التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أن "قَضَى" إذا عُلِّق بفعل النَّفْس، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَٰوةُ } [الجمعة: 10]، وقوله - عليه السلام -: "وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ، قَضَى بينهما. وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر، فالمراد به الإِلْزَام، كقوله: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ } [الإسراء: 23] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله: { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الإسراء: 4]، أي: أعْلَمْنَاهُم، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المُرَادُ: اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ: ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل: إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ، بل الدُّخُول فيه، وحَمَلهُم على التَّأْويل صيغة الأَمْر.
والمَنَاسِكُ، جمعُ "مَنْسِكٍ" بفتح السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُها، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً، والقُرَّاء على إظهار هذا، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً "مَنَاسِككمْ" ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو:
{ جِبَاهُهُمْ } [التوبة: 35] و { وُجُوهُهُمْ } [آل عمران: 106].
قال بعض المُفسِّرين: إن جعلها جمع "مَنْسَك" الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك، فالمراد: إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ، وإن جَعَلْتَها جمع "مَنْسَك" الذي هو مَوْضع العِبادة، فالتَّقدير: فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف.
إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول: قال بعضهم: المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر اللهُ - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ، وقال مُجاهد: قضاء المَنَاسِكِ: إراقَةُ الدِّمَاء، يقال: أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنًى، والفَاءُ في قوله: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } تدلُّ على أنَّ الذِّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا.
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير.
ومنهم من قال: بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لو لم يَنْه عنه بهذه الآية الكريمة، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة.
ومنهم من قال: بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدُّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء.
قوله: { كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قوله
{ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 198] إلاَّ في كونها بمعنى "عَلَى" أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفتْ إليه، والجمهورُ على نصب "آبَاءَكُمْ" مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ: "آبَاؤكُمْ" رفعاً، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه، ورُوِيَ عنه أيضاً: "أَبَاكُمْ" بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُدُ أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجْرِي "أَبَاكَ" ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ.
فصل
قال جمهور المُفسِّرين: إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُون في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم، فقال تعالى: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ }، أي: فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم.
وقال الضَّحَّاك والرَّبيع: اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم، واكتفى بذكر الآباءِ، كقوله تعالى:
{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] قالوا: وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه، أي: كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أبيه وأمِّه.
وقال أبو مسلم: أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ، أي: كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى -.
وقال ابن الأَنْباري: كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ؛ فقال تعالى:
"عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم" .
وقيل: كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك.
وقيل: يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يَذْكُرون آباءَهُم؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم.
وسُئِل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن قوله تعالى: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }، فقيل: يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ.
قال ابن عبَّاس: ليس كذلك؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ.
قوله: { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في "أَشَدَّ" أن يكونَ مجروراً، وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه، فذكروا فيه وجهين:
أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على "ذِكْركم" المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُهُ: أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً، وإليه ذهب الزَّجَّاج، وتبعه أبو البقاء - رضي الله عنه - وابن عَطيَّة.
والثَّاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه، وهو ضميرُ المخاطبين، قال الزمخشريُّ: أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله: { كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }؛ كما تقول: "كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً" وهو حَسَنٌ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ؛ لأنه جَعَلَ "أَشَدَّ" من صفات الذَّاكرِينَ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين، ومَحَلُّ ضرورة.
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ:
أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على "آباءَكُمْ" قاله الزمخشريُّ، فإنه قال: "بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم"؛ على أنَّ "ذِكْراً" من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير، فقولُه: "هو معطُوفٌ على آبَاءَكُمْ": معناه أنك إذا عَطَفْتَ "أَشَدَّ" على "آبَاءَكُمْ"، كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ، فكان القومُ مذكورِينَ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد "أَشَدَّ" هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكُرِين؛ لأنه جاء بعد "أَفْعَلَ" الذي هو صفةٌ للقوم، ومعنى "مِنْ آبَائِكُمْ" أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً.
الثاني: أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في "كَذِكْرِكُم"؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: "ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ" وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي.
الثالث: قاله مَكّيٌّ: أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ، قال: تقديرُه: "فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم"؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ.
الرابع: أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن، قال أبو البقاء: "وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى، والتقدير: أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } أي: كونوا ذَاكِريهِ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز" يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه.
الخامس: أن يكون "أَشَدَّ" نَصْباً على الحال مِنْ "ذِكْراً"؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه، لكان صفةٌ له؛ كقوله: [مجزوء الوافر]

1005 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ

"مُوحِشاً" حالٌ من "طَلَل"؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً، فَجُعِلَ حالاً، قاله أبو حيَّانَ -رحمه الله تعالى -، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه، ووجهين لجَرِّه: "فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم، أَوْ أَشَدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه"، فَذَكَر ما تقدَّم، ثم جَوَّز في "ذِكْراً" - والحالةُ هذه - وجْهَين:
أحدهما: أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في "كِذِكْرِكُمْ"، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف، وهو "أَوْ" وبين المعطوف وهو "ذِكْراً" بالحال، وهو "أَشَدَّ"، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن:
أحدهما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد.
والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً، أو ظَرْفاً أو جَارّاً، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ، وهو الزيادةُ على حرِفٍ، والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا.
والثاني: من الوجْهَيْن في "ذِكْراً" أن يكونَ مصدراً لقوله: "فَاذْكُرُوا"، ويكون قوله: "كَذِكْرِكُمْ" في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ "ذِكْراً"؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمتْ، كانَتْ في محلِّ حالٍ، ويكون "أَشَدَّ" عطفاً على هذه الحال، وتقديرُ الكلاَم: "فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ، أي: مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ"؛ فيصيرُ نظيرَ: "اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنٍ أَوْ أَشَدَّ" الأصل: اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ.
و"ذِكْراً" تمييزٌ عند غير الشَّيخ كما تقدَّم، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها؛ نحو: "وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ"، "وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم" وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها، وجَبَ نصبُه؛ نحو: "زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً"، إذا تقرَّر ذلك، فقوله: "ذِكْراً" هو من جنس ما قبلها، فعلَى ما قُرِّر، كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ: "اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ" بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في "أَشَدَّ"؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم: "شِعْرٌ شَاعِرٌ"؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه، أو يُجْعَلَ "أَشَدَّ" من صفاتِ الأعيان، لا من صفاتِ الإِذكار؛ كما قال به الزمخشريُّ، أو يُجْعَلَ "أَشَدَّ" حالاً من "ذكْراً" أو ننصبَه بفعْلٍ و"أو" هنا قيل للإِباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بَلْ، وهو قول أكثر المفسِّرين.
قوله: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا } "مَنْ" مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وفي هذا الكلام التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ، لقيل: "فَمِنْكُمْ"، وحَمِل على معنى "مَنْ"؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله: "رَبِّنَا آتِنَا"، ولو حُمِل على لفظِها، لقال "رَبِّ آتِني".
وفي المفعول الثاني لـ"آتِنَا" - لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال:
أظهرها: أنه محذوفٌ؛ اختصاراً أو اقتصاراً؛ لأنه من باب "أَعْطَى"، أي: آتِنا ما نُريدُ، أو مطلوبَنَا.
والثاني: أن "فِي" بمعنى "مِنْ" أي: من الدنيا.
والثالث: أنها زائدةٌ، أي: آتِنا الدنيا، ولَيْسَا بشيء.
فصل
واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدُّعَاء، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء، فقال:
{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78] ثم قال: { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [الشعراء: 83] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان: أحدهما يطلب الدُّنْيَا، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم: هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشروع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرٍّ في الدُّنيَا والآخِرة.
روى القفَّال في "تَفْسيرِه" عن أنس - رضي الله عنه -
"أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ، فقال: ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال: كُنْتُ أقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا، فقال النبيُّ - عليه السلام -:سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ: ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ قال: فدَعَا له رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَشُوفِي"
فصل
اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن.
فقال قوم: هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رضي الله عنهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء، يقولون: اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً، وعبيداً، وإماءً، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول: اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة، كبير الجَفْنَة، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد.
وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون: اسْقِنا المطر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة، أي: لا نَصِيبَ لهُ.
قال القرطبي: فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم.
وقال آخرون: قد يكُونُوا مؤمِنِين، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك: أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى -
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 77] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ.
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام -: إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم، ومعنى ذلك على وجوهٍ.
أحدها: أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب.
الثاني: لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ.
والثالث: لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20].
قوله تعالى: { فِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً }[البقرة: 201] يجوز في الجارِّ وجهان.
أحدهما: أن يتعلَّق بـ"آتنا" كالذي قبله.
والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من "حَسَنَةٌ"؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها، انتصَبَ حالاً.
قوله: { وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن فـ"في الآخِرةِ" عطفٌ على "في الدُّنْيَا" بإعادةِ العاملِ، و"حَسَنَةً" عطفٌ على "حَسَنَةً"، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول: "أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً"، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله -، وليس هذا كما زعم بعضُهُم: أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: "أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً"، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [النساء: 58] وقوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12].
فصل
ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً:
قال عليٌّ بن أبي طالب: في الدُّنيا امرأة صالحة، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.
وقال الحسن: في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً، وفي الآخِرَة: الجَنَّة والنظر.
روى الضحّاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -؛
"أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال: رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا، فقال بَعْضُ الصحابة: بَلَى يا رسُول الله إنّه قال: ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً"
وقال السُّدِّيُّ وابن حيان: في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب.
وقال عوف: من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة.
وقيل: الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن، والكفاية، والولد الصَّالِح، والزَّوجَة الصَّالحة، والنُّصْرة على الأَعْداء؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة؛ فقال:
{ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [التوبة: 50].
وقيل في قوله تعالى:
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } [التوبة: 52] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب.
وقال قتادة: هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن.
وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة؛ روى ثابتٌ؛ أنَّهم قالوا لأَنس: ادع لنا، فقال: "اللَّهُم آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار" قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، قال: ما تُرِيدون؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة.
وعن أنس؛ قال:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر أن يَقُول: رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ"
وعن عبد الله بن السَّائِب؛ أنّه سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"
فصل
قال ابن الخطيب: اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ: آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ، ولكنه قال: "آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً"، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ، وقد اختار في "المَحْصُول" خلافه.
ثم قال: فإن قيل: أليس أنّه لو قيل: آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكَّراً؟
وأجاب بأن قال: إنّ بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول: اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا، بل يجب أن يقول: اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك، فأَعْطِني ذَلِك، فلو قال: اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا، لكان ذلك جَزْماً، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير، كان المراد منه حَسَنَة واحدة، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرَه، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب.
وقوله: "قِنَا": ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً، أمَّا حذفُ فائه، فبالحَمْلِ على المضارع؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد، هذا قول البصريِّين، وقال الكُوفِيُّون: حُذِفت فرقاً بين اللازم والمُتَعدِّي.
قال محمَّد بن زيد: وهذا خطأ؛ لأن العرب تقول: وَرِمَ يَرِمُ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ؛ فكذلك الأمرُ منه، فوزن "قِنَا" حينئذ: عِنَا، والأصل: اوْقِنَا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل، فَحُذِفَتْ، و"عَذَابَ" مفعولٌ ثانٍ.
قوله تعالى: "أُولَئِكَ" مبتدأ و"لَهُمْ" خبرٌ مقدم، و"نَصِيب" مبتدأ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ "لَهُمْ" خبرَ "أولئك"، و"نَصِيب" فاعلٌ به؛ لما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه بـ"أُولئكَ" فيه قولان:
أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة، وقيل: بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل؛ حيث قال: { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }.
قوله: { مِمَّا كَسَبُواْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ لـ"نَصِيب"، فهو في محلِّ رفعٍ، وفي "مِنْ" ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جِنْس ما كسبوا.
والثاني: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا.
والثالث: أنها للبيان.
فصل
قال ابن عَبَّاس في قوله: { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ }: هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره؛ فيكون له ثَوَابٌ.
و"ما" يجوزُ فيها وجهان: أن تكونَ مصدريةً، أي: مِنْ كَسْبِهِمْ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ.
والثاني: أنها بمعنى "الَّذِي"، فالعائدُ محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: مِنَ الذي كَسَبُوه.
و"الكَسْبُ": يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ، أو دفع مضرَّة.
قوله: { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } السَّرِيع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت: سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة، فهو سَرِيعٌ؛ مثل عَظُم يَعْظُم.
و"الحِسَاب" مصدر كالمُحَاسَبَة، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ: العدُّ؛ قال حَسَبَ يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت، والحَسْب ما عُدَّ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل: وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه، والمعنى أنّ الله سريع الحساب، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ، والاحْتِسَاب: الاعتِدَاد بالشَّيْء.
وقال الزّجَّاج: الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم: "حَسْبُك كذا"، أي: كَفَاك، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان.
وقيل: { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } قال الحَسَن: أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر.
وقيل: إتْيَان القِيَامة قريبٌ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب؛ قال - تعالى -
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17].
وقيل: سريع الحساب، أي: سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك.
فصل في أن الله هو المحاسب
اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه:
أحدها: أنّ معنى الحساب: أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و[ما] عليهم، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّتها وكيفيَّاتها، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب.
قالوا: ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له و [ما] عليه، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب، وهو مجاز مشهورٌ.
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّه قال: لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي الله - تعالى -، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم، ويقال لهم: هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم.
الثاني: أنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة؛ قال - تبارك وتعالى -
{ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } [الطلاق: 8]، ووجه المجاز: أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.
الثالث: أنّه تعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم، وكيفيَّة ما لها من الثَّواب والعقاب، فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ، قال: إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال: إنه صوت، قال: إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم، أو في جسم يقرب من أذنه، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به، والله أعلم.