قاله ابن قتيبة [وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ].
وقيل: الحَنيفُ لقب لمن تديَّن بالإسلام؛ قال عَمْرٌو: [الوافر]

810ـ حَمِدْتُ اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي إلى الإسْلاَمِ وَالدِّينِ الحَنِيفِ

[قاله القفال. وقيل: الحنيف: المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه].
قاله الزجاج؛ وأنشد: [الوافر]

811ـ وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا حَنِيْفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِيْنِ

وأما عبارات المفسرين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين: الحنيفية حج البيت.
وعن مجاهد أيضاً: اتباع الحق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقيل: اتباع شرائع الإسلام.
وقيل: إخلاص الدين قاله الأصم.
وقال سعيد بن جبير: هي الحج الحسن، وقال قَتَادة: الحنيفية الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وإقامة المناسك.
قوله: { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا؛ لأن بعض اليهود قالوا: عزيزٌ ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وذلك شرك.
وأيضاً إن الحنيف اسم لمن دَانَ بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه ـ عليه السلام ـ أتى بشرائع مخصوصة، من حجّ البيت والخِتَان وغيرهما، فمن دَانَ بذلك فهو حنيف، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء، ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا "حنيفاً، وما كان من المشركين" ونظيره قوله:
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [يوسف:106].
فصل في الكلام على هذه الآية
اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله: "ملّة إبراهيم حنيفاً" وتقديره: إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأن هؤلاء المختلفين قد "اتفقوا" على صحّة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المقول على التقليد، فالرجوع إلى دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وترك اليهودية والنصرانية أولى.
فإن قيل: اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو كانوا مقرين به، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه، فكان الأخذ به أولى.
فالجواب: أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أثبت الولد لله ـ تعالى ـ فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
فالجواب أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتَّثْليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنّ محمداً عليه الصلاة والسلام لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم.
فصل
[اعلم أن قوله تعالى: { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } ليس المراد منه التخيير، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تُجَوِّزُ اختيار النصرانية على اليهودية، بل تزعم أنه كفر، وكذلك أيضاً حال النصارى، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية، والنصارى إلى النصرانية، فكل فريق يدعو إلى دينه، ويزعم أنه على الهدى].