التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

جمهور القراء على تنوين "كلّ"، وتنوينهُ للعوض من المضاف إليه، والجار خبر مقدم، و"وِجْهَة" مبتدأ مؤخر.
واختلف في المضاف إليه "كل" المحذوف.
فقيل: تقديره: ولكل طائفة من أهل الأديان [يعني: أن الله يفعل ما يعلمه صلاحاً، فالجهات من الله تعالى وهو الذي ولَّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء، وقولهم: "ما ولاّهم عن قبلتهم أي التي كانوا عليها" فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة].
وقيل: ولكل أهل موضع من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراء وقدّام [فهي كجهة واحدة، ولا يخفى على الله نيّاتهم؛ فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم]. وفي "وجهة" قولان:
أحدهما: ويعزى للمبرد، والفارسي، والمازني في أحد قوليه: أنها اسم المكان المتوجه إليه، وعلى هذا يكون إثبات "الواو" قياساً إذ هي غير مصدر.
قال سيبويه ولو بنيت "فِعْلَة" من الوعد لقلت: وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت: عدة.
والثاني: أنه مصدر، ويعزى للمازني، وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذكر حذف "الواو" من المصادر: "وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة" وعلى هذا يكون إثبات "الواو" شاذَاً مَنْبَهَةٌ على ذلك الأصل المتروك في "عدة" ونحوها، والظاهر أن الذي سوغ إثبات "الواو" وإن كانت مصدراً أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرهما التوجه والاتجاه، ولم يسمع في فعله: "وَجَهَ يَجِهُ" كـ"وعد يَعِدُ"، وكان الموجب لحذف "الواو" من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه، فلذلك قلت: إن "وِجْهَة" مصدر على حذف الزوائد لــ"توجه" أو "اتجه"، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا.
قال القرطبي: الوِجْهَة وزنها فِعْلَة من المُوَاجهة.
والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القِبْلة، أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة: إما بحق، وإما بهوى.
فصل في لفظ الوجه
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب: الأول: بمعنى الملّة، قال تبارك وتعالى: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } أي: ملّة.
الثاني: بمعنى الإخلاص في العمل، قال تعالى:
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } [الأنعام: 79] أي: أخلصت عملي، ومثله: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [النساء: 122] أي: أخلص عمله لله.
الثالث: بمعنى الرِّضَا، قال تعالى:
{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام: 52] أي: رضاه، ومثله: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ } [الكهف: 28] الآية الكريمة، ومثله: { وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَٰوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } [الروم: 39] أي: رضاه.
الرابع: الوجه هو الله تعالى كقوله تعالى:
{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة: 115]، ومثله: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } [الإنسان: 9]، وقوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] أي: إلاّ إياه.
قوله تعالى: "هُوَ مُوَلِّيهَا" جملة مبتدأ وخبر في محلّ رفع؛ لأنها صفة{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } لـ"وجهة" [وهي قراءة الجمهور] واختلف في "هو" على قولين:
أحدهما: أنه يعود على لفظ "كلّ" لا على معناها، ولذلك أفرد [قال القرطبي: ولو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول]. والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره: هو موليها وجهه أو نفسه، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر: "مُوَلاَّها" على ما لم يسم فاعله.
والثاني: أنه يعود على الله - تعالى - أي: الله مولّي القبلة إياه، أي ذلك الفريق.
وقرأ الجمهور: "مُوَليها" على اسم فاعل، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه، وقرأ ابن عامر - ويعزى لابن عباس - "مُوَلاَّها" على اسم المفعول، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني: هو الضمير المتصل به وهو "ها" العائد على الوجهة.
وقيل: على التولية ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود "هو" إلى الفريق؛ إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى. [ولقراءة ابن عامر معنيان:
أحدهما: ما وليته فقد ولاّك؛ لأن معنى وليته أي: جعلته بحيث يليه، وإذا صار بحيث يلي ذاك، فذاك أيضاً يلي هذا، فإذاً قد يفيد كل واحد منهما الآخر.
فهو كقوله تعالى:
{ فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [البقرة: 37] فهذا قول الفراء.
الثاني: "هُوَ مُوَلِّيها" أي: قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها].
وقرأ بعضهم: "وَلَكُلِّ وجهة" بالإضافة، ويعزى لابن عامر، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها، وهو قول الطبري: أنها خطأ، وهذا ليس بشيء؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل.
[قال ابن عطية: وخطأها الطبري وهي متّجهة أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه أي: إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله: "ولكلٍّ وجهةٌ" على الأمر في قوله: "فَاسْتَبقوا الخيرات" للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول.
وذكر أبو عمرو الدَّاني هذه القراءة عن ابن عَبَّاس].
والثاني: وهو قول الزمخشري وأبي البقاء أن "اللام" زائدة في الأصل.
قال الزمخشري: المعنى وكلّ وجهة اللَّهُ مولّيها، فزيدت "اللام" لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه.
قال أبو حيان: وهذا فاسد؛ لأن العامل إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور بــ"اللام" لا تقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه، لئلا يلزم أحد محذورين، وهما: إما لأنه يكون العامل قوياً ضعيفاً. [وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّاً ومن حيثُ تعدى للظاهر بـ"اللام" يكون ضعيفاً]، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعدياً لاثنين، ولذلك تأول النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله: [البسيط].

840 - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ

على أن الضمير في "يدرسه" للمصدر أي: يدرس الدرس لا للقرآن؛ لأن الفعل قد تعدى إليه.
وأما تمثيله بقوله: "لزيد ضربت"، فليس نظير الآية؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميره، ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال، فتقدر عاملاً في: "لكل وجهة" يفسره "موليها"؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف تقول: زيداً مررت به، أي: لابست زيداً مررت به، ولا يجوز: لزيد مررت به.
قال تعالى:
{ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ } [الإنسان: 31]، وقال: [الوافر]

841 - أَثَعْلَبَةَ الْفَوارِسِ أَمْ رِيَاحاً عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا

فأتى بالمشتغل عنه منصوباً، وأما تمثيله بقوله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي.
الثالث: أن "لكلّ وجهة" متعلق بقوله: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة، وإنما قدم على العامل للاهتمام به، كما تقدم المفعول، كا ذكره ابن عطية.
ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن "لكل وجهة" في موضع المفعول الثاني لـ"مولّيها"، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو "مولّ"، وهو "ها"، وتكون عائدة على الطوائف، ويكون التقدير: وكلَّ وجهة اللَّهُ مولِّي الطوائف أصحاب القِبْلاَت، وزيدت "اللام" في المفعول لتقدمه، ويكون العامل فرعاً؛ لأن النحويين نصُّوا على أنه لا يجوز زيادة "اللام" للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط، و"مولّ" مما يتعدّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر، فلا يتعدى لضميره، وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل بـ"مول" ليس بضمير المفعول، بل ضمير المصدر وهو التَّولية، يكون المفعول الأول محذوفاً والتقدير: الله مولي التولية كلَّ وجهةٍ أَصْحَابَها، فلما قدم المفعول على العامل قوي بـ"اللام" لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة.
قوله تعالى: "فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ""الخيرات" منصوبة على إسقاط حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات، كقول الراعي: [الطويل]

842 - ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيرُ مَائلِ

أي: إلى سواكم، وذلك لأن "استبق": إما بمعنى سبق المجرد، أو بمعنى: تسابق [لا جائز أن يكون بمعنى: سبق؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات، فبقي أن يكون بمعنى: تسابق] ولا يتعدى بنفسه.
و"الخيرات" جمع: خيرة، وفيها احتمالان.
أحدهما: أن تكون مخففة من "خَيِّرة" بالتشديد بوزن "فَيْعِلة" نحو: مَيْت في مَيِّت.
والثاني: أن تكون غير مخففة، بل تثبت على "فَعْلَة" بوزن "جَفْنَة"، يقال: رجل خير وامرأة خير، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل.
والسبق: الوصول إلى الشيء أولاً، وأصله التقدم في السير، ثم تجوز به في كل ما تقدم.
فصل في المسابقة إلى الصلاة
من قال: إنَّ الصلاة في أول الوقت أفضل استدل بقوله: "فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ"؛ قال: لأن الصلاة خير لقوله عليه الصلاة والسلام
"خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ" وظاهر الأمر بالسبق للوجوب، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب.
وأيضاً قوله تعالى:
{ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [الحديد: 21] ومعناه: إلى ما يوجب المغفرة، والصلاة مما يوجب المغفرة، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة.
وأيضاً قوله تعالى:
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة: 10 - 11].
والمراد منه: السابقون في الطاعات، والصلاة من الطاعات، وأيضاً أنه مدح الأنبياء المقدمين بقوله تعالى:
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } [الأنبياء: 90]، والصلاة من الخيرات، كما بَيّنا.
وأيضاً أنه تعالى ذم إبْليس في ترك المُسَارعة فقال:
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف: 12].
وأيضاً قوله تعالى:
{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ } [البقرة: 238] والمحافظة لا تحصل إلا بالتَّعْجيل، ليأمن الفوت بالنسيان.
وأيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:
{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [طه: 84] فثبت أن الاستعجال أولى.
وأيضاً قوله تعالى:
{ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً } [الحديد: 10] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة، وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصَّلاَةُ في أَوَّلِ الوَقْتِ رَضْوَانُ اللَّهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ" .
قال الصديق رضي الله عنه: رضوان الله أحب إلينا من عَفْوه.
قال الشافعي رضي الله عنه: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين.
فإن قيل: هذا احتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير، وأجمعنا على أنه لا يأثم، فلم يبق إلا أن يكون معناه: أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله، فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان، فكان التأخير أوْلى.
فالجواب: أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل، وذلك لم يقله أحد، وأيضاً عدم المُسَارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات، وذلك يقتضي العقاب، إلاّ أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء، وأيضاً أن تفسير أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يبطل هذا التأويل، [وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - أي الأعمال أفضل؟ قال:
"الصَّلاَةُ لِمِيقَاتِهَا الأَوَّلِ"
وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ"
وأيضاً إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصَّحابه المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشَّديد بين أهل السُّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم عليّاً رضي الله عنهما، وما ذاك إلا لاتفاقهم على ان المُسَابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل.
[وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة له:
"بَادِرُوا بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا" والصَّلاة من الأعمال الصالحة].
وأيضاً تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها، فوجب أن يكون [الحال في أداء] حقوق الله - تعالى - كذلك لرعاية التعظيم.
وأيضاً المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة، والولوع بها، والرغبة فيها وفي التأخير كَسَلٌ عنها، فيكون الأول أَوْلى.
[وأيضاً فإن المبادرة احتياط، لأنه إذا أدَّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته، وإذا أخّرها ربما حصل له شغل، فمنعه من أدائها، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى.
فإن قيل: تنتقض هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر، وبما إذا حصل له إدْرَاك الجماعة، أو وجود الماء.
قلنا: التأخير في هذه المواضع لأمور عارضة، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل].
فصل في التغليس في صلاة الفجر
قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - التَّغْليس في صلاة الفجر أفضل، وهو مذهب أبي بكر وعمر، وقول مالك وأحمد رضي الله عنهم.
وقال أبو محمد: يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس.
واحتج الأولون بما تقدم من الآية، وبما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح، فينصرف والنساء متلفّعات بِمُرُوطِهِنّ ما يعرفهنّ أحد من الغَلَس.
فإن قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرون الجماعات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالغَلًس كيلا يعرفن.
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغَلَس، ثم لما نُهِين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك.
قلنا: الأصل عدم النسخ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة.
وروى أنس عن زيد بن ثابت قال: تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية، وهذا يدلّ أيضاً على التَّغْليس، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَلَّسَ بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى.
وأيضاً فإن النوم في ذلك الوقت أَطْيب، فيكون تركه أشقّ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام:
"أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا" أي: أشقّها.
واحتج أبو حنيفة بوجوه:
أحدها: قوله عليه السلام:
"أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ"
وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بــ"المزدلفة" فغلس، ثم قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر.
ويروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه صلى الفجر، فقرأ "آل عمران"، فقالوا: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وأيضاً فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار.
وقال عليه السلام:
"المُنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ كَمَنْ هُوَ في الصَّلاَةِ" ، فمن [أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً، ثم بها ثانياً]، ومن صلاّها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار.
وأيضاً: فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أَوْلى.
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [يتفجر به ظلام] المشرق، فالفجر إنما يكون فجْراً لوكانت الظلمة باقية في الهواء.
فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً.
وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا [كشفت عنه]، إذا ثبت هذا فنقول: ظهور الفَجْر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد.
فقوله:
"أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ" يجب أن يكون محمولاً على التَّغْليس، أي: كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [أظهر كان] أكثر ثواباً.
وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه: إن الإسفار المذكور في الحديث مَحْمُول على تيقُّن طلوع الفجر، وزوال الشك عنه، والذي يدل على ما قلنا: أن الصلاة في ذلك الوقت أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً.
وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير، فهو عادة أهل الكسل، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضاً وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه.
قوله: "أَيْنَمَا تَكُونُوا"أين" اسم شرط تجزم فعلين كـ"إن"، و"ما" مزيدة عليها على سبيل الجواز، وهي ظرف مكان، وهي هنا في محلّ نصب خبراً لــ"كان"، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام.
و"تكونوا" أيضاً مجزوم بها على الشرط، وهو الناصب لها، و"يأت" جوابها، وتكون أيضاً استفهاماً فلا تعمل شيئاً، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.
[ودلت الآية على أنه قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة؛ لأنها ممكنة، وهذا وَعْدٌ لأهل الطاعة، ووعيد] لأهل المعصية.