التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٤
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قال ابن عبَّاس: نزلَت في رؤوس اليهود: كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ، ومالك بنِ الصيف، وحُييِّ بن أخطَبَ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأنْ غيَّروا صِفَتَه، ثم أخرَجُوها إليهم، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صلى الله عليه وسلم، لا يتبعونَه، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية.
قال القرطبيُّ: ومعنى "أَنْزَلَ": أظْهَرَ؛ كما قال تعالى:
{ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 93] أي: سأُظْهِر وقيل: هو على بابِهِ من النُّزول، أي: ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله.
قوله: "مِنَ الْكِتَابِ": في محلِّ نصْبٍ، على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ العائِدُ على الموصول، تقديره: "أَنْزَلَهُ اللَّهُ" حال كونه "مِنَ الكِتَابِ" فالعاملُ فيه "أَنْزَلَ".
والثاني: أنه المُوصول نَفسُه، فالعامل في الحال "يَكْتُمُونَ".
قوله: "وَيَشْترونَ بِهِ": الضميرُ في "بِهِ" يُحْتَمَل أن يعود على "ما" الموصولة، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله: "يَكْتُمُونَ"، وأَنْ يعودَ على الكتابِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ، ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ، أي: "يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ".
قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رضي الله عنهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عيله الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ.
وقال الحسَنُ: كَتَمُوا الأَحْكَام، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى:
{ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة: 34].
فصل في حقيقة الكتمان
اختلفوا في كيفيَّة الكتمان.
فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ، والإنجيلِ.
قال المتكلِّمون: وهذا ممتنعٌ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ، لأن‍َّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان، فيصير المعنى: الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب.
{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } كقوله تعالى:
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرة: 41] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية، ذكر الوعيدَ عليهم؛ فقال: { أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ }.
قال بعضُهُم: ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ؛ كقوله:
{ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] وقال بعضهُم: بل فيه فائدةٌ؛ وقولُه "فِي بطُونِهِمْ"، يقالُ: أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ.
فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة
قال الحسن، والرَّبيع، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال، فعاقبتُه النَّار؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار؛ فكأنه أكْلُ النَّار؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة:
"إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ"
وقوله تبارَكَ وتَعَالى: { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } [يوسف: 36] أي: عِنباً؛ فهذا كلُّه من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه. وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ.
قوله: { إِلاَّ النَّارَ } استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ، جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً؛ كقولهم: "أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ"، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ؛ قال القائل في ذلك: [الطويل]

904 - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ رِضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا

وقال القائلُ: [الطويل]

905 - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ

وقال: [الرجز]

906 - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا

يريد: ثَمَنَ إكافٍ.
وقوله: "في بُطُونِهِم" يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أَن يتعلَّق بقوله "يَأْكُلُونَ" فهو ظرْفٌ له، قال أبو البقاء: وفيه حذفُ مضافٍ، أي "طَرِيقِ بُطُونِهِمْ" ولا حاجة إلى ما قاله من التَّقْدِير.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار.
قال أبُو البقاء: والأجودُ: أن تكونُ الحال هُنَا مقدَّرة؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ. وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك، والتقديرُ: ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم.
قال: ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء.
وهو ضعيفٌ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و"فِي بُطُونِهِمْ" حالاً منه، أَو صفةً له، أي: في بطونِهِم شيئاً، يعني فيكون: "إلاَّ النَّارُ" منصوباً على الاستثناء التَّامِّ؛ لأنَّهُ مستثنًى من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك: وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز وللإعْرَابِ حكْمُ اللفظ.
والثالث: أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول "كُلُوا" محذوفاً؛ كما تقدم تقديرُه.
قوله: في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى "إلاَّ النَّار"، أي: أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه، فسمّى ما أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار، قاله أكثر المفسِّرين.
وقيل: إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ؛ كما قال تعالى
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [النساء: 10]، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك، ومنْه قَوْلُ القائل: [الوافر]

907 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ..............................

وقال القائِل [المتقارب]

908 -......................... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ

وقال آخر: [البسيط]

909 -........................ وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا

وهذه الآيةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل.
قوله: { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ } ظَاهِرهُ: أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ:
الأوَّل: قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم؛ وذلك قولُهُ
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 92].
وقوله
{ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم، فقالوا: وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108].
الثاني: أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً، وأَمَّا قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ التَّهْديد؛ لأَنَّ [يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ، فيظهر] عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك، من أهلِ النار. فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد.
الثالث: أن قوله: "وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ" استعارةٌ عن الغَضَب؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه، ولا يكلِّموه؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث.
وقوله "وَلاَ يُزكِّيهِم" فيه وجوه:
الأوَّل: لا ينسبهم إلى التَّزكية، ولا يُثْنِي عليهم.
الثاني: لا يقْبَل أعمالَهُمْ؛ كما يقبل أَعْمَال الأولياء.
الثالث: لا ينزلُهم منازل الأولياء.
وقيل: لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة، فيطهرهم.
قولُهُ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، اعْلَمْ: أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول؛ كالجريح والقتيل، بمعنى المجروح والمَقْتُول، وقد يكُونُ بمعنى "المُفعل"؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم.
واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ، لا بخُصُوص السَّبَب، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين.