التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال، فصَّل في هذه الآية [أنواع] الحرام.
قوله: "إنَّمَا حَرَّمَ": الجمهور قرءوا "حَرَّمَ" مشدَّداً مبنيّاً للفاعل "المَيْتَة" نصباً على أنَّ "مَا" كافَّةٌ مهيِّئة لـ"إنَّ" في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة، وفاعل "حَرَّمَ" ضمير الله تعالى، و"المَيْتَةَ": مفعولٌ به، وابن أبي عَبْلَة برفع "المَيْتَةُ"، وما بعدها، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون "مَا" موصولةً، و"حَرَّمَ" صلتها، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط، تقديره: "حَرَّمَهُ"، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم "إنَّ"، و"الميتة": خبرها.
وقرأ ابو جعفر، وحمزة مبنيّاً للمفعول، فتحتمل "ما" في هذه القراءة وجهين:
أحدهما: أن تكون "ما" مهيئةً، و"المَيْتَةُ" مفعول ما لم يسمَّ فاعل.
والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعول "حُرِّمَ" القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على "ما" الموصولة، و"لميتة" خبر "إنَّ".
وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ، "حَرُمَ"، بضمِّ الراء مخفَّفة، و"المَيْتَةُ" رفعاً و "مَا تحتمل الوجهين أيضاً، فتكون مهيِّئة، و "المَيْتَةُ"؛ فاعلٌ بـ"حَرُمَ"، أو موصولةً، والفاعل ضميرٌ يعود على "مَا" وهي اسمُ "إنَّ"، و "المَيْتَة": خبرها، والجمهور على تخفيف "المَيْتَة" في جميع القرآن، وأبو جعفر بالتَّشديد، وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ "الميْت" مخفَّفٌ من "المَيِّت"، وأن أصله "مَيْوِتٌ"، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله:
{ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } [آل عمران: 27].
ونقل عن قدماء النحاة، أنَّ "المَيْتَ" بالتَّخفيف: من فارقت روحه جسده، وبالتشديد: من عاين أسباب الموت، ولم يمت، [وحكى ابن عطيَّة -رحمه الله - عن أبي حاتم: أنَّ ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يَمُتْ] بعد، لا يقال فيه بالتخفيف، ثم قال: ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير:
{ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم: 17]، وأما قوله: [الوافر]

900 - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ

فقد حمل على من شارف الموت، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء.
وأصل "مَيْتَةٍ" مَيْوِتَةٌ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، وقال الكوفيُّون: أصله "مَوِيتٌ"، ووزنه "فَعِيلٌ".
قال الواحديُّ: "المَيْتَة": ما فارقته الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يُذْبَح.
فصل في بيان أن الآية عامَّة مخصَّصة بالسُّنَّة
هذه الآية الكريمة عامَّة دخلها التخصيص؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -:
"أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: السَّمَكُ والجَرَادُ، ودَمَانِ: الكَبِدُ والطِّحَالُ" وكذلك حديث جابر في العنبر، وقوله - عليه الصلاة والسلام - "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتَهُ" وهذا يدلُّ على تخصيص الكتاب بالسُّنّة.
وقال عبد الله بن أبي أوفى: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتِ، نأْكُلُ الجَرَاد" وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [بعلاجٍ، أو حَتْفَ أنفِهِ]، والله أعلم.
فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر
إذا وقع طائرٌ ونحوه في قدرٍ، فمات، فقال مالكٌ: لا يُؤكل كل ما في القدر.
وقال ابن القاسم: يغسل اللَّحم ويؤكل، ويراق المرق، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما.
فصل في بيان حكم الدَّم
وأما الدَّم: فكانت العرب تجعل الدم في النَّار، وتشويها، ثم تأكلها، فحرَّم الله تعالى الدَّم، واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ، لا يؤكل، ولا ينتفع به.
قال بعضهم: يحرم، إذا لم تعم به البلوى، ويعفى عنه، إذا عمَّت به البلوى، كالذي في اللَّحم والعروق، واليسير في الثَّوب والبدن يصلَّى فيه، وأطلق الدَّم هنا، وقيَّده بالمسفوح في "الأنعام"، فيحمل المطلق على المقيَّد، وأمَّا لحم الخنزير، فاللَّحم معروف، وأراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خصَّ اللحم؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل، واللَّحم جمعه لحوم ولحمان، يقال: لحم الرَّجل، بالضم، لحامةً، فهو لحيمٌ، أي: غلظ، ولحم، بالكسر يلحم، بالفتح، فهو لحمٌ: اشتاق إلى اللَّحم، ولحم النَّاسَ، فهو لاحمٌ، أي: أطعمهم اللحم، وألحم: كثر عنده اللَّحم [والخنزير: حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِهِ قولان:
أصحهما: أنَّها أصليَّة، ووزنه: "فِعْلِيلٌ"؛ كغربيبٍ.
والثاني: أنها زائدةٌ، اشتقوه من خزر العين، أي: ضيقها؛ لأنه كذلك يَنْظُر، وقيل: الخَزَرُ: النَّظَرُ بمؤخِّر العين؛ يقال: هو أخزر، بيِّن الخزر].
فصل في بيان تحريم الخنزير
أجمعت الأُمَّة على تحريم لحم الخنزير، قال مالك: إن حلف لا يأكل الشَّحم، فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشَّحم؛ لأنَّ اللحم مع الشَّحم يسمَّى لحماً، فقد دخل الشَّحم في اسم اللَّحم، واختلفوا في إباحة خنزير الماء؛ قال القُرْطُبِيُّ: لا خلاف في أنَّ جملة الخنزير محرَّمةٌ، إلاَّ الشَّعر، فإنَّه يجوز الخرازة به.
قوله: "وَمَا أُهِلَّ بِهِ": "مَا" موصولةٌ بمعنى "الَّذِي"، ومحلُّها: إمَّا النصبُ، وإمَّا الرفع؛ عطفاً على "المَيْتة" والرَّفع: إما خبر "إنّ"، وإما على الفاعلية؛ على حسب ما تقدم من القراءات؛ و"أُهِلَّ" مبنيٌّ للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في "بِهِ" والضمير يعود على "ما" والباء بمعنى "في" ولا بد من حذف مضافٍ، أي: "في ذبحه"؛ لأن المعنى: "وما صِيحَ في ذَبْحِهِ لغير الله"، والإهلال: مصدر "أَهَلَّ"، أي: صَرَخَ.
قال الأصْمعِيُّ: أصله رفع الصَّوت، وكلُّ رافعٍ صوته، فهو مهلٌّ. ومنه الهلالُ؛ لأنَّه يصرخ عند رؤيته، واستهلَّ الصبيُّ قال ابن أحمر: [السريع]

901 - يُهِلُّ بِالغَرْقَدِ غَوَّاصُهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ

وقال النَّابِغَةُ: [الكامل]

902 - أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ

وقال القائل: [المديد]

903 - تَضْحَكُ الضَّبعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ

وقيل للمحرم: مُهِلٌّ؛ لرفع الصوت بالتَّلبية، و"الذَّابح" مهلٌّ؛ لأنَّ العرب كانوا يسمُّون الأوثان عند الذَّبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها، فمعنى قوله: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ }، يعني: ما ذبح للأصنام، والطَّواغيت، قاله مجاهد، والضَّحَّاك وقتادة، وقال الرَّبيع ابن أنسٍ، وابن زيد: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله.
قال ابن الخطيب -رحمه الله -: وهذاالقول أولى؛ لأنَّه أشدُّ مطابقةً للَّفظ.
قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحةً، وقصد بذبحها التقرُّب إلى [غير] الله تعالى، صار مرتدّاً، وذبيحته ذبيحة مرتدٍّ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب.
أمَّا ذبائح أهل الكتاب، فتحلُّ لنا، لقوله تبارك وتعالى:
{ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [المائدة: 5].
فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال
اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان، [هل يقتضي الإجمال؟
فقال الكَرْخيُّ: إنَّه يقتضي الإجمال، لأنَّ الأعيان] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة، فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها، وهو غير محرَّم، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً.
وأمَّا أكثر العلماء، فقالوا: إنَّها ليست بمجملةٍ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف؛ قياساً على هذه الأجسام؛ كما أنَّ الذوات لا تملك، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها، فإذا قيل: "فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً"، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك التصرُّف فيها؛ فكذا هاهنا.
فإن قيل: لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة، ولأنَّه ورد عقيب قوله:
{ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172]، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - في خبر شاة ميمونة: "إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا"
فالجواب عن الأوَّل: لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.
وعن الثَّاني: بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها.
وعن الثَّالث: أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد، فإن جوَّزناه، يمكن أن يجاب عنه؛ بأن المسلمين، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كلمة "إنَّما" تفيد الحصر، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات، وزاد فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة، وما أكل السَّبع، فما معنى هذا الحصر؟
فالجواب: أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها، وإن قلنا: إنَّ كلمة "إنَّما لا تفيد الحصر، فالإشكال زائلٌ.
فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ
للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ:
فأولها: قول الزُّهريِّ: يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ، ويليه داود، قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ، ويليه مالكٌ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها، ويليه أبو حنيفة - رضي الله عنه - قال: يطهر كلها بالدِّباغ إلا جلد الخنزير، ويليه قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير، ويليه الأوزاعي، وأبو ثور، قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، ويليه أحمد بن حنبل، قال: لا يطهر منها شيء بالدباغ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة، والخبر؛ أما الآية: فقوله تبارك وتعالى:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [المائدة: 3] فأطلق التحريم، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ، وأمَّا الخبر: فقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث عبد الله بن عُكَيم، لأنه قال: "أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ، أو شَهْرَيْنِ: أنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابٍ، وَلاَ عَصَبٍ".
واختلفوا في أنَّه، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ، والبهيمة؟ فمنهم: من منع منه؛ وقال: لأنَّه انتفاعٌ بالميتة، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة، فهل يجب عليه منعه، أم لا؟ فيه احتمالٌ:
فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة
حرَّم جمهور العلماء الدَّم، سواءٌ كان مسفوحاً، أو غير مسفوحٍ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -:[دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم.
حجَّة الجمهور: ظاهر هذه الآية الكريمة، وتمسَّك أبو حنيفة - رضي الله عنه -] بقوله تعالى:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [الأنعام: 145] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً، إلاّ ما ذكر، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً، وجب ألاَّ يكون محرَّماً؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ.
وأُجيب بأنَّ قوله "لا أجِدُ" ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية، بل على أنَّه تعالى ما بيَّن له إلاَّ تحريم هذه الأشياء، وهذا لا ينافي أن يبيِّن له بعد ذلك تحريم شيءٍ آخر، فلعلَّ قوله:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [المائدة: 3] نزلت بعد ذلك، فكان ذلك بياناً لتحريم الدَّم مسفوحاً، أو غير مسفوح.
وإذا ثبت هذا، وجب الحكم بحرمة جميع الدِّماء، ونجاستها، فيجب إزالة الدَّم عن اللَّحم ما أمكن، وكذا في السَّمك، وأيُّ دمٍ وقع في الماء، أو الثَّوب، فإنه ينجس ذلك المورود.
واختلفوا في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام-:
"أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ" ، هل تسمية الكبد والطِّحال دماً حقيقةٌ، أم تشبيه.
فصل في شراء الخنزير، وأكل خنزير الماء
أجمعت الأُمَّة على أنَّ الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنَّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه؛ لأن معظم الانتفاع متعلِّق به، واختلفوا في أنَّه هل يجوز أن يشترى؟
فقال أبو حنيفة، ومحمد: يجوز، وقال الشافعيُّ: لا يجوز، وكره أبو يوسف -رحمه الله تعالى - الخزز به، وروي عنه الإباحة.
واختلفوا في خنزير الماء، فقال ابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، والأوزاعيُّ: لا بأس بأكل شيءٍ يكون في البحر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل.
حجَّة الشافعيِّ قوله تعالى:
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [المائدة: 96] وحجَّة أبي حنيفة: أنَّ هذا خنزير، فيدخل في آية التَّحريم.
قال الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه -: إذا أطلق الخنزير، لم يتبادر إلى الفهم لحم السَّمك، بل غير السَّمك بالاتِّفاق، ولأنَّ خنزير الماء لا يسمَّى خنزيراً على الإطلاق، بل يسمَّى خنزير الماء.
فصل
من الناس: من زعم أنَّ المراد بـ{ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } ذبائحُ عَبَدَةِ الأوثان على النصب، قال ابن عطيَّة - رضي الله عنه -: رأيتُ في أخبار الحسن بن أبي الحسن: أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرساً، فذبحت جزوراً، فقال الحسن - رضي الله عنه -: لا يحلُّ أكلها، فإنها نحرت لصنم، وأجازوا ذبيحة النَّصارى، إذا سمَّوا عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء، ومكحول، والحسن، والشَّعبيِّ، وسعيد بن المسيِّب. وقال مالكٌ، الشافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم.
قال عليُّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: إذا سمعتم اليهود والنصارى يلهُّون لغير الله، فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم، فكلوا، فإنَّ الله تبارك وتعالى، قد أحلَّ ذبائحهم، وهو يعلم ما يقولون؛ واحتجَّ المخالف بقوله تبارك وتعالى:
{ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [المائدة: 5] وهذا عامٌّ، وبقوله: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ المراد بقوله: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } هو المراد بـ{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ }، ولأن النَّصارى، إذا سمَّوا الله تعالى، فإنَّما يريدون به المسيح، فإذا كانت إرادتهم لذلك، لم تمنع حلَّ ذبيحتهم، مع أنَّه يهلُّ به لغير الله تعالى، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه، إذ ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح.
والجواب عن الأوَّل: أن قوله تعالى:
{ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [المائدة: 5] عامٌّ، وقوله: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّه } خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
وعن الثاني أن قوله تعالى: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } لا يقتضي تخصيص قوله: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ }؛ لأنهما آيتان متباينتان.
وعن الثالث: إنَّما كُلِّفنا بالظَّاهر، لا بالباطن، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى، وجب أن يحلَّ، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
قوله: "فَمَنِ اضْطُرَّ" في "مَنْ" وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةً.
والثاني: أن تكون موصُولةً بمعنى "الذي".
فعلى الأوَّل: يكون "اضطُرَّ" في محلِّ جزم بها، وقوله: { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } جواب الشرط، والفاء فيه لازمةٌ.
وعلى الثاني: لا محلَّ لقوله "اضْطُرَّ" من الإعراب، لوقوعه صلةً، ودخلت الفاء في الخبر؛ تشبيهاً للموصول بالشَّرط، ومحلُّ { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } الجزم على الأوَّل، والرفع على الثاني. والجمهور على "اضْطُرَّ" بضمِّ الطاء، وهي أصلها، وقرأ أبو جعفر بكسرها؛ لأنَّ الأصل "اضْطُرِرَ" بكسر الراء الأولى، فلمَّا أدغمت الراء في الرَّاء، نقلت حركتها إلى الطَّاء بعد سلبها حركتها، وقرأ ابن مُحَيْصِن: "اطُّرَّ" بإدغام الضَّاد في الطَّاء، وقد تقدَّم الكلام في المسألة هذه عند قوله:
{ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ } [البقرة: 126].
وقرأ أبو عَمْرٍو، وعاصمٌ، وحمزة بكسر نون "مَنِ" على أصل التقاء الساكنين، وضمَّها الباقون؛ إتباعاً لضمِّ الثالث.
وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين؛ وضُمَّ الثالث ضمَّاً لازماً نحو:
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ } [الأنعام: 10] { قُلِ ٱدْعُواْ } [الإسراء: 110]، { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ } [يوسف: 31]، جرى الخلاف المذكور، إلاَّ أنَّ أبا عمرو خرج عن أصله في { أَو } [المزمل: 3] و { قُلِ ٱدْعُواْ } [الإسراء: 110] فضمَّهما، وابن ذكوان خرج عن أصله، فكسر التنوين خاصَّة؛ نحو { مَحْظُوراً ٱنظُرْ } [الإسراء: 20 - 21] واختلف عنه في { بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ } [الأعراف: 49] { خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ } [إبراهيم: 26] فمن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضمَّ، فللإتباع، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك. عند ذكره، إن شاء الله - تعالى - والله أعلم.
قوله: "غَيْرَ باغٍ": "غَيْرَ": نصب على الحال، واختلف في صاحبها:
فالظاهر: أنه الضمير المستتر [في "اضْطُرَّ"]، وجعله القاضي، وأبو بكر الرازيُّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله "اضْطُرَّ"؛ قالا: تقديره: "فَمَنَ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ"؛ كأنهما قصَدَا بذلك أن يجعلاه قيداً في الأكل لا في الاضطرار.
قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّن ما قالاه؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } بل هو الظاهر والأولى؛ لأنَّ في تقديره قبل "غَيْرَ بَاغٍ" فصلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله: "غَيْرَ بِاغٍ".
و"عَادٍ": اسم فاعل من: عَدَا يَعْدُو، إذا تجاوز حدَّه، والأصل: "عَادِوٌ" فقلب الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها؛ كغاز من الغزو، وهذا هو الصحيح؛ وقيل: إنَّه مقلوب من، عاد يعود، فهو عائدٌ، فقدِّمت اللام على العين، فصار اللَّفظ "عَادِوٌ" فأعلَّ بما تقدَّم، ووزنه "فَالِعٌ"؛ كقولهم: "شَاكٍ" في "شَائِكٍ" من الشَّوكة، و"هارٍ"، والأصل "هَائِر"، لأنَّه من: هَارَ يَهُورُ.
قال أبُو البَقَاءِ -رحمه الله تعالى -: "ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً، عطفاً على موضع "غَيْرَ" جاز"، يعني: فكان يقال: "وَلاَ عَادِياً".
قوله: "اضْطُرَّ" أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ، فهو: "افْتُعِلَ" من الضَّرورة، وأصله: من الضَّرر، وهو الضِّيق، وهذه الضَّرورة لها سببان:
أحدهما: الجوع الشَّديد، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق، فيكون عند ذلك مضطراً.
والثاني: إذا أكره على تناوله.
واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف؛ حتى يقال: إنَّه لا إثم عليه، فلا بدَّ من إضمارٍ، والتقدير: "فَمَن اضْطُرَّ، فأكَلَ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه" ونظيره:
{ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184]، فحذف "فأَفْطَرَ"، وقوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } [البقرة: 196] وإنما جاز الحذف؛ لعلم المخاطب به، ودلالة الخطاب عليه.
والبغي: أصله في اللغة الفساد.
قال الأصمعيُّ: يقال: بغى الجرح بغياً: إذا بدأ في الفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها، والبغي: الظلم، والخروج عن الإنصاف؛ ومنه قوله تبارك وتعالى
{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } [الشورى: 39] وأصل العدوان: الظُّلم، ومجاوزة الحد.
فصل
اختلفوا في معنى قوله { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فقال بعضهم: "غَيْرَ بَاغٍ" أي غير خارجٍ على السُّلطان، و"لاَ عَادٍ" أي: متعدٍّ بسفره، أعني: عاص بأن خرج لقطع الطَّريق، والفساد في الأرض، وهو قول ابن عباس، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبير.
وقالوا: لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة، إذا اضطر إليها، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص؛ حتى يتوب، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل، واختلفوا في معناه.
فقال الحسن، وقتادة، والرَّبيع، ومجاهد، وابن زيد: أي: يأكل من غير ضرورة أي: بغي في أكله "ولاَ عَادٍ"، أي: ولا يعدو لشبعه.
وقيل: "غَيْرَ بِاغٍ" أي: غير طالبها، وهو يجد غيرها، "وَلاَ عَادٍ"، أي: غير متعدٍّ ما حد له، فيأكل حتَّى يشبع، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه.
وقال مقاتل: "غَيْرَ بَاغٍ" أي: مستحلٌّ لها، "وَلاَ عَادٍ" أي: يتزوَّد منها، وقيل: "غَيْرَ بَاغٍ"، أي: مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له، "وَلاَ عَادٍ" أي: لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه.
قال مسروقٌ: من اضطُرَّ إلى الميتة، والدم، ولحم الخنزيرن فلم يأكل، ولم يقرب، حتى مات، دخل النَّار.
وقال سهل بن عبد الله: "غَيْرَ بَاغٍ": مفارقٍ للجماعة، "ولاَ عَادٍ"، أي: ولا مبتدعٍ مخالف السنة، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة.
فإن قيل: الأكل في تلك الحالة واجبٌ، وقوله: { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } أيضاً يفيد الإباحة، وأيضاً: فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه.
فالجواب: أنَّا قد بينَّا عند قوله
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158]: أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب، والمندوب، والمباح، وأيضاً: قوله تبارك وتعالى: { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ }: معناه: رفع الحرج والضِّيق.
واعلم: أنَّ هذا الجائع، إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع، إذا أمكنه ذلك، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة، يخرج عن أن يكون ملجأً، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار.
فإن قيل: قوله تبارك وتعالى: { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } يناسب أن يقال بعده: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فإنَّ الغفران، إنَّما يذكر عند حصول الإثم.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة، عبَّر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم، يعني: لأجل الرحمة عليكم، أبحت لكم ذلك.
وثانيها: لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها: ان الله تعالى، لمَّا بيَّن هذه الأحكام، عقَّبها بقوله تعالى: "غَفُورٌ" للعصاة، إذا تابوا، "رَحِيمٌ" بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة
فصل في معنى المضطر
قال الشافعيُّ - رضي الله عنه -: قوله تعالى { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } معناه: أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي، ولا بصفة العدوان ألبتَّة، فأكل؛ فلا إثم عليه.
وقال أبو حنيفة: معناه: "فمن اضْطُرَّ فأَكَلَ غَيْرَ بِاغٍ، ولا عادٍ في الأكلِ، فلا إثْمَ عَلَيْه" فخصَّص صفة البغي والعدوان بالأكل، ويتفرَّع على هذا الخلاف، هل يترخَّص العاصي بسفره، أم لا؟
فقال الشافعيُّ: لا يترخَّص؛ لأنَّه يوصف بالعدوان: فلا يندرج تحت الآية الكريمة.
وقال أبو حنيفة: يترخَّص؛ لأنَّه مضطرٌّ، وغير باغٍ، ولا عادٍ في الأكل، فيندرج تحت الآية.
احتجَّ الشافعي - رضي الله عنه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ، ولا عادٍ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة؛ لأنَّ قولنا: "فلانٌ ليس بمتعدٍّ" نقيضٌ لقولنا: "فلانٌ متعدٍّ"، وقولنا: "فُلاَنٌ متعدٍّ" يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور، سواء كان في سفرٍ، أو أكلٍ، أو غيرهما، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا "غَيْرَ بِاغٍ، وَلاَ عَادٍ" لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره، فلا يصدق عليه كونه "غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ"، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم.
فإن قيل: يشكل بالعاصي في سفره؛ فإنَّه يترخَّص مع أنَّه موصوف بالعدوان.
والجواب: أنَّه عامٌّ دخله التخصيص في هذه الصُّورة، ثم الفرق بينهما: أنَّ الرخصة إعانة على السَّفر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصة إعانةً على المعصية، وإذا لم يكن السَّفر معصيةً في نفسه، لم تكن الإعانة عليه إعانةً على المعصية، فافترقا.
فإن قيل: قوله تعالى "غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ" شرطٌ، والشرط بمنزلة الاستثناء؛ في أنه لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ من تعلُّقه بمذكورٍ، ولا مذكور إلاَّ الأكل؛ لأنَّا بيَّنَّا أنَّ قوله تعالى: "غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ" لا يصدق عليه إلاَّ إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور، فيدخل فيه نفي العدوان بالسَّفر ضمناً، ولا نقول: اللفظ يدلُّ على التعيين.
وأمَّا تخصيصه بالأكل: فهو تخصيصٌ من غير ضرورةٍ، ثمَّ الذي يدلُّ على أنَّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوهٌ:
أحدها: أنَّ قوله "غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ" حالٌ من الاضطرار؛ فلا بدَّ وأن يكون وصف الاضطرار باقياً، مع بقاء كون: "غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ" حالاً من الاضطرار، فلو كان المرادُ بقوله: "غَيْرَ بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ" كونه كذلك في الأكل - لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه؛ لأنَّه حال الأكل، لا يبقى معه حال الاضطرار.
ثانيها: ان الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة.
وثالثها: أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية.
وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات، فتخصيصه بالأكل غير جائز.
وثالثها: قوله تبارك وتعالى:
{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 3] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص، إذا لم يكن متجانفاً لإثم، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور.
احتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه -، بوجوه:
أحدها: قوله تعالى:
{ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام: 119].
وهذا مضطرٌّ؛ فوجب أن يترخَّص.
وثانيها: قوله تبارك وتعالى:
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29] { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195]، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس، وإلقاء بها إلى التهلكة؛ فوجب أن يحرَّم.
وثالثها: أنه - عليه الصلاة والسلام - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاث أيَّامٍ ولياليهنَّ، ولم يفرق بين العاصي وغيره.
رابعها: أنَّ العاصي بسفره، إذا كان نائماً، فأشرف على غرقٍ، أو حرقٍ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه، فلأن يجب عليه في هذه الصورة: أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى.
وخامسها: أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه، والحيَّة، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا.
سادسها: أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ، إذا اضطُرَّ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله، فله أَخذُهُ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس.
[سابعها: أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس]، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ، وإن كان عاصياً.
وثامنها: أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ، بل على سَبيل القَهْر، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ، فكذا ههنا.
وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمُ المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه الرخص بالتَّوبة، فإذا لم يتُبْ، فهو الجانِي على نَفْسه، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ: بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية، والمعصية ممنوعٌ منها، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ.
فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات
اختلفُوا في المضطرِّ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات.
فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ، ومنهم من قال: يتناوَلُ الميتة، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم.