التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
١٧٠
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

الضمير في "لَهُمْ" فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه يعود على "مَنْ في قوله
{ مَن يَتَّخِذُ } [البقرة: 165].
الثاني: قال بعض المفسِّرين: نزلت في مشركي العرب، فعلى هذا: الآية متَّصلة بما قبلها، ويعود الضمير عليهم؛ لأنَّ هذا حالهم.
الثالث: أنه يعود على اليهود؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافهم.
روي عن ابن عبَّاس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوفٍ: "بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ فهم كانوا خيراً منَّا، وأَعْلَمَ منَّا" فأنزل الله هذه الآية الكريمة.
وقال بعضهم: هذه قصَّةٌ مستأنفةٌ، والهاء والميم في "لَهُمْ" كناية عن غير مذكور.
الرابع: أنه يعود على "النَّاس" في قوله" يَأَيُّهَا النَّاسُ" قاله الطبريُّ، وهو ظاهرٌ إلاَّ أن ذلك من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وحكمته: أنَّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجَّب من فعله، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنُّور والهدى، فأجاب باتِّباع شريعة أبيه.
قوله: "بَلْ نَتَّبعُ"بَلْ" ههنا: عاطفةٌ هذه الجملة على جملة محذوفةٍ قبلها، تقديره:
"لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، بل نَتَّبعُ كذا" ولا يجوز أن تكون معطوفةً على قوله: "اتَّبعوا" لفساده، وقال أبُو البَقَاءِ: "بل" هنا للإضراب [عن الأوَّل، أي: "لاَ نَتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ"، وليس بخروج من قصَّة إلى قصَّة، يعني بذلك: أنه إضراب إبطال]، لا إضراب انتقالٍ؛ وعلى هذا، فيقال: كلُّ إضرابٍ في القرآن الكريم، فالمراد به الانتقال من قصًّةٍ إلى قصَّةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قوله:
{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ } [السجدة: 3]، فإنه محتملٌ للأمرين؛ فإن اعتبرت قوله: "أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ"، كان إضراب انتقالٍ، وإذا اعتبرت "افْتَرَاهُ" وحده، كان إضراب إبطالٍ.
والكسائيُّ يدغم لام "هَلْ" و "بَلْ" في ثمانية أحرفٍ:
التاء؛ كقوله:
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ } [الأعلى: 16] والنُّون: "بَلْ نَتَّبعُ" والثَّاء" { هَلْ ثُوِّبَ } [المطففين: 36] والسِّين: { بَلْ سَوَّلَتْ } [يوسف: 18]، والزَّاي: { بَلْ زُيِّنَ } [الرعد: 33]، والضَّاد: { بَلْ ضَلُّواْ } [الأحقاف: 28] والظَّاء: { بَلْ ظَنَنتُمْ } [الفتح: 12] والطَّاء: { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ } [النساء: 155]، وأكثر القرَّاء على الإظهار، ووافقه حمزة في التاء والسين، والإظهار هوالأصل.
قوله: "أَلْفَيْنَا" في "أَلْفَى" هنا قولان:
أحدهما: أنَّها متعدِّية إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى "وَجَدَ" التي بمعنى "أَصَابَ"؛ بدليل قوله في آية أخرى:
{ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا } [لقمان: 21] وقوله: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ } [يوسف: 35] وقولهم: { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } [الصافات: 69]، فعلى هذا: يكون "عَلَيْهِ" متعلِّقاً بقوله: "أَلْفَيْنَا".
والثاني: أنها متعدِّية إلى اثنين.
أولهما: "آبَاءَنَا"، والثاني: "عَلَيهِ"، فقُدِّم على الأول.
وقال أبو البقاء -رحمه الله -:["هي محتملةٌ للأمرين - أعني كونها متعدِّية لواحد أو لاثنين" -؛ قال أبو البقاء:] و"لامُ "أَلْفَيْنَا" واوٌ؛ لأن الأصل فيما جُهل من اللاَّمات أن تكون واواً، يعني: فإنه أوسع وأكثر؛ فالرَّدُّ إليه أولى.
ومعنى الآية: أنَّ الله - تبارك وتعالى - أمرهم بأن يتَّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من الحرث، والأنعام، والبحيرة، والسَّائبة. أو ما أنزل الله من الدَّلائل الباهرة، قالوا: لا نتَّبع ذلك، وإنما نتبع آباءنا، وأسلافنا، فعارضوه بالتَّقليد، فأجابهم الله تعالى بقوله: { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ }، فالهمزة في "أَوَلَوْ" للإنكار، وأما الواو، [ففيها قولان:
أحدهما - قاله الزمخشريُّ -: أنَّها واو الحال.
والثاني - قال به أبو البقاء، وابن عطيَّة -: أنَّها للعطف، وقد تقدَّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل "الواو" و "الفاء" و "ثُمَّ"، هل] بعدها جملة مقدَّرةٌ، وهو رأي الزمخشري؛ ولذلك قدَّر ههنا: "أَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ، وَلاَ يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟" أو النية بها التأخير عن حرف العطف؟
وقد جمع أبو حيَّان بين قول الزمخشريِّ، وقول ابْنِ عَطيَّة، فقال: والجمع بينهما: أنَّ هذه الجملة المصحوبة بـ"لَوْ" في مثل هذا السِّياق جملةٌ شرطيةٌ، فإذا قال: "اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ"، فالمعنى: "وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ" وكذلك: "أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَس"رُدُّوا السَّائِلَ، وَلَوْ بِشِقَّ تَمْرَةٍ"، المعنى فيهما "وإِنْ" وتجيء "لَوْ" هنا؛ [تنبيهاً] على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنَّها جازت لاستقصاء الأَحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدلَّ على أن المراد بذلك وجود الفعل في كلِّ حالٍ؛ حتَّى في هذه الحال الَّتي لا تناسب الفعل؛ ولذلك لا يجوز: "اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ"، ولا "أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجاً" فإذا تقرَّر هذا، فالواو في "وَلَوْ" في الأمثلة التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدَّرة، والمعطوف على الحال حالٌ؛ فصحَّ أن يقال: إنَّها للحال من حيث عطفها جملةً حاليَّةً على حالٍ مقدَّرةٍ، وَصَحَّ أن يقال: إنَّها للعطف من حيث ذلك العطف، فالمعنى - والله أعلم -: أنها إنكارُ اتِّبَاعِ آبائهم في كلِّ حالٍ؛ حتى في الحالة الَّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها، وهي تلبُّسهم بعدم العقل والهداية؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على "لَوْ" إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإن كانت الجملة الحاليَّةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحال؛ لأنَّ مجيئها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييد الجملة السَّابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال؛ حتى هذه الحال، فهما معنيان مختلفان؛ ولذلك ظهر الفرق بين:"أَكْرِمْ زَيْداً، لَوْ جَفَاكَ"، وبين: "أَكْرِمْ زَيْداً، وَلَوْ جَفَاكَ". انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ.
وجواب "لو" محذوفٌ، تقديره: "لاَتَّبَعُوهُمْ" وقدره أبو البَقَاءِ: "أفكَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ؟" وهي تفسير معنًى لأن "لَوْ" لا تجاب بهمزة الاستفهام، قال بعضهم: ويقال لهذه الواو أيضاً واو التَّعَجُّب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ.
فصل في بيان "معنى التقليد"
قال القرطبيُّ: التقليد عند العلماء: "حقيقةُ قَبُولِ قَوْلٍ بلا حُجَّةٍ"؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم من غير نظرٍ في معجزته، يكون مقلِّداً، وأمَّا من نظر فيها، فلا يكون مقلِّداً.
وقيل: "هو اعتقادُ صٍحَّة فُتْيَا مَنْ لا يَعْلَم صحَّة قوله"، وهو في اللُّغة مأخوذٌ من قلادة البعير، تقول العرب: قلَّدت البعير؛ إذا جعلت في عنقه حبلاً يقاد به؛ فكأنَّ المقلِّد يجعل أمره كلَّه لمن يقوده حيث شاء؛ ولذلك قال شاعرهم: [البسط]

891 - وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ثَبْتَ الجَنَانِ بَأَمْرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا

فصل في المراد بالآية
والمعنى: "أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً"، لفظه عامٌّ، ومعناه الخصوص؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه.
وقوله"شيئاً" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به؛ فيعمُّ جميع المعقولات؛ لأنَّها نكرةٌ في سياق النفي، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة، فيكون المعنى: لا يعقلون شيئاً "بَلْ أَشْيَاءً من العَقْلِ" وقدَّم نفي العقل على نفي الهداية؛ لأنَّه يصدرعنه جميع التصرُّفات.
الثاني: أن ينتصب على المصدريَّة، أي: "لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً".
فصل في تقرير هذا الجواب
في تقرير هذا الجواب وجوه:
الأوَّل: أنه يقال للمقلِّد: هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان: أن يعلم كونه مُحِقَّا، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقًّا، فكيف عرفت أنه محقٌّ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كافٍ، ولا حاجة إلى التَّقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده: أن يعلم كونه محقّاً، فإذن: قد جوَّزت تقليده، وإن كان مبطلاً، فإذن: انت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ، أم مبطل.
وثانيها: هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم، [ولا مذهبه، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا.
وثالثها: أنك إذا قلَّدت من قبلك، فذلك المتقدِّم]: إن كان عرفه بالتقليد، لزم إما الدَّور، وإمَّا التسلسل، وإن عرفه بالدليل، وجب أن تطلب العلم بالدليل، لا بالتَّقليد، لأنَّك لو طلبته بالتقليد، لا بالدَّليل، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلاً، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشَّيطان؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التَّقليد، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر، والاستدلال، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد
قال القرطبيُّ: ذمَّ الله تعالى الكفَّار؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل] واقتدائهم بهم في الكفر، والمعصية، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ، وأما التقليد في الحقِّ، فأصل من "أُصول الدِّين"، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر، واختلف العلماء - رضي الله عنهم - في جوازه في مسائل الأصول، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع، فصحيحٌ.
فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي
قال القرطبيُّ - رضي الله عنه -: فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده؛ فيسأله عن نازلته، فيتمثَّل فيها فتواه؛ لقوله تعالى:
{ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها.