التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو "أَوْ" وهي هنا للتفضيل، وقيل: للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين "أَوَ" بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.
وفي قوله: "كَالَّذِي" أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى:
{ لِّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون:84-85] ثم قال: { مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون:86-87]. فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه: لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر: [الوافر]

1193- مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا

فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية:
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله: [الطويل]

1194- تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ

وقول الأخر في هذين البيتين: [الوافر]

1195- أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ

فإنَّ معنى الأول: ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه "وَلاَ بِحَقَلَّد"، ومعنى الثاني: أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه "وَلاَ مُتَدَارِكٍ"، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمار فعلٍ، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ: "أو كالَّذِي: معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي"، فحذف لدلالة "أَلَمْ تَرَ" عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.
الثالث: أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، وقول الآخر: [السريع أو الرجز]

1196- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ

والتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الأصل عدم الزيادة.
والرابع: أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين: وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها: معادلتها في الفاعلية بـ "مِثْل" في قوله: [الطويل]

1197- وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ

ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم [الكلام] في اشتقاق القرية.
قوله: "وهي خَاوِيَةٌ" هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون حالاً من فاعل "مَرَّ" والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.
الثاني: أنها حالٌ من "قرية": إمَّا على جعل "عَلَى عُرُوشِهَا" صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه.
الثالث: أنها حالٌ من "عُرُوشِهَا" مقدَّمةٌ عليه، تقديره: مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ.
الرابع: أن تكون حالاً من "هَا" المضاف إليها "عُرُوش" قال أبو البقاء: "والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه" انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ "العُرُوشَ" بعض القرية، فهو قريب من قوله تعالى:
{ { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [الحجر:47].
الخامس: أن تكون الجملة صفةً لقرية، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى:
{ { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر:4] [فجعل: "وَلَهَا كِتَابٌ"] صفةً، قال: "وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف" وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه، وفي ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً، بالواقعة حالاً، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية، على جواز جعل "عَلَى عُرُوشِهَا" بدلاً من "قَرْيَةٍ" على إعادة حرف الجرِّ، ورتَّب جعل "وَهِي خَاوِيَةٌ" حالاً من العروش، أو من القرية، أو من "ها" المضاف إليها، على جعل "عَلَى عُرُوشِهَا" صفةٌ للقرية، وهذا نصُّه، قد ذكرته؛ ليتضح لك، فإنه قال: وقد قيل: هو بدلٌ من القرية تقديره: مرَّ على قريةٍ على عروشها، أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل، ويجوز أن يكون "عَلَى عُرُوشِهَا" على هذا القول صفةً للقرية، لا بدلاً، تقديره: على قرية ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا لا يجوز أن تكون "وَهِيَ خَاوِيَةٌ" حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون حالاً من "هَا" المضاف إليه، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى.
قوله: "عَلَىٰ عُرُوشِهَا" فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون بدلاً من "قرية" بإعادة العامل.
الثاني: أن يكون صفةً لـ "قَرْيَةٍ" كما تقدَّم فعلى الأول: يتعلَّق بـ "مَرَّ"؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوفٍ، أي: ساقطةٍ على عروشها.
الثالث: أن يتعلَّق بنفس خاوية، إذا فسَّرنا "خَاوِيَةٌ" بمعنى متهدِّمة ساقطة.
الرابع: أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوف قالوا: هو لفظ "ثَابِتَةٌ"؛ لأنهم فسَّروا "خَاوِيَةٌ" بمعنى: خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ، ولا يتبادر إليه الذهن، وقيل: "عَلَى" بمعنى "مَعَ"، أي: مع عروشها، قالوا: وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية.
وقيل: "عَلَى" بمعنى "عَنْ" أي: خاويةٌ عن عروشها، جعل "عَلَى" بمعنى "عَنْ" كقوله:
{ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ } [المطففين:2] أي: عنهم.
والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواءً بالمد، وخويّاً، وخويت ـ أيضاً ـ بكسر العين تَخْوَى خَوًى بالقصر، وخَوْياً، والخَوَى: الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل: البطن السَّهل من الأرض، وخوَّى البعير: جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك: [الرجز]

1198- خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ

ومنه الحديث: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا سَجَدَ خَوَّى" أي: خلا عن عضده، وجنبيه، وبطنه، وفخذيه، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت.
والعُرُوشُ: جمع عرش، وهو سقف البيت، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به، وقيل: هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك: [الكامل]

1199- إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ

اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد، وأكثر المفسرين من المعتزلة: كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث.
وقال قتادة، وعكرمة، والضحاك، والسديُّ: هو عُزَيرُ بن شرخيا.
وقال وهب بن منبه، ورواه عطاء، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو إرمياء بن خلقيا، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنَّ إرمياء هو الخضر ـ عليه السَّلام ـ، وهو من سبط هارون بن عمران ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ وهو قول محمد بن إسحاق.
وقال وهب بن منبِّه: إنَّ إرمياء، هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس، وأحرق التوراة.
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه:
الأول: استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ.
فإن قيل: يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ.
قلنا: لو كان كذلك، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً، فيقول: متى يقلب الله هذا ذهباً، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات، فكذا هاهنا.
الحجة الثانية: قوله تعالى في حقه: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسلم أنه لم يكن حاصلاً له.
الحجة الثالثة: قوله: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا لا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك.
الحجة الرابعة: انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا ـ أيضاً ـ ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه:
منها قوله تعالى: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله: "كَمْ لَبِثْتَ" وبقوله: { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ }، وبقوله: { فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ }، وبقوله: { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ }، وبقوله { وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى:
{ { وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:91]، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف.
ومنها ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى "بابل" فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير، ثمَّ أحياه الله بعد المائة، ونودي من السَّماء يا عزير "كَمْ لَبِثْتَ" بعد الموت، فقال: "يَوْماً" وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال: "أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ" فقال الله تبارك وتعالى: { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ } من التِّين، والعنب "وَشَرَابِكَ" من العصير لم يتغير طعمه، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال: "وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ" فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله، وسمع صوتاً: أيَّتها العظام البالية، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع، والذِّراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد، ثمَّ نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخرَّ عزير ساجداً، وقال: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم إنَّه دخل بيت المقدس. فقال القوم: حدَّثنا آباؤنا: أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة، وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فلم يخرم منها حرفاً، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله، وهذه الرواية مشهورة.
ويروى أنه أرميا ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية:
فقال وهبٌ، وقتادة، وعكرمة، والربيع هي: إيلياء، وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم: موتوا، مرَّ عليهم رجلٌ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللهُ مِئَةَ عَامٍ }.
قال ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً، لا أنيس فيها، والإشارة بـ "هذه" إنَّما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة، ووجود البناء والسكان.
قال القرطبي: روي في قصص هذه الآية: أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من الملوك، فعمرها وجدَّ في ذلك، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقيل: إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له "كُوشَك" فعمَّرها في ثلاثين سنةً.
وقال الضحاك: هي الأرض المقدَّسة.
وقال الكلبيُّ: هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد، وقيل: دير هرقل.
وقوله: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللهُ } في "أَنَّى" وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى "متى".
قال أبو البقاءرحمه الله : "فَعَلى هذا تكون ظرفاً".
والثاني: أنَّها بمعنى كيف.
قال أبو البقاءرحمه الله : فيكون مَوْضِعُها حالاً من "هذه"، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين: فالعاملُ فيها "يُحْيِي"، و "بعد" أيضاً معمول له. والإحياء، والإماتة: مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً، أي: أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق.
قوله: "مِئَةَ عَامٍ" قال أبو البقاءرحمه الله : "مائَة عامٍ": ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف، تقديره: "فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام" ويدلُّ على ذلك قوله: "كَمْ لَبِثْتَ"، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام.
و "مِئة" عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم: "أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ"، أي: صيَّرتها مئة، فوزنها فعة ويجمع على "مِئَات"، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل: [الطويل]

1200- ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ

كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا: سنون: في سنة.
والعام: مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير: عويم، وفي التكسير: "أَعْوَام".
وقال النقَّاش: "هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم: هو السبح؛ وقال تعالى:
{ { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس:40] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال".
فإن قيل: ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ، أو بعض يومٍ حاصل.
فالجواب: أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره، ما هو عجبٌ.
قوله: "ثُمَ بَعَثَهُ"، أي: أحياه، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله: من بعثت الناقة، إذا أقمتها من مكانها.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ـ تبارك وتعالى ـ "ثُمَّ بَعَثَهُ" ولم يقل: ثمَّ أحياه؟
فالجواب: أن قوله: "بَعَثَهُ" يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً: حيّاً، عاقلاً، فاهماً، مستعداً للنظر، والاستدلال، ولو قال: ثمَّ أحياه، لم تحصل هذه الفوائد.
قوله: "كَمْ" منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره: كم يوماً، أو وقتاً. والناصب له "لَبِثْتَ"، والجملة في محلِّ نصب بالقول، والظاهر أنَّ "أَوْ" في قوله: { يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بمعنى "بَلْ" للإضراب، وهو قول ثابت، وقيل: هي للشك.
فصل
قال ابن الخطيب: من الخوارق ما يمكن في حالة، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف، والعزير: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه، ولكنه لا مؤاخذة به، وإلاَّ فالكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، وذلك لا يختلف بالعلم، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال: إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان، والقول الأوَّل أصحُّ.
قوله: "قَالَ بَلْ لَبِثْتَ" عطفت "بل" هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم، بل لبثت مئة عام. وقرأ نافع، وعاصم، وابن كثير: بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم، والباقون: بالإدغام.
فصل فيمن قال: كم لبثت
أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره، وظهور البلى في عظامه، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى.
وقيل: سمع هاتفاً من السماء، يقول له ذلك.
وقيل: خاطبه جبريل، وقيل: نبيٌّ.
وقيل: مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته، وعمِّر إلى حين إحيائه.
قال القرطبي: والأظهر أنَّ القائل هو الله ـ عز وجل ـ، لقوله تعالى: { وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً }.
فإن قيل: إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟
فالجواب: أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق، بقوله: { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة: أنه أماته ضحًى، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل، كما حكي عن أصحاب الكهف:
{ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف:19] على ما توهَّموه، ووقع في ظنِّهم.
وقول إخوة يوسف
{ { يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [يوسف:81] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله.
قوله: "لَمْ يَتَسَنَّهْ" هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، وزعم بعضهم: أنَّ المضارع المنفيَّ بـ "لَمْ" إذا وقع حالاً، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد: [الطويل]

1201- بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

وزعم آخرون: أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن، قال تعالى: { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [آل عمران:174]، وقال تعالى: { { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [الأنعام:93] فجاء النفي بـ "لم" مع الواو ودونها.
فإن قيل: قد تقدَّم شيئان، وهما "طَعَامِكَ وشَرَابِكَ" ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدهما: أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [قال:] فانظر إلى غذائك.
الثاني: أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ "فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه"، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء.
الثالث: أنه أفرد في موضع التثنية، قاله ـ أيضاً ـ أبو البقاء؛ وأنشد: [الكامل]

1202- فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ

وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزة، والكسائي: "لَمْ يَتَسَنَّهْ" بالهاءِ وقفاً، وبحذفها وصلاً، والباقون: بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ: فالهاءُ تحتملُ وجهين:
أحدهما: أن تكون ـ أيضاً ـ للسكت، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، [سيمرُّ بك منه مواضع] فعلى هذا يكون أصل الكلمة: إِمَّا مشتقاً من لفظ "السَّنَةِ" على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا: "سُنَيَّة وَسَنَوات"؛ وعلى هذه اللغة قالوا: "سَانَيْتُ" أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر: [الكامل]

1203 -.......................... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ

ويقولون في جمعها: سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ: أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً.
وإما من لفظ "مَسْنُون" وهو المتغيرُ، ومنه
{ { حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر:28]، والأصلُ: يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن: تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري: قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزماً، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال: "لأنَّ المسنونَ: المصبوبُ على سنن الطريق".
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال: "هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ" أي: تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من "أَسِنَ الماءُ" لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه: أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها ـ وهي الهمزة ـ إلى موضع لامها، فبقي: يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخراً، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً، كقولهم في قرأ: "قَرَا"، وفي استهزأ: "اسْتَهْزا" ثم حُذفت جزماً.
والوجه الثاني: أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها، ويكونُ مشتقاً من لفظ "سَنَة" أيضاً، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ: سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا: سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم:

1204- وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ

ومعنى "لم يَتَسَنَّهْ" على قولنا: إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه: "مِنْ قولك: أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون"؛ لأنه يصير المعنى: لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع.
وقرأ أُبَيّ؛ "لَمْ يَسَّنَّهْ" بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ: "لم يَتَسَنَّهْ".
كما قُرِئ:
{ { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ } [الصافات:8]، والأصل: يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم، وقرأ طلحة بن مصرفٍ: "لِمِئَةِ سَنَةٍ".
فإن قيل: لما قال تعالى: { بَلْ لبثت مائة عام } كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله: { فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً.
فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة، فلما قال تعالى: { وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ، والشراب يسرع التغير إليهما، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً، فرأى ما لا يبقى باقياً، وهو الطعامُ، والشَّرابُ، وما يبقى غير باقٍ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكّنت الحجةُ في قلبه، وعقله.
قوله: { وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال، فإنه إذْ شاهد ذلك، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام، ثم يُحْييه.
فإن قيل: إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت.
فالجواب: أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله: "بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ". قال الضحاك: إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى، والرُّؤوس.
قوله: "وَلِنَجْعَلَكَ" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديره: ولنجعلك فعلنا ذلك.
الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره: فعلنا ذلك، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك.
الثالث: أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها، أي: وانظر إلى حِمارِك، لنجعلَكَ.
قال الفرَّاء: وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال: "وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً" [كان المعنى: ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا، من الإماتة، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، كما زعم بعضهم؛ فقال: إن قوله: "وَلِنَجْعَلَكَ" مؤخر بعد قوله تعالى: { وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ }، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار "أَنْ" وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. و "آية" مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى: التصيير. و "لِلنَّاسِ" صفةٌ لآيةٍ، و "أَلْ" في الناس، قيل: للعهدِ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ، وقيل: للجنس، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم].
قوله: { وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ }.
أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه، وقال آخرون: أراد بها عظام الرجلِ نفسه، قالوا: إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه، وكانت بقيةُ بدنه، عظاماً نخرةً، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل، ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة، والرَّبيع، وابن زيدٍ، وضُعِّف ذلك بوجوه:
منها: أَنَّ قوله { لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً، وعظامُه رميمة نخرةً، فلا يليقُ به ذلك.
ومنها أنه خاطبُه، وأَجاب، والمجيب، هو الذي أَماتهُ اللهُ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله، فالمجيب ـ أيضاً ـ الذي بعثه اللهُ، يجب أن يكون جملة الشَّخص.
ومنها أَنَّ قوله ـ تعالى ـ { فَأَمَاتَهُ ٱللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها، وبعثها.
قوله: "كَيْفَ" منصوبٌ نصبَ الأَحوال، والعاملُ فيها "نُنْشِزُها" وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في "نُنْشِزُها"، ولا يعملُ في هذا الحالِ "انظُرْ" إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام، فلا يعملُ فيه ما قبله، هذا هو القولُ في هذه المسألة، ونظائرها.
وقال أبو البقاء: "كيف نُنْشِزُها" في موضِعِ الحالِ من "العِظَامِ"، والعاملُ في "كيف" نُنْشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها "انظُرْ" لأنَّ هذه جملة استفهام، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً، وإنما الذي يقعُ حالاً "كَيْفَ"، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ، نحو: "كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً"؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة، وأمثالها: أَنْ تكونَ جملةُ "كَيْفَ نُنْشِزُها" بدلاً مِنَ "العِظَامِ" فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ، وذلك أنَّ "نظر" البصرية تتعدَّى بـ "إِلَى"، ويجوزُ فيها التعليقُ، كقوله تعالى:
{ ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [الإسراء:21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة، والتقدير: إلى حال العظام، ونظيرُهُ قولهم: عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هُوَ؟ فـ "أَبُو مَنْ" هو بدلٌ من "زَيْداً"، على حذفٍ تقديرُهُ: "عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ". والاستفهامُ في بابِ التعليقِ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه، حكُم اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ "أي" في الاختصاص، نحو: "اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ" فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه، وليس معناه عليه.
وقرأ أبو عمروٍ، والحرميَّان: "نُنْشِزُهَا" بضم النون، وكسر الشِّين، والراءِ المُهملةِ، والباقُون: كذلك؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة. وابن عباسٍ: بفتح النونِ، وضمِّ الشِّين، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ: كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ، وفتحِها مع الراءِ، والزاي.
فأَمَّا قراءة الحرميّين: فمن "أَنشَرَ اللهُ الموتى" بمعنى: أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابن عباس: فَمِنْ "نَشَر" ثُلاَثيّاً، وفيه حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ، فتتحدَ القراءتان.
والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ "نَشَرَ" ضِدَّ: طَوى، أي: يَبسُطها بالإِحياء، ويكونُ "نَشَرَ" أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميتَ، فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارة أبي البقاءرحمه الله في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء "نَشَر" لاَزِماً قوله: [السريع]

1205- حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ

فناشِر: مِنْ نَشَر؛ بمعنى: حَيِيَ. والمراد بقوله ننشرها، أي: نُحْييها، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ، قال تعالى: { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس:22] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله: { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ } [يس:78، 79].
وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن "النَّشْزِ" وهو الارتفاعُ، ومنه: "نَشْزُ الأَرْضِ" وهو المرتفع، ونشوزُ المرأةِ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى، فالمعنى: يُحرِّك العِظام، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء.
قال ابن عطية: "وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً"، قال: "وانظر استعمال العربِ، تَجده كذلك؛ ومنه: "نَشَزَ نَابُ البَعِير" و "أَنْشَزُوا، فَأَنْشَزوا"، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ" فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ "أَنْشَزَ"، ومَنْ فَتَحها، فَمِنْ "نَشَزَ"، يقال: "نَشَزه" و "أَنْشَزَه" بمعنى. ومَنْ قرأَ بالياءِ، فالضميرُ لله تعالى. وقرأ أُبيّ "نُنْشِئُها" من النَّشْأَةِ. ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء، بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عظمٌ حيٌّ. وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله:
{ { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس:78].
ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله: "العِظام" أي؛ العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ "أَلْ" قائمةً مقامَ الإِضافة، أي: عظامِ حمارِك.
قوله: "لَحْماً" مفعولٌ ثانٍ لِـ "نَكْسُوها" وهو من باب أَعْطَى، وهذا من الاستعارة، ومثله قول لبيدٍ: [البسيط]

1206- الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِينِي أَجَلِي حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا

قوله: "فَلَمَّا تَبَيَّنَ" في فاعل "تَبيَّن" قولان:
أحدهما: مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها، وقدَّره الزمخشريُّ: "فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه" يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني.
والثاني: ـ وبه بدأ الزمخشري ـ: أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ، يعني أن "تَبَيَّن" يطلُبُ فاعلاً، و "أَعْلَمُ" يطلبُ مفعولاً، و "أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع، وهذا نصُّه، قال: وفَاعِلُ "تبيَّن" مضمرٌ تقديره: فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كل شيء قديرٌ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: "ضَرَبَنِي، وضَرَبْتُ زَيْداً" فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني، وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول، فكأنه قال: فلمَّا تبيَّن له، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني:
{ ءَاتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [الكهف:96] { { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [الحاقة:19] لما ذكرت.
إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ ـ حتى لا يكون الفصلُ معتبراً ـ أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول، نحو: "جاءني يَضْحَكُ زيدٌ" فإنَّ "يَضْحَكُ" حالٌ عاملها "جاءني" فيجعل في: "جاءني"، أو في: "يضحك" ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم "آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً"
{ { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ } [النساء:176] { { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللهِ } [المنافقون:5] و { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [الحاقة:19] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ، فإذا كان على ما نصُّوا، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ، ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال، و "قال" جوابُ "لَمَّا" إِنْ قلنا: إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في "لَمَّا" إن قلنا: إنها ظرفٌ، و "تبيَّن" على هذا القول مخفوضٌ بالظرف، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو: "لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً"، ولا "لَمَّا جاء ضربت زيداً"، ولا "حِينَ جاء قتلْتُ زيداً"، ولا "إذا جاء قتلتُ زيداً"، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول: "أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً" ـ يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين ـ وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً، كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله: "وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ" الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف، ويُنشد: [الطويل]

1207- تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ

ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ: [البسيط]

1208- هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا

فقال: "هَوَيْنَنِي" فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث، من غير حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، قال شهاب الدِّين ـرحمه الله ـ وفيه نظرٌ لا يخفى.
وقرأ ابن عبَّاس: "تُبُيِّن" مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه. وابنُ السَّمَيْفع "يُبَيِّن" من غير تاء مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.
قوله: "قَالَ أَعْلَمُ" الجمهورُ على: "قال" مبنيّاً للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي: "اعْلَمْ" أمراً من "عَلِمَ" قولان:
أظهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك، أي: قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ.
الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها؛ ومنه: [البسيط]

1209- وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ........................

وقوله: [المتقارب]

1210- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ.................. .........................

يعني نفسه، قال أبو البقاءرحمه الله : "كما تقول لنفسك: اعلم يا عبد الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ" يعني: كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه. وأمَّا على قراءةِ "أَعْلَمُ" مضارعاً [للمتكلم] وهي قراة الجمهور ففاعل "قال" ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ: "قِيل" مبنيّاً للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة.
[وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: "اعلمْ" على الأَمر، والباقون: "أَعْلَمُ" مضارعاً] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر: "أَعْلِمْ" أَمْراً من "أَعْلَمَ"، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل "قال" ما هو؟
فصلٌ في معنى قوله: "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ"
قال الطبريُّ: معنى قوله: "فلمَّا تبيَّنَ لهُ" أي: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال: أَعلمُ. قال ابن عطيَّة: وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذِّ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره، كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ، ونحو هذا. وقال أبو عليّ: معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه.
و "أَنَّ الله" في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف.