التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ
١٧٥
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
١٧٦
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا، ورضُوا بالضَّلال والجهل، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا، وَأَمَّا في الآخرة، فأحسن الأشياء المَغْفِرة، وأخْسَرُها العذَابُ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة، ورضُوا بالعَذَاب، فلا جَرَم: أنهم في نهاية الخَسَارة، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة.
قولُهُ { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } في "ما" هذه خمسةُ أقْوالٍ:
أحدها: وهو قول سيبويه، والجُمهُور: أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا موصوفةٍ، وَأَنَّ معناها التعجُّب، فإذَا قُلْتَ: "مَا أَحْسَنَ زَيْداً"، فمعناهُ: شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً.
الثاني: قولُ الفراء -رحمه الله تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو "كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ".
قال عطَاءٌ، والسُّدِّيُّ: هو "ما" الاستفهام، معناه: ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكُوا الحَقَّ، واتبعوا البَاطِلَ.
قال الحَسَن، وقَتادة: "والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار" وهي لغة يَمَنية معروفةٌ.
قال الفراء: أخبرني الكسائيُّ قال: أخبرني قاضي "اليَمَنِ" أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا، فحلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ما أصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أي: ما أجرأك عليه.
وحكى الزَّجَّاجُّ: ما أبقاهُمْ على النَّار، من قولِهِم: "مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس"، أي: ما أبقاهُ فيه.
والثالث: ويُعْزَى للأخفش [أَنَّهَا موصُولةٌ.
الرابع: ويُعْزَى له أيضاً: أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن: الجملةُ الفعليَّة بعدَها، وعلى قوْلي الأخْفَش]: يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن، أم فعل؟ وهو الصحيحُ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده، هَلْ هو مفعولٌ به، أو مشبَّه بالمعفول به، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها.
والمراد بالتعجُّب هنا، وفي سائر القُرْآن: الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها، وإلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى، ومعنى عَلَى النَّارِ، أي: على عمل أهْل النار، قاله الكِسَائيُّ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أَي: { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ }. نقله أَبُوا البقاء
قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ }: اختلفُوا في مَحَلِّ: "ذَلِكَ" من الإعراب فقيل: رفعٌ، وقيل: نَصْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال.
أحدها: أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي: وجب لَهُمْ ذلك.
الثاني: أن "ذَلِكَ" مبتدأٌ، و"بِأَنَّ اللَّهَ" خبره، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ.
والثالث: أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي: الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره: "فعلنا ذلك" [والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية.
فصل في اختلافهم في الإشارة بـ"ذلك"
اختلفوا في الإشارة بقوله "ذلك"] إلى ماذا؟ على قولين:
الأوَّل: أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان، أي: إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه، ويوقِعُون التُّهمة فيه، فلا جَرَم، استحقُّو ذلك الوعيد الشديد، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ:
أقربُها: أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة.
ثانيها: اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى.
ثالثها: أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً.
رابعها: أَنَّ الله لا يزكِّيهم.
خامسها: أَنَّ الله لا يكلِّمهم.
فقوله: "ذَلِكَ" يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [كلِّ واحدٍ منها، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع.
والقول الثاني: أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى] ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَ من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون، ولا يَنْقَادُونَ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } [البقرة:6 - 7] وقوله: "بالحَقِّ"، أَي: بالصِّدق، وقيل: ببيان الحقِّ، والمرادُ من "الكتاب": يحتمل أن يكُونَ التَّوراة، والإنجيل، ويحتملُ أن يكُون القرآن، فإن كَانَ الأَوَّلَ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله، وتحريفه، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني، كان المعنى: وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ.
فصل في المراد باختلافهم
والمراد باختلافهم:
إِنْ قلنا المراد بـ"الكَتِابِ" هو القُرْآن، كان اختلافُهُم فيه: أَنَّ بعضَهُم قال: هو كَهَانَةٌ، وقال آخرون هو سِحْرٌ، وآخرونَ قالُوا: هو رجْزٌ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال: إِنَّه كلامٌ مختلق. وإنْ قلنا: المراد بـ"الكتَابِ" هو التوراةُ والإِنْجيلُ، فالمراد باختلافهم يحتمل وجُوهاً.
أحدها: اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح، فاليهود قالوا: إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى؛ والنصارَى قالوا: إِنَّها دالَّة على نبوَّته.
وثانيها: اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً.
وثالثها: قال أبو مُسْلِم: قوله: "اخْتَلَفُوا" من باب "افْتَعَلَ" الذي كون مكان "فَعَلَ"، كما يقال كَسَبَ واكْتِّسَبَ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ، ويكون معنى قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ } أي: توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه؛ كقوله تبارك وتعالى
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [الأعراف: 169] وقوله { إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [يونس: 6] أي: كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر، [وقوله { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } [الفرقان: 62]. أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر]، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ.
أحدها: أن يكونَ المراد بـ"الكِتَابِ" جنْسَ ما أنزل الله، والمراد بـ{ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ } الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب، فقلبوا بعضَ كُتُب الله، وهي التوراة والإنجيلُ؛ لأجل عداوتك، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ، ومنازعة شديدةٍ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ.
وثانيها: كأنه تعالى يقُولُ: هؤلاءِ، وإن اختلفُوا فيما بينهم، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك، وغاية المشاقَّة لك، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ.
وثالثها: أَنَّ هؤلاء الَّذين اتَّفَقوا على أصلِ التَّحريف، فإن كلَّ واحد منْهُم يُكَذِّب صاحبه، ويشاقُّه، وينازعه، وإذا كان كذلك، فقد عرفت كذبَهُمْ، بقولهم، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة.