التفاسير

< >
عرض

شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ }: فيه قراءتان:
المشهور الرفع، وفيه أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ قولان:
الأول: أنه قوله { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه.
قال أبو عليٍّ: والأشبه أن يكون "الَّذِي" وصفاً؛ ليكون لفظ القرآن نصّاً في الأمر بصوم شهر رمضان؛ لأنَّك إن جعلته خبراً، لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ، وإنما يكون مخبراً عنه بإنزال القرآن الكريم فيه، وإذا جعلنا "الَّذِي" وصفاً، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر؛ كقولك: "شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ".
والقول الثاني: أنه قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [الجمعة: 8] وليس كذلك؛ لأن قوله: { ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ؛ بخلاف شهر رمضان، فإن قيل: أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل: تكرار المبتدأ بلفظه؛ كقوله: [الخفيف]

938 - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْء.........................

وهذا الإعراب - أعني كون "شَهْرُ رَمَضَانَ" مبتدأً - على قولنا: إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان، أمَّا إذا قلنا: إنها نفس رمضان، ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ.
فقدَّره الفرَّاء: ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وقدَّره الأخفش: المكتوب شهر رمضان.
والثاني: أن يكون بدلاً من قوله "الصِّيَامُ"، أي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ، وهذا الوجه، وإن كان ذهب إليه الكسائيُّ بعيدٌ جدّاً؛ لوجهين:
أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه.
والثاني: أنَّه لا يكون إذا ذاك إلاَّ من بدل الإشمال، وهو عكس بدل الاشتمال، لأنَّ بدل الاشتمال غالباً بالمصادر؛ كقوله:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [البقرة: 217]، وقول الأعشى: [الطويل]

939 - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ

وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ، تقديره: صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وحينئذٍ: يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ، وهما لعينٍ واحدة، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله "أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ" في قراءة من رَفَعَ "أيَّاماً"، وهي قراءة عبد الله، وفيه بُعْدٌ.
والقراءة الثانية: النصْبُ، وفيه أوجهٌ:
أجودها: النصبُ بإضمار فعلٍ، أي: صُوموا شَهْر رَمَضَانَ.
الثاني - وذكره الأخفشُ والرُّمَّانِيُّ -: أن يكون بدلاً من قوله "أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ"، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ.
الثالث: نَصْبُه على الإغراء؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ.
الرابع: أن ينتصبَ بقوله: "وأنْ تَصُومُوا"؛ حكاه ابن عطية، وجوَّزه الزمخشريُّ، واعترض عليه؛ بأن قال: فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم: "وَأَنْ تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ"
فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير، وهو غَيْرُ جائزٍ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ، وإيقاع الفصْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ. وغلَّطَهُما أبو حيان: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ، لأنَّ الخبر، وهو "خَيْرٌ" أَجْنَبِيٌّ من الموصول، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول، إلاَّ بعد تمام صلتِهِ، و"شَهْر رَمَضَانَ" على رأيهم من تمام صلة "أَنْ"، فامتنع ما قالوه، وليس لقائل أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف، وحرف الجَرِّ، فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ".
الخامس: أنه منصوبٌ بـ"تَعْلَمُونَ"؛ على حذف مضافٍ، تقديره: تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب.
وأدغم ابو عمرو رَاءَ "شَهْر" في راء "رَمَضَان"، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقول ابن عطيَّة: "وذلك لا تقتضيه الأصول" غير مقبولٍ منه؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل، لا يُعارضُ بالقِياس.
والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان:
أشهرهما: أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات، والصوم، والحجِّ، وقضاء الدُّيُون، وغيرها.
والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة، يُقَالُ: شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْراً: إذا أظهره، ويسمَّى الشَّهْرُ: شَهْراً، لشُهْرَة أمره، والشُّهْرَة: ظهورُ الشيءِ، وسمي الهلال شهراً؛ لشُهْرته.
والثاني - قاله الزَّجَّاج -: أنه اسمٌ للهلال نفسه؛ قال: [الكامل]

940 -................... وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ

سُمِّي بذلك؛ لبيانه؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل]

941 -.................. يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ

يقولون: رأيتُ الشهْرَ، أي هِلاَلَهُ، ثم أُطلِقَ على الزمان؛ لطلوعه فيه، ويقال: أشْهَرْنَا، أي: أتى علينا شَهْرٌ، قال الفَرَّاءُ: "لَمْ أَسْمَعْ فَعْلاً إلاَّ هذا".
فصل
قال الثَّعلبي: "يُقَالُ: شَهَرَ الهِلاَلُ، إذَا طَلَعَ"، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ، وفي الكثرة على شُهُورٍ، وهما مقيسان.
ورَمَضَانُ: عَلَمٌ لهذا الشَّهر المخْصُوص، وهو علم جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ:
أحدها: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم: إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع، أو مقاساة شدَّته؛ كما سمَّوه تابعاً؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم، أي: يزعجهم لشدَّته عليهم، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
"صَلاَةُ الأَوَّابِينَ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ" أخرجه مسلم، ورَمَضَ الفِصَالُ، إذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ.
يقال: إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ، [فسُمِّيَ به؛ كَرَبِيع؛ لموافقته الربيعَ، وجُمَادى؛ لموافقته جُمُودَ الماء، وقيل: لأنه يُرْمِضُ الذنوب، أي: يَحْرِقُها، بمعنى يَمْحُوها].
روي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
"إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ"
وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة، وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين، ليرقَّ يقال: نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ.
وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ؛ ليقضوا منها أوطارهم؛ قاله الأزهريُّ.
قال الجوهريُّ: وَرَمَضَانُ: يُجمع على "رَمَضَانَات" و "أَرْمِضَاء" وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقاً، أنشد المُفَضَّل: [الطويل]

942أ - وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا

وقال الزمخشري: "الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ" قال أبو حيَّان: "وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، فإن فَعَلاَناً ليس مصدر فَعِلَ اللازم، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذاً"، وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمِض - بكسر الميم - وهو مَطَرٌ يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها.
وقال مجاهدٌ: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول لقائل: "شَهْرُ رَمَضَانَ"، أي: شَهْرُ اللَّهِ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
"لا تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ، وذَهَبَ رَمَضَانُ، ولَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى"
قال القُرْطُبِيُّ: "قال أهْلُ التَّاريخِ: إنَّ أوَّلَ مَنْ صَامَ رمَضَانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلام - لمَّا خَرَجَ من السَّفينة"، وقد تقدَّم قوم مجاهدٍ: "كَتَبَ اللَّه رمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمَّة" ومعلومٌ أنَّه كان قبل نوحٍ - عليه السَّلام - أُمَمٌ؛ فالله أعلم.
والقرآن في الأًصل مصدر "قَرَأْتُ"، ثم صار علماً لما بين الدَّفَّتَيْنِ؛ ويُدلُّ على كونه مصدراً في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان - رضي الله عنهما -: [البسيط]

942ب - ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا

وقيل: القرآن من المصادر، مثل: الرُّجْحَان، والنُّقْصَان، والخُسْرَان، والغُفْرَان، وهو من قرأ بالهمزة، أي: جمع؛ لأنه يجمع السُّور، والآيات، والحكم، والمواعظ، والجمهورُ على همزه، وقرأ ابن كثيرٍ من غير همزٍ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين:
أظهرهما: أنه من باب النَّقل؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها، ثم يحذفها في نحو:
{ قَدْ أَفْلَحَ } [المؤمنون: 1]، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ، وجمعاً بين اللُّغَتَيْنِ.
والثاني: أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين، فيكون وزنه على هذا "فُعَالاً"
وعلى الأول "فُعْلاَناً" وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر، والآياتِ، والحِكَمِ، والمواعِظِ.
وقال الفَرَّاء: أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضاً على ما قال تعالى:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82].
وأما قول من قال: إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض، أي: جمعته، فغلطٌ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان.
وروى الواحدُّ في "البسيط" عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم، أنَّ الشافعيَّ - رضي الله عنه - كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ، ولَيْسَ بمهموزٍ، ولم يُؤْخَذ من "قَرَأْتُ"، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله؛ مثل التوراة والإنجيل، قال: ويهمز قراءة، ولا يهمز القرآن، كما يقول:
{ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءَانَ } [الإسرء: 45] قال الواحديُّ -رحمه الله -: وقول الشافعيِّ - رضى الله عنه - أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء، وهو الجمع، أي: جمعته، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة، قالا: إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع.
قال عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

943أ -...................... هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا

أي: لم تجمع في رحمها ولداً، ومن هذا الأصل: قُرْءُ المرأة، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها، فسُمِّي القرآن قُرْآناً، لأنه يجمع السُّور وينظمها.
وقال قُطْرُب: سُمِّيَ قرآناً؛ لأنَّ القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب: ما قرأت النَّاقة سلى قطُّ، أي: ما رَمَتْ بِوَلَدٍ، وما أسْقَطَتْ ولداً قَطُّ، وما طَرَحَتْ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءاً بهذا التَّأويل، فالقرآن [يلفظه القارئ] من فيه، ويلقيه، فسُمِّيَ قُرْآناً.
و"القُرآنُ" مفعول لم يُسَمَّ فاعله؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآناً؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ، وللمكْتُوب كِتَابٌ. واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف؛ حتَّى جعلوه اسماً لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه.
ومعنى { أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }، أي: ظَرْفٌ لإنزاله.
قيل: "نَزَلَتْ صُحُف إبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين.
فإن قيل: إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صلى الله عليه وسلم في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً.
روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } وقوله
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1]، وقوله { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3] وقد نزل في سائر الشُّهُور، وقال عزَّ وجلَّ: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [الإسراء: 106] فقال: أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، فذلك قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] وقال داود بن أبي هندٍ: قلت للشَّعبيِّ: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ } أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء.
وروي عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ" ويُروى: "في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ" وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثَ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صلى الله عليه وسلم لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة "الفُرْقَان" عند قوله: { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32].
والجواب الثاني: أن المراد منه: أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ، وهو قول محمَّد بن إسحاق؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ.
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة، وفي الثاني: لا بُدَ من حمله على المجاز؛ لأنَّه حمل للقرآن على بعض أجزائه.
روي أن [عبد الله بن] عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة، وبقوله
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان، وذلك لأنَّ ليلة القدر، إذا كانت في رمضان، وكان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان، وهذا كمن يقول: "لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ"، فيقال له: في أيِّ يوم منه؟ فيقول: في يوم كذا، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ: "أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ"، معناه: أُنْزِلَ، في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل؛ قال: وهذا كما يقال: "أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً" يُرِيدُونَ في فضله.
قال ابن الأنباريِّ: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر، يريدون في تحريمها.
فصل
قد تقدَّم في قوله تعالى:
{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } [البقرة: 23] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريج، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى: { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [آل عمران: 3] إذا ثبت هذا، فنقول: لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله "شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْءَانُ" إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ "الإنزال" دون "التَّنزيل"، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راجحٌ على سائر الأقوال.
قوله "هُدًى" في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعامل فيه "أُنزِلَ" وهُدىً مصدرٌ، فإمَّا أن يكون على حذف مضافٍ، أي: ذا هدًى، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ، أي: هادِياً، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً.
قوله: "لِلنَّاسِ" يحوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ"هُدىً" على قولنا بأنه وقع موقع "هَادٍ"، أي: هادياً للناس.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله، ويكون محلُّه النَّصب على الصفة، ولا يجوز أن يكون "هُدَى" خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: "هُوَ هُدًى"؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ، وهو: "بَيَّنَاتٍ"؛ و"بَيِّنَاتٍ" عطفٌ على الحال، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدًى وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة.
فإن قيل: ما معنى قوله { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } بعد قوله: "هُدًى".
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدًى، ثمَّ الهُدَى على قسمين:
تارةً: يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً.
وتارةً: لا يكون كذلك.
والقسم الأول: لا شكَّ أنَّه أفضل؛ فكأنه قيل: هو هدًى؛ لأنه هو البيِّن من الهدى، والفارق بين الحقِّ والباطل، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ، ويعطف نوعه عليه؛ لكونه أشرف أنواعه، والتقدير: كأنه قيل: هذا هُدىً، وهذا بَيِّنٌ من الهدى، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى، وهذا غاية المبالغة.
الثاني: أن يقال: القرآن هدىً في نفسه، ومع كونه كذلك، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان، والمراد: بـ"الهُدَى والفُرْقَانِ" التوراة والإنجيل؛ قال تعالى:
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ } [آل عمران 3 - 4] وقال { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [الأنبياء: 48] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه، ففيه أيضاً هدًى من الكتب المتقدِّمة التي هي هدًى وفرقانٌ.
الثالث: أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين، والهُدَى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار.
قوله: { مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَان } هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ لقوله: "هُدًى وبَيِّناتٍ" فمحلُّه النصبُ، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان، ولم يأت "مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ" فيطابق العجزُ الصَّدْرَ؛ لأنّ فيه مزيد معنًى لازم للبيان، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً، حصل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان، وقال بعضهم: "المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها". وقال ابن عطية: "اللامُ في الهُدَى للعهد، والمرادُ الأوَّلُ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً بـ"أَلْ"، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله:
{ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } [المزمل: 15 - 16]، ومن هنا قال ابن عبَّاس: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه، لكان كلاماً صحيحاً"؟
قال أبو حيان: "وما قاله ابن عطية لا يتأتَّى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن "هُدىً" منصوبٌ على الحال، والحال وصفٌ في ذي الحال، وعطف عليه "وبيّنات"، فلا يخلو قول "مِنَ الهُدَى" - المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله "هُدَى" أو لقوله "وَبَيِّنَاتِ" أو لهما، أو متعلِّقاً بلفظ "بَيِّنَاتٍ"، لا جائزٌ أن يكون صفةً لـ"هُدًى"؛ لأنه من حيث هو وصفٌ، لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول، لزم أن يكون إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ "وَبَيِّنَاتٍ" معطوفٌ على "هُدىً" و "هُدىً" حال، والمعطوف على الحال حالٌ، والحالان وصفٌ في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت "بَيِّنَات" بقوله: "مِنَ الهُدَى" خصصناها به، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله: "هُدًى وبَيِّنَاتٍ" معاً، ومن حيث جعلت "مِنَ الهُدَى" صفةً لـ"بَيِّنَاتٍ"، وتوقَّف تخصيص "بَيِّنَاتٍ" على هُدَى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محالٌ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط، أو بينات فقط.
ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ "بَيِّنَاتٍ"؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتعلَّق به؛ فهو كالوصفِ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضاً: فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: منه - أي: من ذلك الهُدَى - لم يصحَّ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين، حتى يكون هُدى وبينات بعضاً منهما".
قوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله: { تَشْكُرُونَ } نقل الواحدِيُّ في "البسيط" عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا: الفاء في قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ } زائدةٌ؛ قالا: وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف، أو للجزاء، أو تكون زائدةً، وليس لكونها للعطف، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [الجمعة: 8].
قال: وأقول: يمكن أن تكون "الفاء" هاهنا للجزاء؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصًّا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشُّهور فيها، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة، وأما قوله تعالى:
{ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [الجمعة: 8] الفاء فيه غير زائدة أيضاً، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ؛ كأنه قيل: لمَّا فرُّوا من الموت، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر. و"مَنْ" فيها الوجهان: أعني كونها موصولةً، أو شرطيةً، وهو الأظهر، و"مِنْكُم" في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في "شَهِدَ" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائِناً منكم، وقال أبو البقاء: "مِنْكُم" حالٌ من الفاعل، وهي متعلقةٌ بـ"شَهِدَ"، قال أبو حيان: "فَنَاقَضَ؛ لأنَّ جَعْلَها حالاً يوجب أن يكون عاملها محذوفاً، وجعلها متعلِّقة بـ"شَهِدَ" يوجب ألاَّ تكون حالاً" ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّق المعنويُّ، فإنَّ "كائناً" الذي هو عامل في قوله "مِنْكُم" هو متعلِّقٌ بـ"شَهِدَ" وهو الحالُ حقيقةً.
وفي نَصْبِ "الشَّهْرِ" قولان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف، والمراد بشَهِدَ: حَضَر، ويكون مفعولُ "شَهِدَ" محذوفاً، تقديره: فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ.
والثاني: أنه منصوب على المفعول به، وهو على حذف مضافٍ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيح أنَّ تقديره: "دُخُولَ الشَّهْرِ"، وقال بعضهم: "هِلاَلَ الشَّهْرِ" قال شهاب الدين: وهذا ضعيفٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهِلاَلَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلاَلَ.
ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود: الحضُور.
والثاني: أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ، وليس كذلك، قال: ويجاب بأن يقال: نعم، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين، فإن خرج بعضهم بدليل، فيبقى الباقي على العموم.
قال الزمخشريُّ: "الشَّهْرَ" منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاء في "فَلْيَصُمْهُ" ولا يكون مفعولاً به؛ كقولك: شَهِدْتُ الجُمُعَةَ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ" وفي قوله: "الهاء منصوبةٌ على الظرف" نظرٌ لا يخفى؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ بـ"فِي"، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه، فينصب نصب المفعول به، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضاً على الظرف.
والفاء في قوله: "فَلْيَصَمْهُ": إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في "مَنْ".
واللام لام الأمر، وقرأ الجمهور بسكونها، وإن كان أصلها الكسر، وإنما سكَّنوها؛ تشبيهاً لها مع الواو والفاء بـ"كَتِف"؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل. وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن. وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء، فقال: "مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام؛ لفتحةِ الياء بعدها"، قال: "فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ: نحو: لِيُنْذِرْ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالداً".
والألف واللام في قوله: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ } للعهد، إذ لو أتى بدله بضميرٍ، فقال: "فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ" لصَحَّ إلا أنَّه أبرزه ظاهراً؛ تنويهاً به.
فصل بي بناء القولين على مخالفة الظاهر
قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني: كون مفعول "شَهِدَ" محذوفاً أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر.
أما الأوَّل: فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ، وأمَّا الثاني: فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر، مع أنَّ لم يجب على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في "أُصُول الفِقْه" أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار، فالتخصيص أولى، وأيضاً، فلأنَّا على القول الأول، لما التزمنا الإضمار لا بُدَّ أيضاً من التزام التَّخْصيص؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم.
فالقول الأول: لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص.
والقول الثاني: يتمشى بمجرَّد التخصيص؛ فكان القول الثاني أولى، هذا ما عندي فيه، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل.
فصل
قال ابن الخطيب قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } جملة مركَّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ، فالشَّرط هو { مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ }، والجزاء هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه، لم يترتَّب عليه الجزاء، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر، وهذا محالٌ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي؛ وهو ممتنعٌ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل، وطريقه: أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر؛ فيصير تقديره: من شَهِدَ جزءاً من أجزاء الشَّهر، فليصم كلَّ الشهر، فعلى هذا: من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر، وعلى هذا التقدير، يستقيم معنى الآية، وليس فيه إلاَّ حَمْلُ لفظ الكل على الجزء، وهو مجازٌ مشهور.
ولقائلٍ أن يقول: إنَّ الزجَّاج قال: إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه؛ كما تقدَّم عنه، وإذا كان كذلك، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.
قال القرطبيُّ: وأعيد ذكر الشَّهر؛ تعظيماً له؛ كقوله
{ ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَآقَّةُ } [الحاقة: 1 - 2]؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلال قول الشاعر: [الكامل]

943ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر

فصل
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّ من دخل عليه الشهر، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم، ولا يجوز له الفطر؛ لأنه شهد الشهر.
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان، جاز له الفطر، ويقولون: قوله { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر، إلاَّ أن قوله بعد ذلك: { فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً، أوْ عَلَى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ } خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
ذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - إلى أنَّ المجنون، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.
قال: لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان، لزمه صوم رمضان؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً؛ فيجب قضاؤه
فصل في كيفية شهود الشَّهْر
شهود الشَّهر: إما بالرُّؤية أو بالسَّماع.
أما الرؤية: فنقول: إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده، فإما أن يرد الإمام شهادته أولا؛ فإن ردَّت شهادته، وجب عليه الصَّوم؛ لأنَّه شهد الشَّهر، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية، فلا شك في وجوب الصَّوم.
وأما السماع: فنقول: إذا شهد عدلان على رؤية الهلال، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال، لا يحكم به، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصَّوم، والفرق بينه وبين هلال شوَّال: أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة، وهلال شوَّالٍ للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.
قال ابن الخطيب وعندي: أنه لا فرق بينهما في الحقيقة، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان؛ لكي يصوموا، ولا يفطروا؛ احتياطاً؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً.
فصل في حدِّ الصوم
الصَّوم: هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة.
فقولنا: "إمساك" هو الاحتراز عن شيئين:
أحدهما: لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه، لا يبطل صومه؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ، وقد قال الله تعالى: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }.
والثاني: لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً، أو حال النوم - لا يبطل صومه، والإكراه لا ينافي الإمساك.
وقولنا "عَنِ المُفطرَاتِ" وهي ثلاثة: دخول داخلٍ، أو خروج خارجٍ، والجماعُ.
وحدُّ الدخول: كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن، إما إلى الدماغُ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط، وأما البطن، فيحصل الفطر بالحقنة؛ وأما الخروج، فالقيء [بالاختيار]، والاستمناء [يُبْطلانَ الصوم]، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع.
وقولنا "مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً" فلو أكل أو شرب ناسياً، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمد، وعند مالك يبطُلُ.
وقولنا: "مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ"؛ لقوله تعالى:
{ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } [البقرة: 187] وكلمة "حَتَّى"؛ لانتهاء الغاية.
وكان الأعمش يقول: أول وقته إذا طلعت الشمس، وكان يبيحُ الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ ويحتج بأنَّ انتهاء الصَّوم [من وقت] غروب الشمس، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها، وهذا باطلٌ بالنصِّ الذي ذكرناه.
وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده، فقال له الأعمش: إنَّك لثقيلٌ على قلبي، وأنت في بيتك، فكيف إذا زرتني، فسكت عنه أبو حنيفة، فلمَّا خرج من عنده، قيل له: لم سكتَّ عنه؟ قال: فماذا أقول في رجلٍ ما صام ولا صَلَّى عمره، وذلك لأنه كان يأكل بعد الفجر الثَّاني قبل طلوع الشمس، فلا صوم له، وكان لا يغتسل من الإنزال، فلا صلاة له.
وقولنا: "إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ"؛ لقوله عليه السلام:
"إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَا هُنَا وَأَدَبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" ومن الناس من يقول: وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها، وهو مغيب الشمس.
وقولنا "مَعَ النِّيِّةِ"؛ لأنَّ الصوم عملٌ؛ لقوله عليه السَّلام:
"الصَّوْمُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، والعلم لا بُدَّ فيه من النيَّة" ، لقوله - عليه السَّلام -: "إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" ، ومن الناس من قال: لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة؛ لأن الله تعالى امر بالصَّوم بقوله: "فَلْيَصُمْهُ" والصَّوم هو الإمساك، وقد وجد، فيخرج عن العهدة، وهذا مردودٌ بقوله - عليه السلام - "إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ" والصوم عملٌ.
وقوله { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قد تقدَّم الكلامُ عليها، وبيانُ السبب في تكريرها.
قوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى:
{ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } [البقرة: 26]. و"أَرَادَ" يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه، وقد ينعكس الأمر؛ قال الشاعر: [الطويل]

944 - أَرَادَتْ عَرَاراً بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ عَرَاراً لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ

والباء في "بِكُمْ" قال أبو البقاء: لِلإلْصَاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ، وهو من مجاز الكلام، أي: يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ، وفي قوله: { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } تأكيدٌ؛ لأنَّ قبله "يُرِيدُ بِكُمُ اليُسْرَ" وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز: "اليُسُر، والعُسُر" بضمّ السين، والضمُّ للإتباع؟ والأظهر الأول؛ لأنه المعهود في كلامهم.
و"اليُسْرُ" في اللغة السُّهُولة، ومنه يقال للغنى والسَّعة: اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى، قيل: تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى.
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه.
وأُجيبوا: بأنَّ اللفظ المفرد، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، ولو سلَّمنا ذلك لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع.
فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة
قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على أنَّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى؛ وذلك لأنَّ المريض لو تحمَّل الصَّوم حتى أجهده، لكان يجب أن يكون قد فعل مالا يريده الله تعالى منه، إذْ كان لا يريد غيره.
وأُجيبوا بحمل اللَّفظ على أنَّه تعالى لا يريدُ أنْ يأمر بما فيه عسر، وإن كان قد يريدُ منه العُسر؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة.
قالت المعتزلة: هذه الآيةُ دالَّة على أنه تعالى لا يريدُ بهم الكُفر فيصيرون إلى النَّار، فلو خلق فيهم ذلك الكُفر، لم يكن لائقاً به أنْ يقول { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } وجوابه: أنه معارضٌ بمسألة العلم.
قوله: { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ } في هذه اللام ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنها زائدةُ في المفعول به؛ كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، و"أَنْ" مُقَدَّرةً بعدها، تقديرهُ: { وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ }، أي: تكميل، فهو معطوفٌ على اليُسْر؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ: [الطويل]

945 - أُرِيدَ لأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ

وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ - وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه، فَعُدِّيَ بزيادة اللام؛ قياساً لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم.
الثاني: إنَّها لامُ التعليل، وليست بزائدةٍ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه:
أحدها: أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل، تقدير: "وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ فَعَلَ هَذَا"، وهو قولُ الفراء. الثاني – وقاله الزَّجَّاج – أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضاً تقديره: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ؛ ليسهّل عليكم، ولِتُكْمِلُوا.
الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: "ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْْ فِي ذَلِكَ" ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين.
الرابع: أنَّ الواو زائدةٌ، تقديرُه: يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا، وهذا ضَعِيفٌ جِداً.
الخامس: أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد قوله: "وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ"، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامه قال: "شَرَعَ ذَلِكَ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطرِ، فقولهُ: "وَلِتُكْمِلُوا" علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّة، و"لِتُكَبِّرُوا" علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و"لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" علةُ الترخيص والتيسير، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ".
السادس: أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعملون، ولِتُكْمِلُوا، قاله الزمخشريُّ؛ وعلى هذا، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير
واختصارُ هذه الأوجه: أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمَّا قبلها، وإمَّا بعدها، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها، وهو "يُرِيدُ". القول الثالث: أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ؛ وعلى ما قبلَه: يكونُ من عطف المفردات؛ كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابن عطيَّة، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين:
أحدهما: أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ، نحو: لِتَقُمْ يَا زَيْدُ، وقد قرئ شَاذَاً:
{ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُواْ } [يونس: 58] بتاء الخطاب.
والثاني: أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام، ولو كانت للأمر، لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ "وَلِتُكْمِلُوا" مخفَّفاً من "أكْمَلَ"، والهمزةُ فيه للتعدية، وقرأ أبو بكرٍ بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعدية أيضاً؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالباً، والألفُ واللاَمُ في "العِدَّةِ" تَحْتَملُ وجهين:
أحدهما أنها للعهدِ، فيكونُ ذلك راجعاً إلى قوله تعالى:
{ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا هو الظاهرُ.
والثاني: أنْ تكونَ للجنس، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ، والمعنى: أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين.
قال ابن الخطيب: إنما قال: "وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ" ولم يقل: "ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ"؛ لأنه لما قال: "وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة" دخل تحته عدة أيَّام الشهر، وأيام القضاء، لتقدُّم ذكرهما جميعاً؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المضي، ولو قال: "وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ" لدل على حكم الأداء فقط، ولم يدخل حكم القضاء.
واللامُ في "وَلِتُكَبِّرُوا" كهي في "وَلِتُكْمِلُوا" فالكلامُ فيها كالكلام فيها، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا.
قوله: "عَلَى مَا هَدَاكُمْ" هذا الجارُّ متعلِّقٌ بـ"تُكَبِّرُوا" وفي "عَلَى" قولان:
أحدهما: أنها على بابها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزَّمخشري: "كأنَّه قيل: ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ" قال أبو حيان –رحمه الله -: "وهذا منه تفسيرُ معنًى، لا إعراب؛ إذ لو كان كذلك، لكان تعلُّقُ "عَلَى:" بـ"حَامِدِينَ" التي قَدَّرها، لا بـ"تُكَبِّرُوا"، وتقديرُ الإعراب في هذا هو: "وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم"؛ كما قدَّره الناسُ في قوله: [الرجز]

946 – قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَاداً عَنِّي

أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قوله: [الطويل]

947 – وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ

أي: متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى".
والثاني: أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ.
و"ما" في قوله: "عَلَى مَا هَدَاكُمْ" فيها وجهان:
أظهرهُما: أنها مصدرية، أي: على هدايته إيَّاكم.
والثاني: أنَّها بمعنى "الذي" قال أبو حيان "وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن:
أحدهما: حذفُ العائد، تقديرُه، هَدَاكُمُوهُ، وقدَّره منصوباً، لا مجروراً باللام، ولا بـ"إِلَى" لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ.
والثاني: حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ".
وخُتِمَت هذه الآية الكريمة بترجِّي الشُّكر، لأنَّ قبلها تيسيراً وترخيصاً، فناسب خَتمَها بذلك، وخُتمت الآيتان قبلها بترجِّي التقوى، وهو قوله تعالى:
{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [البقرة: 179] وقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [البقرة: 178] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليف، فناسب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّبَ بترجِّي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصٍ عَقَّب بترجِّي التقوى وشبهها، وهذا من محاسن عِلْم البيان والله أعلم.
فصل في المراد بالتكبير في الآية
في المراد بهذا التكبير قولان:
أحدهما: المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر.
قال ابنُ عبَّاس – رضي الله عنهما – حقٌّ على المسلمين، إذا رأوا هلالَ شَوَّالِ أنْ يكبِّروا.
قال مالكٌ والشَّافعي –رحمه الله – وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد: سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين.
وقال أبو حنيفة: يكرَهُ في غداة الفِطر.
واحتجَّ الأوَّلُون بقوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [قالوا: معناه] ولتكملوا عدَّة صوم رمضان، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة.
واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير؟ فقال الشَّافعيُّ في "القديم": ليلة النَّحرِ أوكد؛ لإجماع السَّلف عليها، وقال في "الجديد" ليلةُ الفطر أوكَدُ؛ لورود النصِّ فيها، وقال مالكٌ: لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ، ولكنه يكَبَّر في يومه، وهو مرويٌّ عن أحمد.
وقال إسحاق: إذا غدا إلى المُصَلَّى.
واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت، واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ، فقيل: يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة.
وقيل: إلى خروج الإمام.
وقيل: إلى انصراف الإمام، وقال أبو حنيفة –رحمه الله تعالى – إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير.
القول الثاني في المراد بهذا التَّكبير: هو التعظيم للَّه تعالى؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة.
قال القرطبي: "عَلَى مَا هَدَاكُمْ" قيل: لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم.
وقيل: بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء، والتَّظاهر بالأحساب، وتعديد المناقب.
وقيل: لتعظّموه على ما أرشدكُم إليه من الشَّرَائع.