التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٦٢
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ } فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة من قوله تعالى: { لهم أَجْرُهُم }، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة، فجاءت هذه الجملة كذلك، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله.
والثاني: أنَّ "ٱلَّذِينَ" خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين ينفقون، وفي قوله: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } على هذا وجهان:
أحدهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال.
والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعراب، كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرٌ؟ وعطف بـ "ثمّ" جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته، ولا يؤذي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.
قال الزَّمخشريُّ: ومعنى "ثُمَّ": إظهار التَّفاوت بين الإنفاق، وترك المنِّ والأذى، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله:
{ { ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [فصلت:30]، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة، لا في الزَّمان، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ.
و "مَا" في قوله تعالى: { مَآ أَنْفَقُواُ } يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً، فالعائد محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ، أي: لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد "مَناً"، أي: مناً على المنفق عليه، ولا أذى له، فحذف للدّلالة عليه.
والمنُّ: الاعتداد بالإحسان، وهو في الأصل: القطع، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال: قد منَّ الله على فلان، إذا أنعم عليه، ولفلان عليَّ منَّةٌ، أي: نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ: [الطويل]

1218- فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ

ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ" يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و "المنّ" أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى: { { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [القلم:3] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناً؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم: [الرمل]

1219- زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ

والمنُّ: الذي يوزن به، ويقال في هذا: "مَنَا" مثل: عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.
و "مَنّاً" مفعولٌ ثانٍ، و "لاَ أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل "وَلاَ أَذًى" مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال: الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون "أَذى" اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي: ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.
قال شهاب الدِّين: وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ "وَلاَ أَذَى" بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة.
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ: نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف.
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة "تبوك"، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ.
"قال عبد الرَّحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول: مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم. وقاليَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ" فنزلت هذه الآية الكريمة.
"وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ" فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين: إن الآية المتقدِّمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه "مَنّ"، "ولا أَذًى" قال القفَّال: وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد.
وقال بعضهم: "فِي سبيلِ"، أي: طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.
وقال سفيان: "مَنّاً وَلاَ أَذًى": هو أن يقول: قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك: إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفِّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا "الأذَى"، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى.
فإن قيل: ظاهر اللَّفظ: أنَّ مجموع المنّ، والأذى يبطلان الأجر، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر.
قلنا: بل الشَّرط ألاَّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله: { لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } يقتضي ألاَّ يقع منه، لا هذا، ولا ذاك.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة: الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع فقدهما، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.
وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلاَّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ، ولم ينفق، لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم، بطل الأجر.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى -.
وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد، وأداء الواجب لا يوجب الأجر.
فصل
وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } مشروطٌ بعدم الكفر، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد.
قوله: { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فيه قولان:
أحدهما: أنَّ إنفاقهم في سبيل الله، لا يضيع، بل يجدونه يوم القيامة، فلا يخافون فقده "وَلاَ يَحْزَنُونَ" بسبب ألاَّ يوجد، ونظيره
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [طه:112].
الثاني: أنهم يوم القيامة، لا يخافون العذاب ألبتة، ونظير
{ { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ } [النمل:89] وقال { { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [الأنبياء:103].