التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٨٩
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

نقل عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً، فَأْجِيبُوا.
قال ابن الخَطِيبِ: ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186]. وثانيها: هذه الآية، ثم الباقية بعد في سورة البقرة. فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة، والتَّاسع: في المائدة، قوله تبارك وتعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [المائدة: 4] والعاشر: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } [الأنفال: 1] والحادي عشر: في بني إسرائيل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } [الإسراء: 85] والثاني عشر في الكهف { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } [الكهف: 83] والثالث عشر في طه { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [طه: 105] والرابع عشر في النَّازعات { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ } [النازعات: 42].
ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ: آيتان:
الأول: منها في شرح المبدأ، وهو قول تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ.
والثاني: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه.
والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد، وهو قوله
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [طه: 105] و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ } [النازعات: 42].
ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان: أوّلهما "يَا أَيَهَا النَّاسُ" فالأولى: هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل؛ فإن الأولى هي "الفَاتِحَةُ" ثم "البَقَرَةُ" ثم "آلُ عِمْرَانَ" ثم "النِّسَاءُ" وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ
{ ٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [النساء: 1] والسُّورة الثَّانية: هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني: فإن أوله "مَرْيَم" ثم "طَه" ثم "الأَنْبيَاء" ثم "الحَجُّ" وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ، وحِكَمٌ مطويَّة [لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه].
فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة
روي عن معاذ بن جبلٍ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا: يا رسول الله، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ، ثُمَّ يزيد؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كالشَّمْسِ، فَنَزِلَتْ هذه الآية.
وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال: إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ عَنِ الأهَلَّةِ.
واعلم أنَّ قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّه قوله: { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان.
قوله تعالى: { عَنِ ٱلأَهِلَّةِ }: متعلِّقٌ بالسؤال قبله، يقال: "سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ" بمعنًى، والضمير في "يَسْأَلُونَكَ" ضمير جماعة.
فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ: أنَّ اليهودَ سألُوهُ، فلا كلام، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان؛ كما روي أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمٍ، سألوا، فيحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن أقلّ الجمع اثنان.
والثاني: من نسبة الشيء إلى جمعٍ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامهم.
فصل
قال الزَّجَّاج -رحمه الله -: "هلال" يُجمع في أقلِّ العدد على "أَفْعِلَةٍ" نحو: مثالٍ وأَمْثِلَةٍ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ، وفي أكثر العدد يجمع على "فُعُلٍ" نحو حُمُرٍ، لأنهم كرهوا في التضعيف "فُعُلٍ"، نحو هُلُل وخُلُل، فاقتصروا على جمع أدنى العدد.
والجمهور على إظهار نون "عَنْ" قبل لام "الأَهِلَّة" وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وقرئ شاذَاً: "عَلَّ هِلَّةِ"؛ وتوجيهها: أنه نقل حركة همزة "أَهِلَّة" إلى لام التَّعريف، وأدغم نون "عَنْ" في لام التعريف؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة، وهي لغة من يقول: "لَحْمَرُ" من غير همزة وصلٍ.
وإنما جُمِعَ الهلالُ، وإن كان مفرداً؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في آخر، والهلال: هذا الكوكبُ المعروف.
واختلف اللُّغَوِيُّون: إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً؟
فقال الجمهور: يُقَالُ له "هِلاَلٌ" لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لِثَلاَثٍ، ثم يكون "قَمَراً" وقال أبو الهيثم: يُقال له: "هِلاَلٌ" لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر، ولَيْلَتَيْنِ من آخره، وما بينهما "قَمَرٌ". وقال الأصمعيُّ: يُقَالُ له "هِلاَلٌ" إلى أن يُحَجِّرُ، وتحجيره: أن يستدير له؛ كالخيط الرقيق"، ويقال له: "بَدْرٌ" من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وقيل: يُسَمَّى "هِلالاً" إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ".
واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ، كلُّ قسمٍ: ثلاثُ ليالٍ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ، فالثلاثة الأولى: تسمَّى غرر، والثانية نقل، والثالثة تسع، والرابعة عشر، والخامسة بيض والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشرة محاق.
والهلال: يكون اسماً لهذا الكوكب، ويكون مصدراً؛ يقال: هلَّ الشَّهر هلالاً، ويقال: أُهِلَّ الهلالُ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ الهلالُ للفاعل؛ وأنْشَدَ: [الوافر]

964 - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ وَحَوْلٌ بَعْدَهُ حَوْلٌ جَدِيدٌ

وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته، وقيل: لأنه من البيان، والظهور، أي: لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه، ولذلك يقال: تهلَّل وجهه: ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً: [الكامل]

965 - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ

وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ: الصُّرَاخُ عند قوله { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } [البقرة: 172]. "وفِعَالٌ" المضعَّف يطَّرد في تكسيره "أَفْعِلَة" كأَهِلَّةٍ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ؛ كقوله: عِنَنٌ، وحِجَجٌ، في عِنَان، وحِجَاج.
وقدَّر بعضهم مضافاً قبل "الأَهِلَّة" أي: عن حكم اختلاف الأهلَّة، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله: { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } وقيل: إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعدل عن سؤالهم، إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ.
و"لِلنَّاسِ" متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لـ"مَوَاقِيتُ" أي: مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ. ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ؛ لما فيها من معنى النقل؛ إذ لا معنى لذلك. والمَوَاقِيتُ: جمع ميقَاتٍ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها؛ إذ الأصل: موقاتٌ من الوَقْتِ، وإنَّما قلبت ياءً؛ لكسر ما قبلها، فلمَّا زال موجبه في الجمع، رُدَّت واواً، ولا ينصرف؛ لأنه بزنة منتهى الجموع.
فإن قيل: لم صرفت قوارير؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن، ليجري على طريقة الآيات كما تنوَّن القوافي في مثل قوله: [الوافر]

966 - أَقِلِّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ، والعتَابَنْ ............................

و"المِيقَات": منتهى الوقت؛ قال تبارك وتعالى: { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ } [الأعراف: 142] والهلال: ميقات الشَّهر؛ أي: منتهاه، ومواضع الإحرام: مواقيت الحجِّ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها، وقيل: الميقات: الوقت؛ كالميعاد بمعنى الوعد.
فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس
فإن قيل: لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟
فالجواب: أنَّ الأهلَّة وأشهرها، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس، دون الشمس وأشهرها؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة، كصوم رمضان، وأشهر الحجِّ، وهي شوَّال، وذُو القعدة وذو الحجَّة. والأشهر المنذورة، والكفَّارات، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسلم، وأشهر الإيلاء، وأشهر العدد، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين، وغير ذلك؛ بخلاف الشَّمس، وأشهرها؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ، ولا نقصٍ، ولا يعرف أوَّله وآخره، ولا تختلِفُ رؤيتها، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة؛ وهي الصَّيف، والشِّتاء، والرَّبيع، والخريف؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس، دون الشَّمس.
فصل
اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة؛ فقال تعالى: { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } وذكر هذا المعنى في آية أخرى، وهي قوله تعالى:
{ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [يونس: 5] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ، ودنيويةٌ.
فالدينية: كالصَّوم، والحَجِّ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها، والنذور المتعلِّقة بالأوقات، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة.
والدنيويَّة: كالمداينات، والإجارات، والمواعيد، ولمدَّة الحمل والرَّضاع.
قوله: "والحَجِّ" عطفٌ على "النَّاس" قالوا: تقديره: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني؛ اكتفاءً بالأوَّل.
وقيل: فيه إضمارٌ، تقديره: وللحَجَّ كقوله
{ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ } [البقرة: 233] أي: لأولادكم.
ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ.
قال تعالى:
{ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [البقرة: 197].
فإن قيل: الصَّوم أيضاً يطلب هلاله؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -:
"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ"
قلنا: نعم، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض، والنُّفَسَاء، والمُسَافر، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته، لا يقضى في غيره من الأشهر.
واحتجَّ مالك -رحمه الله تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك.
قال القَفَّال: إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء؛ فأفرد بالذِّكر، وكأنه تخصيص بعد تعميم؛ إذ قوله تعالى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاس" ليس المعنى لذوات الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ، أي: مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب "النَّاسِ" منابه في الإعراب.
وقرأ الجمهور "الحَج" بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم، فقرءوا
{ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران:97] بالكسر، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنًى واحدٍ، أو مختلفان؟ قال سيبويه: "هما مَصْدَرَانِ"؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتح: مصدرٌ، وبالكسر: اسمٌ.
فصل في الرد على أهل الظَّاهر
قال القرطبيُّ: هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم، وشرَّف، وكَرَّم، ومجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - من غير توقيت، وقال: وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام -
"قال لليهود: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ"
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه، وليس كذلك غيره.
قوله: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ } كقوله:
{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ } [البقرة:177] وقد تقدم؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع "البِرِّ"؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم.
وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ، وورشٌ" البُيُوت" و "بُيُوت" و"الغُيُوب" و"شُيُوخاً" بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء، وكذلك في تصغيره، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً، قاله أبو البقاء -رحمه الله -.
و"مِنْ" قوله: "مِنْ ظُهُورِهَا" و"مِنْ أَبْوَابِهَا" متعلقةٌ بالإتيان، ومعناها ابتداءُ الغاية، والضميرُ في "ظُهُورِهَا" و "أَبْوَابِهَا" للبُيُوت، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك.
وقوله: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } كقوله - تبارك وتعالى -:
{ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ } [البقرة:177] يعني: تقديره: بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان، وهما: "وَلَيْسَ البِرُّ"وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى" عطف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما: "وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"واتَّقُوا اللَّهَ" وفي التصريح بالمفعول في قوله: "وَاتَّقُوا اللَّهَ" دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى، أي اتَّقَى الله.
فصل في سبب نزول الآية
قال الحسن، والأصمُّ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة، إذا همَّ بشيءٍ، فتعسَّر عليه مطلوبه، لم يدخل بيته من بابه، بل يأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً، وعلى هذا: تأويل الآية الكريمة { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به، بل توكَّل على الله تعالى، واتَّقَاه" ثمَّ قال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى:
{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2 - 3] { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [الطلاق: 4] وتحقيقه: أن من رجع خائباً يقال: ما أفلح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين، وقد وردت الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر، قال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ" وقال: "مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ، فَقَدَ أَشْرَكَ" و "كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ" وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه، فقالوا: { قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ } [النمل: 47].
وقال المفسِّرون: سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة: كان الناس في أوَّل الإسلام، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم، فإن كان من أهل المدن، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه، ويخرج، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره، ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس، وهم قريشٌ، وكنانة، وخزاعة، وخيثمٌ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشِّدَّة.
قال العجَّاجُ: [الرجز]

967 - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ

وهؤلاء متى أحرموا، لم يدخلوا بيوتهم ألبتَّة، ولا يستظلُّون الوبر، ولا يأكلون السمن، والأقط، ثم "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، دخل، وهو محرمٌ، بيتاً لبعض الأنصار، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ، فدخل على أثره من الباب، فقال - عليه الصلاة والسلام دائماً وابداً -: تَنَحَّ عَنَّي فقال: ولمَ، يا رسول الله؟ قال: دخلت الباب، وأنت مُحْرِمٌ، فقال: رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، شرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم: إنِّي أحْمَسُ فقال الرَّجُلُ: إن كنت أحمسياً، فإني أحمسي، رضيت بهديك، وسمتك، ودينك" "، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة.
قال الزُّهريُّ: كان ناسٌ من الأنصار، إذا أهلُّوا بالعمرةِ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة، فتبدوا له الحاجة بعد ما يخرج من بيته؛ فيرجع، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء، فيفتح الجدار من ورائه، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته؛ حتى
"بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم: لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ؟ قال: لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم: إني أحمسي فقال الأنصاريُّ: وأنا أحمسي، وأنا على دينك" ، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة.
فصل في اختلافهم في تفسير الآية
ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه:
أحدها:- وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك، وهي قوله: { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } فأيُّ تعلُّق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر، وبين هذه القصَّة، فذكروا وجوهاً:
أحدها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى.
وثانيها: أنه تعالى إنَّما وصل قوله: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } بقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ }؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ، ووصل أحد الأمرين بالآخر.
وثالثها: كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة، فقيل لهم: اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم، وارجعوا إلى البحث، عمَّا هو أهمُّ لكم، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ؛ وليس الأمر كذلك.
الوجه الثاني من تفسير الآية: أنَّ قوله تعالى: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } مثل ضربه الله تعالى، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون، ولا ينعكس.
وإذا عرف هذا، فنقولُ: ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً، مختاراً، حكيماً، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن العبث والسَّفه.
وإذا عرفنا ذلك، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة، واستدلَلْنَا بالمَعلُوم على المجهول، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم، فهو استدلالٌ باطلٌ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم، وإذا عُرف هذا، فالمرادُ من قوله تعالى: { لَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } يعني: أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ، وقدأَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه "إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا" وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن، وهو حكمةُ خالقِها على هذا المجهول، وتقطعُوا بأنَّ فيه حكمةً بالغةً، وإنْ كُنْتُم لا تعلمونَها. فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب، يقولُ له: ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه، وفي ضِدَّه قالُوا: ذهب إلى الشيءِ من غير بابه، قال تعالى:
{ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمراان: 187] وقال عزَّ مِنْ قَائل: { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [هود: 92] وهذا تأويل المتكلِّمين.
قال ابن الخطيب: ولا يصحُّ تفسير هذه الآية؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
الوجه الثالث: قال أبو مسلم: إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم، فيحرِّمون الحلال، ويحلُّون الحرام، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره.