التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قرأ الجمهور: "قِتَالٍ" بالجَرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه خفضٌ على البدلِ من "الشَّهْرِ" بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه، فهو مشتملٌ عليه.
والثاني: أنه خفضٌ على التَّكرير، قال أبو البقاء: "يريدُ أنَّ التقديرَ: عَنْ قِتَالٍ فيه". وهو معنى قول الفراء إِلاَّ أَنَّهُ قال: هُوَ مَخْفُوضٌ بـ "عَنْ" مُضْمرَةً. وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين، والكسائي، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي.
وقوله: لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل، فمُسَلَّمٌ، وإن أراد في البدلِ، فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي.
الثالث: قال أبو عبيدة: "إِنه خفضٌ على الجِوَارِ".
قال أبو البقاء: "وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ" وقال ابن عطية: "هُوَ خَطَأٌ". قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ. وجهةُ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع، أو منصوب، من حيثُ اللفظُ والمعنى، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم: "هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ"، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر، لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاء اللهُ تعالى، و "قِتَالٍ" هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ، أو منصوبٍ، وجاورَ مَخفوضاً فخُفِض.
وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي: فصار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه.
وقرأ ابن عباس والأَعمش: "عَنْ قِتَالٍ" بإظهارِ "عَنْ" وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك. وقرأ عكرمة: "قتْلٍ فِيهِ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ" بغير ألف.
وقُرئ شاذّاً: "قِتَالٌ فيه" بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام، تقديره: أَقِتَالٌ فيه.
والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إِمَّا مبتدأٌ، وإِمَّا فاعلٌ، وإمَّا خبرُ مبتدأ. قالوا: ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنَّما كان سؤالهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأنَّ "سَأَلَ" قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول، وإن كانت محَطَّ السؤال.
وقوله: "فِيهِ" على قراءةِ خفضِ "قِتَالٍ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ لـ "قِتَالٍ".
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال، لكونه مصدراً.
وقال أبو البقاء: كما يتعلَّقُ بـ "قِتَالٍ" ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل.
فصل
والضميرُ في "يَسْأَلُونك" قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانُوا مسلمين، فما قبل هذه الآية
{ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة:214] { { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [البقرة:215] حكاية عن المؤمنين، وما بعدها كذلك وهو قوله: { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [البقرة:219]، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ } [البقرة:220] فوجب أن تكون هذه كذلك.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض، كلهن في القُرآنِ، ومنها { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ }.
وقيل: الضمير للكفارِ؛ سأَلُوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الشهر الحرام، فأَخبَرَهُم أنه حرامٌ؛ فتركوا، واستحلوا قتالهم فيه فأنزل الله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ، وعن المسجدِ الحرام، والكُفرِ به، أكبرُ من هذا القتالِ. { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى:
{ { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة:194] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في "الشَّهْرِ الحرام" قيل: للعهد، وهو رجبٌ، وقيل: للجنسِ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ.
قوله: { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى: القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ:
إمَّا الوصفُ، إذا جعلنا قوله: "فيه" صفةً له.
وإمَّ التخصيصُ بالعمل، إذا جعلناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيره.
فإِنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها، وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى:
{ { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } [المزمل:15-16] لإِنَّه لو لم يكن كذلك، كان المذكور الثاني غير الأول، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله: { { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح:5، 6].
فقال أبو البقاء: "ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه، حتى يُعادَ بالألف واللامِ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا "قِتَالٌ" الثاني غيرُ الأولِ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ. وأَحسنُ منه قولُ بعضهم: إنَّ الثَّاني غير الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ، ونصرةُ الكُفْرِ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة، ولو جِيءَ بهما معرفتين، أو بأحدهما مُعرَّفاً، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ.
فصل
روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ: سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبدالله بن جحش الأَسديّ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة أشهر من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السَّلَمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل ابن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبدالله الحنظليّ، وخالد بن بُكَير، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً، ودفعه إليه، وقال: سِر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلتَ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، وإذا فيه "بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم" أمَّا بعد: فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ، فلمَّا نظر في الكتاب، قال سَمْعاً وطاعة، ثم قال لأَصحابه ذلك، وقال: إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة، فلينطلق معي، ومنْ كرِه، فليَرْجِع، ثم مَضَى، ومَضَى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه، حتى نزل "ببطنِ نَخْلَةَ" بين "مَكَّةَ" و "الطائف" فبينما هم كذلك، مرت عيرٌ لقريشٍ تحملُ زبيباً، وأدماً، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبدالله بن المغيرة، ونوفلُ بن عبد الله المخزوميَّان، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هابوهم، فقال عبد الله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم، فاحلقُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم، فحلقُوا رأس عُكَاشة، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا: قومٌ عمَّارٌ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة. فكانوا يرون أنَّه من جمادى، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ، وقالوا: لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ، فليمنعُنّ به منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ، فَرَمَى وقادُ بن عبد الله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ، فقتله، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين، واستأْسَرَ الحكم وعثمان، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ، فقالت قريشٌ: لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ، وغير ذلك، فقال أهلُ "مكَّةَ" مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا: يا معشرَ الصَّبَأة، استحللتُم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، فقال عبد الله بن جحش: يا رسول اللهِ: إنَّا قتلنا ابن الحضرمي، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري: أفي رجبٍ أصبناه، أم في جمادى.
فوقَّف رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - العير، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة، وظنُّوا أن قد هلكُوا، وسُقِط في أيديهم، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير، فعزل منه الخمس، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال: بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة، وإنْ لم يَقْدُمَا، قتلناهُما بهما، فلمَّا قدما؛ فاداهما، فأمَّا الحكم بن كيسان، فأسلَمَ، وأقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً، وأَمَّا عثمان بن عبد الله، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً،
"وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل الخندقَ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ، خبيثُ الدِّيَةِ" .
فصل
اتفق الجمهورُ: على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام، ثُمَّ اختلفُوا: هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟
فقال ابن جريج: حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم، ولا في الشَّهرِ الحرامِ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال: لم يكن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى.
وسُئِلَ سعيد بن المسيب: هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال: نعم.
قال أبو عبيد: والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء "الشام"، و "العراق" ينكرُه عليهم، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز.
وحجته قوله تعالى:
{ { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة:5] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام.
قال ابن الخطيب: والذي عندي أن قوله تعالى: { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } نكرة في سياق الإِثبات، فيتناول فرداً واحداً، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام، ولا حاجة إلى النسخ فيه.
قوله: "وَصَدٌّ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه، و "أكبرُ" خبرُ عن الجميع، قاله الزَّجَّاج، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه، وإن كان كبيراً، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل
{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة:44] وقوله: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:2].
وجاز الابتداءُ بـ "صَدّ" لأحد ثلاثة أوجهٍ:
إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله: "عَنْ سَبِيلِ الله".
وإِمَّا لتعلُّقِه به.
وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات.
والثاني: أنه عطفٌ على "كبيرٌ" أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء.
قال ابن عطية: وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله: "وكفرٌ به" عطفٌ أيضاً على "كبيرٌ" ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه.
وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ: إِنَّ قولَه "وكفرٌ به" مُبْتَدَأٌ، وما بعده عَطْفٌ عليه، و "أكبرُ" خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ.
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و "كفرٌ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطفٌ [على "صَدّ" على قولنا بأن "صَدًّا" مُبتدأ لا على] قولنا: بأنه خبرٌ ثانٍ عن "قِتالٍ"، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً، وليس كذلك، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ، وتقويةُ الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم، فيكونُ كفراً، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط، أي: وكُفْرُكم.
والثاني: أن يكون مبتدأٌ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في "به" فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعودُ على "سبيل" لأنه المحدَّثُ عنه.
والثاني: أنه يعودُ على اللهِ، والأولُ أظهرُ. و "به" فيه وجهان، أعني كونه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في "فيه".
قوله: "والمسجدِ" مجروراً، وقرئ شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ.
أحدها: وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية "وهو الصحيح" - أنه عطفٌ على "سبيلِ الله" أَي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ.
وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ "صَدّاً" مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ، والفعل، و "أَنْ" موصولة، وقد جَعَلْتُم "وَالْمَسْجِدِ" عطفاً على "سَبِيلِ"، فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبيّ، وهو "وَكُفْرٌ بِهِ". ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ. فإنْ قيل: يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجَرّ ما لم يتوسع في غيرهما.
قيل: إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم، لا في الفَصْل.
الثاني: أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في "بِهِ"، أي: وكفرٌ به، وبالمسجد، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين. وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق: اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب:
أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين-: وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ.
الثاني: أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعةِ مُطْلِقاً، وهو مذهبُ الكُوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين.
والثالث: التَّفصيلُ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو: "مَرَرْتُ بِكَ نفسِك، وزيدٍ"، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً، وهو قول الجَرميّ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أَمَّا السَّماعُ: ففي النَّثْرِ كقولهم: "مَا فِيهَا غَيْرُه، وفرسِهِ" بجرِّ "فَرَسِهِ" عطفاً على الهاءِ في "غَيْره". وقوله:
{ { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } [النساء:1] في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء، رووا هذه اللغة، لكان مقبولاً بالاتِّفاق، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول.
ومنه:
{ { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [الحجر:20] فـ "مَنْ" عطف على "لَكْم" في قوله تعالى: { { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } [الحجر:20]. وقوله: { { وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [النساء:127] عطف على: "فيهنّ"، وفيما يُتلى عَلَيْكُم. أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس: [الوافر]

1054- أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا

فَـ "سِوَاهَا" عطفٌ على "فِيهَا"؛ وقولُ الآخر: [الطويل]

1055- تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ

وقول الآخر: [الكامل]

1056- هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ

وقول الآخر: [الطويل]

1057- بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ

وقول الآخر: [البسيط]

1058- لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ

وقال الآخر: [الطويل]

1059- إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا

وقول الآخر: [البسيط]

1060- إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا

وقول الآخر: [الرجز]

1061- آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ

وأنشد سيبويه: [البسيط]

1062- فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ

فكثرةُ ورودِ هذا، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاءوا تارةً بالواو، وأخرى بـ "لا"، وأخرى بـ "أَمْ"، وأخرى بـ "بَلْ" دليلٌ على جوازِه، وأمَّا ضعفُ الدَّليل: فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ.
ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً، أعْنِي سواءً كان مرفوع الموضعِ، أو منصوبه، أو مجروره، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ، أم لا كالتَّنوين.
وأَمَّا القياسُ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورُ، ويُبْدَلُ منه، فكذلك يُعطفُ عليه.
الثالث: أَنْ يكون معطوفاً على { ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } ثم بعد هذا طريقان:
أحدهما: أنّ قوله: "قِتَالٌ فِيهِ" مبتدأ، وقوله { كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللهِ وَكُفْرٌ بِهِ } خبر بعد خبر، والتَّقدير: إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله.
والطريق الثانِي: أَنْ يكون قوله: { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملة مبتدأ وخبر وقوله: { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللهِ }، فهو مرفوع بالابتداء. وكذا قوله "وكُفْرٌ بِهِ" والخبر محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه، والتَّقدير: قل: قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره: زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو، وتقديره: وعمرو منطلق. وطعن البصريُّون في هذا فقالوا: أَمَّا قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله، وهو خطأ بالإجماع.
الثاني: بأنَّه قال بعد ذلك { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } أي: أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر، وهو خطأٌ بالإجماع.
قال ابن الخطيب: وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ: من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال، وقولهم: على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم.
وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ.
وقولهم على الثَّاني: يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر.
قلنا: المُراد أهل المسجد: وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ، ولا شكّ أن الشيء الَّذي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً، وحده، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام.
قال أبو البقاء: وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام.
والثاني: القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى، فيكون [قتال] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ، والتركِيبُ الفصيحُ.
الرابع: أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره: ويصُدُّون عن المسجد، كما قال تعالى:
{ { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [الفتح:25] قاله أبو البقاء، وجعله جيّداً، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله: [الطويل:]

1063- إِذَا قِيلَ: أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ

أي: إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه، أجودها الثاني.
ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً.
وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على "وَكُفْرٌ" على حذف مُضافٍ تقديره "وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ" فحُذِفَت الباءُ، وأُضِيفَ "كُفْرٌ" إلى المسجد، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ.
فصل
وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ:
أحدها: أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله.
وثانيها: صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام.
وثالثها: صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة.
ولقائل أن يقول: دلّت الرِّوايات على أَنَّ هذه الآية، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث، وأما "المَسْجِد الحَرَامِ" فإِنْ عطفناه على الضَّمير في "بِهِ"؛ كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ، والطَّواف به، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع. وإن عطفناه على "سَبِيلِ اللهِ" كان المعنى: وصدّ عن المسجد الحرام، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين، والعاكِفِين، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ.
قوله: { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } عطفٌ على "كُفرٌ"، أو "صَدٌّ" على حسب الخلافِ المتقدِّم، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله، وأُضيفَ إلى مفعوله، تقديرُه: "وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ".
والضَّميرُ في "أَهله" و "مِنْهُ" عائدٌ على المَسْجِد وقيل: الضَّمير في "مِنْهُ" عائِدٌ على سبيل الله، والأَوّل أظهرُ و "منه" متعلِّقٌ بالمصدر.
قوله: "أَكْبَرُ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبرٌ عن الثلاثة، أعني: صَدّاً وكفراً، وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان:
أحدهما: أن يكون خبراً عن المجموع، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ، كما تقول: "زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ"، أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظَّاهِرُ. وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ. وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.
الثاني من الوجهين في "أَكْبر": أن يكونَ خبراً عن الأَخير، ويكونُ خبر "وَصَدّ" و "كُفْر" محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره: وصدّ وكُفر أكبر. قال أبو البقاء في هذا الوجه: ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا "كبير" كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر، وليس كذلك. وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ: حُذِف خبر "وَصَدّ" و "كُفْر" لدلالة خبر "قِتَالٍ" عليه، أي: القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام. ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور.
و "عِنْدَ اللهِ" متعلِّق بـ "أَكْبر"، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف.
فصل في المراد بهذا الإخراج
والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى:
{ { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح:26] وقال تعالى: { { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } [الأنفال:34] فأخبر تعالى: أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء، وحكم عليها بأنها أكبر، أي: كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام، فالكفر أعظم من القتل، أو نقول: كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهو القتال الَّذي صدر عن عبد الله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً.
قوله: { وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ } ذكروا في الفتنة قولين:
أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين -: أنَّها الكفر، أي: الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام.
قال ابن الخطيب: وهذا يستقيم على قول الفرَّاء، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك، فإنَّه تعالى قال: "وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ" فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً.
والقول الثاني: أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال، وعمَّار، وصهيب.
قال: محمَّد بن إسحاق: لأن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال: فتنت الذَّهب بالنَّار: إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى:
{ { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن:15]، أي: امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى: { { الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت:1-2]، أي: لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [طه:40] وقال: { { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللهِ } [العنكبوت:10] وقال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [البروج:10] والمراد أنهم آذوهم، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال: { { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء:101]، وقال: { { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [الصافات:162] وقال: { { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ } [آل عمران:7] أي: ابتغاء المحبَّة في الدِّين. وقال: { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } [المائدة:49] وقال: { { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } [يونس:85] والمعنى: أن يفتنوا بها عن دينهم، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال: { { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } [القلم:5-6] قيل: المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه، وهو قتل ابن الحضرميّ.
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة: إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر، وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام.
وصرح هنا بالمفضول في قوله: { وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ }؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.
قوله: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } هذا فعل لا مصدر له، قال الواحديّ: ما زال يفصل ولا يقال منه: فاعل، ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو "عَسَى" ليس له مصدرٌ، ولا مضارع، وكذلك ذو، وما فتِىءَ، وهلمّ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا. ومعنى "لاَ يَزَالُونَ": نفي: فإذا دخلت عليه "مَا" كان ذلك نفياً للنَّفي، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم.
قوله تعالى: { حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ } حتى حرف جرِّ، ومعناها يحتمل وجهين:
أحدهما: الغاية.
والثاني: التَّعليل بمعنى كي، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال: "وَحَتّى" معناها التَّعليل كقولك: "فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة"، أي: يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم". ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال: "وَ "يَرُدُّوكُم" نصب بـ "حَتّى"؛ لأنَّها غاية مجرّدة. وظاهر قوله: "مَنْصُوبٌ بِحَتّى" أنه لا يضمر "أنْ" لكنَّه لا يريد ذلك، وإن كان بعضهم يقول بذلك. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً.
و "يَزَالُونَ" مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ، أو نهي، أو دعاء، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم، وإلاَّ فسماعاً، وأحكامها في كتب النَّحو، ووزنها فعل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها: يزيل، وإن كان الأكثر يزال، فأمَّا زال التَّامَّة، فوزنها فعل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول، ومعناها التَّحوُّل. و "عَنْ دِينكُمْ" متعلق بـ "يردُّوكُم" وقوله: "إِن اسْتَطَاعُوا" شرط جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: إن استطاعوا ذلك، فلا يزالوا يقاتلونكم، ومن رأى جواز تقديم الجواب، جعل "لاَ يَزَالُونَ" جواباً مقدّماً، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم: "أَنْتَ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ".
قوله: "مَن يَرْتَدِدْ"مَنْ" شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام، وفي المائدة [آية54] اختلفوا فيه، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.
ويرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله:
{ { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } [الكهف:64]. قال أبو حيَّان: "وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر، وجَعَلَ من ذلك قوله: { { فَٱرْتَدَّ بَصِيراً } [يوسف:96] أي: رجَع" وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار، أم لا، ولذلك مثلوا بقوله: "فَارْتدَّ بَصِيراً" فمنهم من جعلها بمعنى: "صَارَ"، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى: "صَيَّر"، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ، فاشتبه عليه ردَّ بـ "ارْتَدَّ" وصيَّر بـ "صَارَ".
وقال الواحديُّ: وأظهر التَّضعيف مع الجزم، ولسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام.
و "منكم" متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في "يَرْتَدِدْ" و "من" للتَّبعيض، تقديره: ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم، أي: بعضكم. و "عَنْ دِينِهِ" متعلِّقٌ بـ "يَرْتَدد"، و "فَيَمُتْ" عطفٌ على الشَّرط، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيب.
"وَهُوَ كَافِرٌ" جملةٌ حاليةٌ من ضمير: "يَمُتْ"، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد، وجيءَ بالحال هنا جملةً، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.
وقوله: { فَأُوْلۤـٰئِكَ } جواب الشَّرط.
قال أبو البقاء: و "مَنْ" في موضع مبتدأ، والخبر هو الجملة التي هي قوله: { فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ }، وكان قد سلف له عند قوله:
{ { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [البقرة:38] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها، ومثله لا يقع في ذلك.
و "حَبِطَ" فيه لغتان: كسر العين - وهي المشهورة - وفتحها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن، ورويت عن الحسن أيضاً. والحبوط: أصله الفساد.
قال أهل اللُّغة: أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها، فتعظم بطونها، فتهلك. وفي الحديث:
"وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً" ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتموت البطن.
ومنه: "حَبِطَ بَطْنُه"، أي: انتفخ، ومنه "رَجلٌ حَبَنْطَى"، أي: منتفخ البطن.
وحمل أوّلاً على لفظ "مَنْ" فأفرد في قوله: "يَرٍْتَدِدْ، فيمت، وهو كَافِرٌ" وعلى معناها ثانياً في قوله: "فَأُولَئِكَ" إلى آخره، فجمع، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين: أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ، ثمَّ على المعنى. وقوله "في الدُّنْيَا" متعلِّقٌ بـ "حَبِطَتْ".
وقوله: { وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه الجملة: هل هي استئنافيّةٌ، أي: لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط، والقرب مرجِّحٌ.
فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر
قال القرطبيُّ: اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء: لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ: أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السَّلام:
"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" وقال مالكٌ: معناه: من خرج من الإسلام إلى الكفر، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر، فلم يعنه الحديث.
فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة. ويتفرَّع عليه بحثان: بحثٌ أصولي، وبحثٌ فروعي. فالأصوليُّ: أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا: شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة، فلا يكون الإيمان إيماناً، إلاَّ إذا مات المؤمن، ولا يكون الكفر كفراً، إلاَّ إذا مات الكافر عليه.
وأما البحث الفروعيُّ: فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى، ثم ارتدّ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ: لا إعادة عليه.
وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج، حجة الشَّافعي قوله تعالى: { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً.
فإن قيل: هذا معارض بقوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام:88] وقوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة:5].
ولا يقال: حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين، وعلقه بشرط، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده: أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس، ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل.
فصل في محل إحباط العمل
ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد، فَنِيَ وزَال، وإعدم المعدوم محال. ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير: المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشمٍ وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي.
وقال المنكرون للإِحباط: هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ، لا يستفيد منه نفعاً، بل يستفيد منه أعظم المضارّ، يقال: إنَّه حبط عمله، أي: بعملٍ باطلٍ، ليس فيه فائدة، بل فيه مضرَّةٌ.
فصل في الإحباط في الدنيا
أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً، ولا ثناءً حسناً، وتبين زوجته منه، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين. ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة، فعند القائلين بالإحباط معناه: إنَّ هذه الرِّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة. وعند المنكرين لذلك معناه: أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً، ونفعاً في الآخرة، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال: { وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
فصل
قال القرطبيُّ: قالت طائفةٌ: يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل.
وقال بعضهم: يُسْتَتَابُ ساعةً واحدةً.
وقال آخرون: يُسْتَتَابُ شهراً.
وقال آخرون: يُسْتَتَابُ ثلاثاً، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم.
وقال الحسن: يُسْتَتَابُ مائة مرَّةٍ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ.
واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب، بحديث معاذٍ، وأبي موسى: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل، فلمَّا قدم عليه قال: انزل، وألقى له وسَادَةٌ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ، قال: مَا هَذَا؟ قال: كَانَ يُهُودِياً، فأسلم، ثم راجع دينه، فتهوَّد، قال: لا أجلس حتّى يُقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات، وأمر به فقتل. أخرجه "مُسْلِمٌ" وغيره.
وقال مالك: يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ، ولا يُسْتَتَابُ.