التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين، وكيفية المشابهة من وجوه:
أحدها: أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه، وإذا ذهب بَقَوا في ظلمة عظيمة، فوقفوا متحيّرين؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه تشتدّ حيرته، وتعظم الظُّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدِّين بهؤلاء الذين وصفهم، إذا كانوا لا يرون طريقاً، ولا يهتدون.
وثانيها: أن المَطَرَ وإن كان نافعاً إلاّ أنه لما وجد في هذه الصُّورة مع هذه الأحوال الضَّارة صار النفع به زائلاً، فكذا إظهار الإيمان نافعٌ للمنافقين لو وافقه الباطن، فإذا فقد منه الإخلاص، وحصل معه النفاق كان ضرراً في الدِّينِ.
وثالثها: أن من هذا حاله، فقد بلغ النهاية في الحَيْرَةِ لاجتماع أنواع الظلمات، وحصول أنواع المَخَافَةِ، فحصلت في المنافقين نهاية الحَيْرَةِ في الدين، ونهاية الخوف في الدنيا؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يزال الخَوْفُ في قلبه مع النفاق.
ورابعها: المراد من الصَّيِّب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشَّاقة على المنافقين من التكاليف كالصَّلاة والصوم وترك الرِّيَاسات، والجهاد مع الآباء والأمّهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع شدّة استنكافهم عن الانقياد، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المَطَرِ الصَّيِّب الذي [هو] أشَدُّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأُمُور المُقَارنة، كذلك هؤلاء. والمراد من قوله: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أنّه متى حصل لهم شيء من المَنَافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم، وحصول الغنائم، فإنهم يرغبون في الدِّين.
قوله: { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع، فحينئذ يكرهون الإيمان، ولا يرغبون فيه.
فصل في "أو"
في "أو" خمسة أقوال:
أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى: أنَّ الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد، ومنهم من يشبههم بأَصْحَاب صَيِّبٍ هذه صفته.
قال ابن الخطيب: "والثاني أبلغ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة".
والثاني: أنها للإبهام، أي: أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.
والثالث: أنها للشَّك، بمعنى: أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم.
الرابع: أنها للإباحة.
الخامس: أنها للتخيير، قالوا: لأن أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتسع فيها، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك: "جالس الحسن أو ابن سيرين" يريد أنهما سيّان، وأن يجالس أيهما شاء، ومنه قوله تعالى:
{ { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان: 24]، أي: الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين:
أحدهما: كونها بمعنى "الواو"؛ وأنشدوا: [البسط]

239- نَال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

وقال تعالى: { { تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النور: 61] وقال: [الطويل]

240- وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا

قال ابن الخطيب: وهذه الوجوه مطردة في قوله: { { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74].
المعنى الثاني: كونها بمعنى: "بل"؛ قال تعالى:
{ { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147] وأنشدوا: [الطويل]

241- بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتِهَا أوْ أَنْتِ في العَيْنِ أمْلَحُ

أي: بل أنت.
و "كصيب" معطوف على "كَمَثَلِ"، فهو في محل رفع، ولا بد من حذف مضافين؛ ليصح المعنى، التقدير يراد: "أو كمثل ذوي صيّب" ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ ءَاذَانِهِم }، لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه.
و" الصَّيب" المَطَرُ سمي بذلك لنزوله، يقال: صاب يصوب إذا نزل؛ ومنه: صوَّب رأسه: إذا خفضه؛ قال [الطويل]

242- فَلَسْتُ لإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

وقال آخر: [الطويل]

243- فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ

وقيل: إنه من صَابَ يَصُوب: إذا قصد، ولا يقال: صَيّب إلا للمطر الجَوَاد، كان - عليه الصلاة والسلام - يقول: "اللهم اجعله صَيِّباً هَنِيئاً" أي: مطراً جواداً، ويقال أيضاً للسحاب: صَيّب؛ قال الشماخ: [الطويل]

244-.................................. وَأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ

وتنكير "صيب" يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت "النَّار" في التمثيل الأول.
وقرىء "كصائب"، والصَّيب أبلغ.
واختلف في وزن "صَيِّب".
فقد ذهب البصرون أنه "فَيْعِل"، والأصل: صَيْوِب أدغم كـ "مَيّت" و "هَيّن"، والأصل: مَيوت وهَيْوِن.
وقال بعض الكوفيين: وزنه "فَعِيل" والأصل: صَوِيب بزنة طويل.
قال النحاس: وهذا خطأ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل، وكذا أبو البقاء.
وقيل وزنه: "فَعْيِل" فقلب وأُدغم.
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله:
{ { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة: 17] استئنافية، ومن قوله: { { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة: 18] إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين، أعني قوله: "كَمَثَل" و "كَصَيِّبٍ" وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر: [الوافر]

245- لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّرَاتٌ وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي

ففصل بين القسم، وهو "لعمرك" وبين جوابه، وهو "لَقَدْ بَالَيْتُ" بجملتين إحداهما: "والخطوب مغيرات".
والثانية: "وفي طول المُعَاشرة التَّقالي".
و "من السماء" يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يتعلّق بـ "صيب"؛ لأنه يعمل عمل الفعل، والتقدير: كمطر يَصُوب من السماء، و "مِنْ" لابتداء الغاية.
والثَّاني: أن يكون في محلّ جر صفة لـ "صيب"، فيتعلّق بمحذوف، وتكون "من" للتبغيض، ولا بُدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره: كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ.
والسماء: هذه المطلّة، وهي في الأصل كل ما عَلاكَ من سَقْفٍ ونحوه، مشتقة من السُّمو، وهو الإرتفاع، والأصل: سَمَاو، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد، نحو: "كساء ورداء"، بخلاف "سقاية وشقاوة" لعدم تطرف حرف العلّة، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت؛ نحو: "سماوة".
قال الشاعر: [الرجز]

246- طَيِّ اللَّيَالِي زُلَفاً فَزُلَفَا سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا

والسماء مؤنث قال تعالى: { { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [الانفطار: 1] وقد تذكَّر؛ قال تعالى: { { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [المزمل: 18]؛ وأنشد: [الوافر].

247- وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْماً لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ

فأعاد الضَّمير من قوله: "إلَيْهِ" على "السَّمَاء" مذكَّراً، ويجمع على "سَمَاوَاتٍ، وأَسْمِيَة، وَسُمِيّ"، والأصل "فعول"، إلا أنه أعلّ إعلال "عِصِيّ" بقلب الواوين ياءين، وهو قلب مطّرد في الجمع، ويقلّ في المفرد نحو: عتا - عُتِيًّا، كما شذ التصحيح في الجمع قالوا: "إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرة"، وجمع أيضاً على "سماء"، ولكن مفرده "سَمَاوة"، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتَمْرٍ، ويدلّ على ذلك قوله: [الطويل]

248-...............................فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا

ووجه الدّلالة أنه مُيِّز به "سَبْع" ولا تُمَيَّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور.
وفي قوله: "من السَّمَاءِ" ردّ على من قال: إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، فذاك هو المطر؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصَّيب نزل من السَّمَاء، وقال:
{ { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } [الفرقان: 48].
وقال:
{ { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [النور: 43].
قوله: { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [البقرة: 19] يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لـ "صَيّب".
الثاني: أن يكون حالاً منه، وإن كان نكرة لتخصصه، إما بالعمل في الجار بعده، أو بصفة بالجار بعده.
الثالث: أن يكون حالاً من الضمير المُسْتَكِنّ في "من السماء" إذا قيل: إنه صفة لـ "صَيّب"، فيتعلّق في التقادير الثلاثة بمحذوف، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال.
و "ظلمات" على جميع هذه الأقوال فاعل به؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف، أو ذي حالٍ، أو ذي خبر، أو على نَفْي، أو استفهام عملا عمل الفعل، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقاً كالوصف، وسيأتي تحرير ذلك.
الرابع: أن يكون خبراً مقدماً، و "ظلمات" مبتدأ، والجملة تحتمل وجهين:
الأول: الجر على أنها صفة لـ "صيب".
والثاني: النَّصْب على الحال، وصاحب الحال يحتمل أن يكون "كصيب"، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه، وأن يكون الضَّمير المستكن في "من السَّماء" إذا جعل وصفاً لـ "صيّب"، والضمير في "فيه" ضمير "الصيب"، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالاً، ورفع "ظلمات" على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } جملة برأسها في محلّ صفة أو حال؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين.
و "رَعْدٌ وبَرْقٌ": معطوفان على "ظلمات" بالاعتبارين المتقدّمين، وهما في الأصْل مصدران تقول: رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداً، وبَرَقَتْ بَرْقاً.
قال أبو البقاء: وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانِ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق، نحو: رجل عَدْل.
والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر، بل جعلا اسماً [للهز واللمعان].
والبرق: اللَّمَعَان، وهو مقصود الآية، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ.
وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما - وأكثر المفسرين: الرعد: اسم ملك يسوق السَّحاب، والبرق: لَمَعَانُ سَوْطٍ] من نور يزجر به الملك السحاب.
وقيل: الرعد صوت انضغاط السّحاب.
وقيل: تسبيح الملك.
وقيل: الرعد نطق الملك، والبرق ضحكه.
وقال مجاهد: الرعد اسم الملك؛ ويقال لصوته أيضاً: رعد، والبرق اسم ملك يسوق السحاب.
وقال شهر بن حَوْشَبٍ: الرعد ملك يُزْجِي السحاب، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق.
وقيل: الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب. فإن قيل: لم جمع "الظّلمات"، وأفرد "الرعد والبرق"؟
فالجواب: أن في "ظلمات" اجتمع أنواع من الظُّلمة، وهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة تَكَاثف المطر، وأما الرعد والبرق فكلّ واحد منهما نوح واحد.
ونكرت؛ لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجيةٌ، ورعد قاصف، وبرق خاطف.
{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ }، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل: ما حالهم؟ فقيل: يجعلون.
وقيل: بل لها محلّ، ثم اختلف فيه فقيل: جرّ؛ لأنها صفة للمجرور، أي: أصحاب صيب جاعلين، والضمير محذوف.
أو نابت الألف واللام منابه، تقديره: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه.
وقيل: محلُّها نصب على الحال من الضمير في "فيه".
والكلام في العائد كما تقدّم، والجَعْل - هنا - بمعنى الإلقاء، ويكون بمعنى الخَلْق، فيتعدّى لواحد، ويكون بمعنى "صَيَّرَ" أو "سمى"، فيتعدى لاثنين، ويكون للشروع، فيعمل عمل "عسى".
و "أَصَابِعَهُمْ" جمع إصبع، وفيها عشر لُغَات: بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ، والعاشرة "أصبوع" بضم الهمزة.
والواو في "يَجْعَلُون" تعود لِلْمُضَاف المحذوف، كما تقدم إيضاحه.
واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران:
أحدهما: أن يلتفت إليه.
والثاني: ألا يلتفت إليه، وقد جمع الأمران في قوله تعالى:
{ { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4]، والتقدير: وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله: { { أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا } [الأعراف: 4]، ورعاه في قوله تعالى: { { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4] وذكر الأصابع، وإن كان المجعول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى: { { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، و { فِيۤ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } كلاهما متعلّق بالجعل، و "من" معناها التعليل.
و "الصَّوَاعق": جمع صاعقة، وهي الضَّجّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار.
ويقال: "ساعقة" بالسِّين، و "صاعقة"، و "صاقعة" بتقديم القاف؛ وأنشد: [الطويل]

249- أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِينَ أصَابَهُمْ صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوْق الصَّواقِعِ

ومثله قول الآخر: [الرجز]

250- يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ

وهي قراءة الحسن.
قال النَّحَّاس: وهي لغة "تميم"، وبعض "بني ربيعة"، فيحتمل أن تكون "صاقعة" مقلوبة من "صَاعِقة" ويحتمل ألاّ تكون، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم.
ويقال: "صقعة" أيضاً، وقد قرأ بها الكسَائي في "الذاريات".
يقال: صُعِقَ زيد، وأصعقه غيره قال: [الطويل]

251- تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ

وقيل: "الصّاعقة" [قصف رعد ينقض منها شعلة] من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود.
وقيل: الصاعقة: قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ،
"وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال: اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ" .
قوله: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أي: مَخَافَةَ الهلاك، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله ناصبه "يجعلون"، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله؛ لأن الفعل يعلّل يعلل.
الثاني: أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذراً مثل حَذَرِ الموت. و "الحَذَرُ" و "الحِذَار" مصدران لـ "حذر" أي: خاف خوفاً شديداً.
واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام:
قسم يكثر نصبه، وهو ما كان غير معرف بـ "أل" ولا مضاف نحو: "جئت إكراماً لك".
وقسم عكسه، وهو ما كان معرَّفاً بـ "أل"؛ ومن مجيئه منصوباً قول الشاعر: [الرجز]

252- لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ

وقسم يستوي فيه الأمران، وهو المضاف كالآية الكريمة، ويكون معرفةً ونكرةً، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله: [الطويل]

253- وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ وَأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا

و "حَذَرَ المَوْتِ" مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده.
والثاني: فعل ما لم يسم فاعله.
والثالث: فاعل "أفعل" في التعجُّب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافاً للكوفيين.
والموت: ضد الحياة؛ يقال: مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ؛ قال الشاعر: [الرجز]

254- بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي

وعلى هذه اللّغة قريء "مِتْنا" و "مِتُّ" - بكسر الميم - كـ "خِفْنَا" و "خِفْتُ"، فوزن "مَاتَ" على اللغة الأولى" فَعَلَ" بفتح العين، وعلى الثانية" فَعِلَ" بكسرها، و "المُوَات": بالضمِّ المَوْت أيضاً، وبالفتح: ما لا روح فيه، والمَوَتَان بالتحريك ضد الحيوان؛ ومنه قولهم: "اشْتَرِ المَوَتَانَ، ولا تَشْتَرِ الحَيَوَانَ"، أي: اشتر الأَرَضِينَ، ولا تَشْتَرِ الرَّقِيق، فإنه في مَعْرِضِ الهَلاَك؛ و "المُوتَان" بضمّ "الميم": وقوع الموت في الماشية، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة؛ قال: [الوافر]

255- فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُسْتَرِيحاً فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ

و "المُسْتَمِيت": الأمر المُسْتَرْسِل؛ قال رؤْبَة: [الرجز]

256- وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ

قوله: { وَٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 19].
وهو مجاز أي: لا يفوتونه. فقيل: عالم بهم، كما قال:
{ { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12].
وقيل: جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم؛ كما قال:
{ { وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } [البروج: 20].
وقال مجاهد: "يجمعهم فيعذبهم".
وقيل: يهلكهم، قال تعالى:
{ { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف: 66] أي: تَهْلِكُوا جميعاً.
وقيل: "ثَمَّ" مضافٌ محذوفٌ، أي: عقابه محيطٌ بهم.
وقال أبو عَمْرو، والكسَائِيُّ: "الكَافِرِينَ" [بالإمالة] ولا يميلان
{ { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [البقرة: 41]، وهذه الجملة مبتدأ وخبر.
وأصل "مُحِيط": "مُحْوِط"؛ لأنه من حَاطَ يَحُوط فأُعِلّ كإِعْلاَلِ "نَسْتَعِين".
والإحاطةُ: حصر الشيء من جميع جهاته، وهذه الجملة قال الزمخشريُّ: "هي اعتراض لا مَحَلّ لها من الإعراب" كأنه يعني بذلك أن جملة قوله: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ }، وجملة قوله: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ } شيءٌ واحد؛ لأنهما من قصّة واحدة؛ فوقع ما بينهما اعتراضاً.
"يَكَادُ" مضارع "كَادَ"، وهي لِمُقَارَبَةِ الفعل، تعمل عمل "كان" إلاَّ أن خبرها لا يكون إلاَّ مُضَارعاً، وشذَّ مجيئُهُ اسماً صريحاً؛ قال: [الطويل]

257- فَأُبْتُ إلَى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيباً وَكَمْ مِثْلِهَا فَارَقْتُهَا وَهْيَ تَصْفِرُ

والأكثر في خبرها تجرّده من "أن"، عكس "عسى"، وقد شذّ اقترانه بها؛ قال رُؤْبَة: [الرجز]

258- قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْحَصَا

لأنها لمقاربة الفعل، و "أَنْ" تخلص للاستقبال، فتنافيا.
واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفيٌّ في المعنَى، لأنها للمقاربة.
فإذا قلت: "كَادَ زَيْدٌ يفْعَلُ" كان معناه: قارب الفعل إلاّ أنه لم يفعل، فإذا نُفِيَتِ، انتفى خبرها بطريق الأولَى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى؛ ولهذا كان قوله تعالى:
{ { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [النور: 40] أبلغ من أن لو قيل: لَمْ يَرَهَا، لأنه لم يقارب الرُّؤْيَة، فكيف له بها؟
وزعم جماعة منهم ابن جِنِّي، وأبو البَقَاءِ، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي؛ حتى ألغز بعضُهُمْ فيها؛ فقال: [الطويل]

259- أَنحويَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لفظةٌ جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهمٍ وَثَمُودِ
إِذَا نُفِيتْ - والله أَعْلَمُ - أُثْبِتَتْ وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ

وحكوا عن ذي الرُّمَّة أنه لما أنشد قولَهُ: [الطويل]

260- إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

عيب عليه؛ لأنه قال: "لم يكد يَبْرَحُ"، فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: "لَمْ يَزَلْ" أو ما هو بمعناه.
والذي غرَّ هؤلاء قوله تعالى:
{ { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة: 71] قالوا: "فهي هنا منفية" وخبرها مثبت في المعنى؛ لأن الذبح وقع لقوله: "فَذَبَحُوهَا"، والجواب عن هذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني: أنه عبّر بنفي مُقَاربة الفعل عن شدَّة تعنُّتهم، وعسرهم في الفعل.
وأما ما حكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة، فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرمَّة في رجوعِهِ عن قوله الأوَّل، وقالوا: "هو أبلغُ وأحْسَنُ مما [غيَّره إليه]".
واعلم أن خبر "كاد" وأخواتها - غير "عَسَى" - لا يكون فاعله إلاّ ضميراً عائداً على اسمها؛ لأنها للمقاربة أو للشُّرُوع، بخلاف "عسى"، فإنها للترجِّي؛ تقول: "عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومُ أَبُوهُ"، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله: [الطويل]

261- وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ

فأتى بالفاعل ظاهراً، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ، ينبغي أن يقال: إنما جاز ذلك؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ، فهي هو، فكأنه قيل: حتَّى كادَ يكلِّمُني؛ ولكنه عبّر [عنه] بمجموع أجزائه.
وأما قول الآخَرِ: [البسيط]

262- وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ

فأتى [بفاعل] [خبر] جعل ظاهراً، فقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنه على حذْف مضاف، تقديره: وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.
والثاني: أنه من باب إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه، والمعنى: وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي.
ووزن "كَادَ كَوِدَ" بكسر العين، وهي من ذوات الواو؛ كـ "خَافَ" يَخَافُ، وفيها لغةٌ أخرَى: فتح عينها، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء المتكلّم وأخواتها، فتقول: "كُدْتُ، وكُدْنَا"؛ مثل: قُلْتُ، وقُلْنَا، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله: [الطويل]

263- وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ

ولا يجوز زيادتها خلافاً [للأخفش]، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في "كاد" الناقصة.
أمّا "كاد" التامة بمعنى "مَكَرَ" فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات "الياء"؛ بدليل قوله:
{ { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ } [الطارق: 15، 16].
و "البرق" اسمها، و "يخطف" خبرها ويقال: خَطِفَ يَخْطَفُ [بكسر عين الماضي، وفتح المضارع، وخطَفَ يَخْطِفُ] عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة، والمشهور منها الأولى.
الثانية: يخطِف بكسر الطاء، قرأها مجاهد.
الثالثة: عن الحسن بفتح "الياء والخاء والطاء"، مع تشديد "الطاء"، والأصل: "يَخْتَطِفُ"، فأبدلت "تاء" الافتعال "طاء" للإدغام.
الرابعة: كذلك، إلاّ أنه بكسر الطاء على [أنه] أصل التقاء السَّاكنين.
الخامسة: كذلك، إلا أنه بكسر "الخاء" إتباعاً لكسرة الطاء.
السَّادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء.
السابعة: "يختطف" على الأصْل.
الثامنة: يَخْطِّف بفتح الياء، وسكون الخاء، وتشديد الطاء [وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين.
التاسعة: بضمّ الياء، وفتح الخاء، وتشديد الطاء] مكسورة، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
العاشرة: "يَتَخَطَّفُ" عن أُبَيّ من قوله:
{ { وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67].
و "الخَطْف": أخذ شيء بسرعة، وهذه الجملة - أعني قوله: "يَكَادُ البرق يخطف" لا محلّ لها، لأنه استئناف كأنه قيل: كيف يكون حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف، ويحتمل أن تكون في محلّ جر صفة لـ "ذوي" المحذوفة: التقدير: كذوي صيِّب كائدٍ البرق يخطف.
قوله: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ }.
"كُلَّ" نصب على الظرف؛ لأنها أضيفت إلى "ما" الظرفية، والعامل فيها جوابها، وهو "مشوا".
وقيل: "ما" نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضاً، والعائد محذوف تقديره: كل وقت أضاء لهم فيه، فـ "أضاء" على الأول لا مَحَلّ له؛ لكونه صلةً، ومحلّه الجر على الثاني.
و "أضاء" يجوز أن يكون لازماً.
وقال المُبَرِّدُ: "هو متعدّ، ومفعوله محذوف أي: أضاء لهم البَرْقُ الطريق" فـ "الهاء" في "فيه" تعود على البَرْقِ في قول الجمهور، وعلى الطَّريق المحذوف في قول المُبَرّد.
و "فيه" متعلّق بـ "مشوا"، و "في" على بابها أي: إنه محيط بهم.
وقيل: بمعنى الباء، ولا بد من حذفٍ على القولين: أي: مشوا في ضوئه: أي بضوئه، ولا محل لجملة قوله: "مشوا"؛ لأنها مستأنفة، كأنه جواب لمن يقول: كيف يمضون في حالتي ظهور البرق وخفائه؟
والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصَّيِّب، وما هم فيه من غاية التحيُّر والجهل بما يأتون، وما يذرون.
واعلم أن "كلّ" من ألفاظ العموم، وهو اسم جامع لازم للإضافة، وقد يحذف ما يُضَاف إليه، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض، أو تنوين صرفٍ؟ قولان:
والمضاف إليه "كل" إن كان معرفة وحذف، بقيت على تعريفها، فلهذا انتصب عنها الحال، ولا يدخلها الألف واللام، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم، وربما انتصب حالاً، وأصلها أن تستعمل توكيداً كـ "أجمع"، والأحسن استعمالها مبتدأ، وليس كونها مفعولاً بها مقصوراً على السماع، ولا مختصّاً بالشعر، خلافاً لزاعم ذلك.
وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره، تقول: "كل رجال أَتَوْكَ، فأكرمهم"، ولا يجوز أن تراعي لفظ "كل" فتقول: "كلُّ رجالٍ أتاكَ، فأكْرِمه"، و "كلُّ رجلٍ أتاكَ، فأكْرِمه" ولا تقول "كلُّ رجلٍ أتَوْك، فأكْرِمْهم"؛ اعتباراً بالمعنى، فأما قوله: [الكامل]

264- جَادَتْ عَلَيْه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ

فراعى المعنى، فهو شاذّ لا يقاس عليه.
وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان، سواء كانت بالإضافة لفظاً؛ نحو:
{ { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [مريم: 95] فراعَى لفظ "كُل".
أو معنى نحو:
{ { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [العنكبوت: 40] فراعى لفظها، وقال: { { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [النمل: 87] فراعى المعنى.
وقول بعضهم: "إن "كلما" تفيد التكرار" ليس ذلك من وضعها، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه.
فإنك إذا قلت: "كلما جئتني أكرمتك" كان المعنى أكرمك في كل فرد [فرد] من جيئاتك إلَيّ.
وقرأ ابن أبي عبلة "ضَاءَ" ثلاثياً، وهي تدل على أن الرباعي لازم.
وقرىء: "وَإِذَا أُظْلِمَ" مبنياً للمفعول، وجعله الزمخشري دالاًّ على أن "أظلم" متعدٍّ، واستأنس أيضاً بقول حَبيبٍ: [الطويل]

265- هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ

ولا دليل في الآيَةِ؛ لاحتمالِ أنَّ أصله، "وإذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عليهم"، فلما بني للمفعول حذف الليل، وقام "عَلَيْهِم" مقامه، وأما بينت حبيب فمولّد.
وإنما صدرت الجملة الأولى بـ "كلّما" والثانية بـ "إذا"، قال الزمخشري: "لأنهم حراصٌ على وجود ما هَمّهم به، معقود من إمكان المشي وتأتِّيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقُّفُ والتَّحبُّسُ" وهذا هو الظاهر، إلاَّ أن من النحويين من زعم أن "إذا" تفيد التكرار أيضاً؛ وأنشد: [البسيط]

266- إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِي أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ

قال: "معناه معنى "كلما"".
قوله: "قَامُوا" أي وقفوا أو ثبتوا في مكانهم، ومنه: "قامت السوق".
قوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }.
"لو" حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى:
{ { لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [الكهف: 109].
وفي قوله عليه السلام:
"نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْب، لو لم يَخفِ الله لم يَعْصِهِ" وعدم صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محرراً، ولفساد قولهم: "لو كان إنساناً لكان حيواناً"؛ إذْ لا يلزمُ من امتناع الإنْسَانِ امتناعُ الحيوان، ولا يجزم بها خلافاً لقَوْم، فأما قوله: [الرمل]

267- لو يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ لاَحِقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ

وقولُ الآخر: [البسيط]

268- تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ إِحْدىَ نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا

فمن تسكين المتحرك ضرورةً. وأكثر ما تكون شرطاً في الماضي، وقد تأتي بمعنى "إِنْ"؛ كقوله تعالى: { { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ } [النساء: 9] وقوله: [الطويل]

269- وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَتْ عَلَيّ وَدُوني جَنْدَلٌ وَصَفَائِحُ
[لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زَقَا إِلَيهَا صَدًى مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ]

ولا تكون مصدريةً على الصحيح، وقد تُشَرَّب معنى التمني، فتنصب المضارع بعد "الفاء" جواباً لها؛ نحو: { { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [الشعراء: 102] وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: المشهور أن "لو" تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك، وزعم أنها لا تفيد إلا الرَّبط، واحتج عليه بالآية والخبر:
أما الآية فقوله تعالى:
{ { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنفال: 23]، فلو أفادت كلمة "لو" انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لزم التَّنَاقض؛ لأن قوله: { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } [الأنفال: 23]، يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم، وقوله: { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنفال: 23]، يفيد أنه ما أسمعهم، ولا تولوا؛ لكن عدم التولي خير، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً، وما علم فيهم خيراً. وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: "نعم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ" فعلى مقتضى قولهم: يلزم أنه خاف الله وعصاه، وذلك مناقض، فعلمنا أن كلمة "لو" إنما تفيد الربط.
و "شاء" أصله: "شيء" على "فعِل" بكسر العين، وإنما قلبت "الياء"ألفاً" للقاعدة الممهدة ومفعوله محذوف تقديره: ولو شاء الله إذهاباً؛ وكثر حذف مفعوله ومفعول "أراد"، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب؛ كقوله تعالى:
{ { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [الزمر: 4]؛ وأنشدوا: [الطويل]

270- وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ

واللام في "لذهب" جواب "لو".
واعلم أن جوابها يكثر دخول "اللام" عليه مثبتاً، وقد تحذف؛ قال تعالى:
{ { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [الواقعة: 70].
ويقلّ دخولها عليه منفياً بـ "مَا"، ويمتنع دخولها عليه منفيًّا بغير "مَا"؛ نحو: "لو قمت لَمْ أَقُمْ"؛ لتوالي لامين فيثقل، وقد يحذف؛ كقوله: [الكامل]

271- لا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلاَّ مُظْهِراً خُلُقَ الكِرَامِ وَلَوْ تكُونُ عَدِيمَا

و "بسمعهم" متعلّق بـ "ذهب".
وقرىء: "لأَذْهَبَ" فتكون "الياء" زائدة أو تكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى، ونحوه
{ { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20] والمراد من السمع: الأسماع، أي: لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة.
وقيل: لذهب بما استفادوا من العِزِّ والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر.
وقرأ ابن عامر وحمزة "شاء" و "جاء" حيث كان بالإمالة.
قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
هذه جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها، و "كُلّ شيء" متعلّق بـ "قدير" وهو "فعيل" بمعنى "فاعل"، مشتق من القُدْرة، وهي القوة والاستطاعة، وفعلها "قَدَرَ" بفتح العين، وله ثلاثة عشر مصدراً: "قدْرَة" بتثليث القاف، و "مَقْدرَة" بتثليث الدال، و "قَدْراً"، و "قَدَراً"، و "قُدَراً"، و "قَدَاراً"، و "قُدْرَاناً"، و "مَقْدِراً" و "مَقْدَراً" و "قدير" أبلغ من "قادر"، قاله الزَّجاج.
وقيل: هما بمعنى واحد؛ قاله الهَرَوِيّ.
والشيء: ما صحّ أن يعلم من وَجْه ويخبر عنه، وهو في الأصل مصدر "شاء يشاء"، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل؟ خلاف مشهور.
فَصْلٌ في بيان هل المعدوم شيء؟
استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن المعدوم شيء، قال: "لأنه - تعالى - أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه؛ لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القُدْرة معدوم وهو شيء، فالمعدوم شيء".
والجواب: لو صَحّ هذا الكلام لزم أنَّ ما لا يقدر عليه ألا يكون شيئاً، فالموجود إذا لم يقدر الله عليه وجب ألا يكون شيئاً.
فصل في بيان وصف الله تعالى بالشيء
قال ابن الخطيب: احتج جَهْمٌ بهذه الآية على أنه - تعالى - ليس بشيء لأنه - تعالى - ليس بمقدور له، فوجب إلاَّ يكون شيئاً، واحتج أيضاً بقوله تعالى:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
قال: "لو كان الله - تعالى - شيئاً، لكان - تعالى - مثل نفسه، فكان قوله:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] كذب، فوجب ألا يكون شيئاً؛ حتى لا تتناقض هذه الآية".
قال ابن الخطيب: وهذا الخلاف في الاسم؛ لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، قال: واحتج أصحابنا بقوله تعالى:
{ { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ } [الأنعام: 19].
وبقوله:
{ { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] والمستثنى داخل في المستثنى منه، فوجب أن يكون شيئاً.
فصل في أن مقدور العبد مقدور لله تعالى
قال ابن الخطيب: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى، خلافاً لأبي هَاشِم وأبي عَلِيّ.
وجه الاستدلال: أن مقدور العَبْدِ شيء، وكلّ شيء مقدور لله - تعالى - بهذه الآية، فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى.
فصل في جواز تخصيص العام
تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضاً تخصيص العام بدليل العقل، فإن قيل: إذا كان اللَّفظ موضوعاً للكل، ثم تبين أن الكل غير مراد كان كذباً، وذلك يوجب الطَّعن في كلّ القرآن.
والجواب: أن لفظ "الكُلّ" كما أنه يستعمل في المجموع، فقد يستعمل مجازاً في الأكثر، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللَّغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً، والله أعلم.