التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ
٥١
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قرأ أبو عمرو ويعقوب: "وَعَدْنَا" هنا، وما كان مِثْلَه ثلاثياً، وقرأ الباقون: "وَاعَدْنَا" بالألف، واختار أبو عبيدة قراءة أبي عمرو، ورجّحها بأن المُوَاعدة إنما تكون من البَشَرِ، وأما الله عز وجل فهو المنفرد بالوَعْدِ والوَعِيدِ، على هذا وجدنا القرآن نحو: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [المائدة:9]، { وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ } [إبراهيم:22]، { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ } [الأنفال:7].
ورجحه مكّي فقال: وأيضاً فإن ظاهر اللفظ فيه "وعد" من الله تعالى لموسى، وليس فيه "وَعْد" من موسى، فوجب حمله على الواحد، بظاهر النص
ثم ذكر جماعة جلّة من القراء عليها كالحَسَنِ، وأبي رجاء، وأبي جعفر، وشيبة، وعيسى بن عمر، وقتادة، وابن إسحاق، ورجّحه أبو حاتم أيضاً بأن قراءة العامة عندنا "وَعَدْنَا" بغير ألف؛ لأن المُوَاعدة أكثر ما تكون بين المَخْلُوقين والمُتَكَافئين.
وقد أجاب الناس عن قول أبي عبيد، وأبي حاتم، ومكي بأن "المُفَاعلة" ـ هنا ـ صحيحة، بمعنى أن موسى نزل قبوله لالتزام الوفاء بمنزلة الوعد منه، أو أنه وعد أن يفي بما كلفه ربه.
وقال القفال: "ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ـ تعالى ـ ويكون معناه يعاهد الله تعالى"، ومنه قوله تعالى:
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } [التوبة:75] إلى أن قال: { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } [التوبة:77].
وقال مكّي: المُوَاعدة أصلاً من اثنين، وقد تأتي بمعنى "فعل" نحو: "طَارَقْتُ النَّعْل" فجعل القراءتين بمعنى واحدٍ.
وقال الكسائي: ليس قوله الله:
{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [النور:55] من هذا الباب في شيء؛ لأن "واعدنا موسى" إنما هو من باب المُوَافاة، وليس من الوعد في شيء، وإنما هو من قولك: "موعدك يوم كذا"، و "موضع كذا".
والفصيح في هذا أن يقال: "واعدته"، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال:
{ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } [طه:59].
وقال الزجاج: "وَاعَدْنَا" بالألف جَيّد؛ لأن الطَّاعة في القبول بمنزلة المُوَاعد، فمن الله وَعْد، ومن موسى قَبُول واتباع، فجرى مجرى المواعدة.
وقال مكّي أيضاً: "والاختيار"واعدنا" بالألف؛ لأنه بمعنى "وعدنا" في أحد معنييه؛ ولأنه لا بُدَّ لموسى من وَعْد أو قَبُول يقوم مقام الوَعْدِ فتصحّ المُفَاعلة".
قال ابن الخَطِيب: الأقوى أن الله ـ تعالى ـ وعد الوَحْي، وهو وعد الله المجيء للميقات.
قال الجوهري: "المِيعَادُ: المُوَاعدة والوقت والموضع".
ووعد يتعدّى لاثنين، فـ "موسى" مفعول أول، و "أربعين" مفعول ثانٍ، ولا بد من حذف مضاف، أي: تمام أربعين، ولا يجوز أن ينتصب على الظَّرف، لفساد المعنى، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جار مجرى جمع المذكر السَّالم، وهو في الأصل مفرد اسم جمع، سمي به هذا العَقْد من العدد، ولذلك أعربه بعضهم بالحركات؛ ومنه في أحد القولين: [الوافر]

486ـ وَمَاذَا يَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ

بكسر النون.
و "ليلة" نصب على التَّمييز، والعقود التي هي من عشرين إلى تِسْعِين، وأحد عشر إلى تسعة عشر كلها تميز بواحد منصوب.
و "موسى" هو موسى بن عِمْران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يَعْقُوب بن إسْحَاق ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، اسم أعجمي غير منصرف، وهو في الأصل على ما يقال مركّب والأصل: مُوشَى ـ بالشين ـ لأن "ماء" بلغتهم يقال له: "مو" والشّجر يقال له: "شَا" فعربته العرب فقالوا: موسى.
قالوا: إنما سمي به؛ لأن أمه جعلته في التَّابوت حين خافت عليه من فِرْعون، وألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشْجَار عند بيت فرعون، فخرجت جَوَاري آسيَةَ امرأة فرعون يَغْسِلْنَ فوجدن التَّابوت، فأخذنه فسمي عليه الصلاة والسلام باسم المكان الَّذِي أصيب فيه وهو الماء والشجر، وليس لموسى اسم النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام اشتقاق؛ لأنه أعجمي؛ لأن بني إسرائيل والقْبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب.
ومنهم من قال: إنه مشتق، واختلفوا في اشتقاقه، فقيل: هو "مفعل" من أَوْسَيْت رأسه: إذا حلقته فهو مُوسى، كـ "أعطيته فهو مُعْطَى"، فمن جعل اسمه عليه مشتقاً قال: إنما سمي بذلك لِصَلَعِهِ.
وقيل: مشتق من "مَاسَ ـ يَمِيسُ" أي: يَتَبَخْتَرُ في مشيته ويتحرك، فهو "فعلى" وكان عليه الصلاة والسلام كذلك، فقلبت الياء واواً لانضمام ما قبلها كـ "مُوقِن" من "اليَقِين".
والصحيح الأول، وهذا الاشتقاق إنما هو في مُوسى آلة الحَلْق.
فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه
ذكر المفسرون أن موسى ـ عليه الصلاة والسَّلام ـ قال لبني إسرائيل: إن خرجنا من البحر سالمين آتيكم بكتاب من عند الله يبيّن لكم فيه ما يجب عليكم من الفِعْل والتَّرْكِ، فلما جاوز البحر، وأغرق الله فرعون قالوا: يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود، فخرج إلى الطُّور في سَبْعين من [أخيار] بني إسرائيل، وصعدوا الجبل، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلةً، فعدوا فيما ذكر المفسرون وعشرين يوماً وعشرين ليلة، وقالوا: قد [أخلفنا] موعده. فاتّخذوا العجل.
وقال أبو العالية: "بلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور".
فإن قيل: لم خصّ الليالي بالذِّكْر دون الأيّام؟
قيل: لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قَبْلَهُ في الرتبة وقع بها التاريخ، فاللَّيَالي أول الشهور، والأيام تَبَعٌ لها، وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معيناً وقيل: لأن الظلمة سابقة على النُّور، فهي الأصل يؤيده قوله تعالى:
{ وَءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يس:37].
فصل في معنى أربعين ليلة
قوله: { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } معناه: واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلةً كقولهم: "اليوم أربعون يوماً منذ خروج فلان" أي: تمام الأربعين، والحاصل أنه حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه كقوله:
{ وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف:82] وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معيناً، وهو الثلاثون من ذي القِعْدَة، والعشر الأول من ذي الحجّة؛ لأن موسى عليه السَّلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون المراد أنه وعد قَبْلَ هذه الأربعين أن يجيء إلى الجَبَل بعد انقضاء هذه الأربعين.
قال: وهذا الاحتمال هو المؤيّد بالأخبار. فإن قيل: قوله ـ هاهنا ـ: "أربعين ليلة" يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين.
وقوله في الأعراف:
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [الأعراف:142] يفيد أن المُوَاعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين، فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحَسَن البَصْري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة، ثم بعد ذلك وعده بعشر، لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً، وهو كقوله: { ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [البقرة:196].
قوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } "اتَّخَذَ" يتعدّى لاثنين، والمفعول الثاني محذوف أي: اتخذتم العِجْلَ إلهاً، وقد يتعدّى لمفعول واحد إذا كان معناه "عمل" و "جعل" نحو:
{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [البقرة:116].
وقال بعضهم: "تَخِذَ" و "اتَّخَذَ" يتعدّيان لاثنين ما لم يفهما كسباً، فيتعديان لواحد، واختلف في "اتَّخَذَ" فقيل: هو "افتعل" من الأَخْذِ، والأصل: "ائْتَخَذَ" الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة بعد أخرى، فوجب قلبها ياء كـ "إيمان" فوقعت الياء فاء قبل تاء الافتعال، فأبدلت تاء، وأدغمت في تاء الافتعال كـ "اتَّسَرَ" من "اليُسْرِ"، إلا أن هذا قليل في باب الهمز؛ نحو: "اتَّكَلَ" من "الأَكْل"، و "اتَّزَر" من "الإزَار"؛ وقال أبو عليٍّ: هو "افْتَعَل" من تَخِذَ يَتْخَذُ؛ وأنشد: [الطويل]

487ـ وَقَدَ تَخِذَتْ رِجْلِي إلَى جَنْبِ غَرْزِهَا نَسِيفاً كَأُفْحُوصِ القطَاةِ المُطَرِّقِ

وقال تعالى: { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [الكهف:77] وهذا أسهل القولين.
والقُرّاءُ على إدغام الذَّال في التاء لقرب مخرجهما، وابن كثير، وعاصم في رواية حَفْص بالإظهار، وهذا الخلاف جارٍ في المفرد نحو: "اتَّخَذْتُ"، والجمع نحو: "اتَّخَذْتُم"، وأتى في هذه الجملة بـ "ثم" دلالة على أن الاتِّخَاذ كان بعد المُوَاعدة بمهلة.
وقال ابن الخطيب: لما أنعم عليهم بهذه النِّعْمَة، وأتوا عَقِيْبَ ذلك بأقبح أنواع الجهل والكُفْر، كان ذلك في محل التعجُّب، فهو كمن يقول: إني أحسنت إليك، وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسُّوء والإيذاء، ومثله:
{ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام:1]، { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [الأنعام:2]؛ { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ } [البقرة:74]، { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } [الجاثية:8]، { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة:85].
قوله: "مِنْ بعْدِهِ" متعلّق بـ"اتَّخَذَتُمْ"، و "مِنْ" لابتداء الغاية والضمير يعود على مُوسى، ولا بُدّ من حذف مضافٍ، أي: من بعد انطلاقه أو مُضِيّه.
وقال ابن عطية: "يعود على موسى".
وقيل: "على انطلاقه للمتكلّم".
وقيل: على الوَعْدِ، وفي كلامه بعض مُنَاقشة، فإن قوله: "وقيل يعود على انطلاقه" يقتضي عوده على موسى من غير تقدير مضاف، وذلك غير مُتَصَوَّر.
قوله: "وَأَنْتُم ظَالِمُونَ" جملة حالية من فاعل "اتَّخَذْتُمْ".
و "العِجْل" ولد البقرة، والعُجُول مثله، والجمع عَجَاجِيْل، والأنثى "عِجْلة"، عن أبي الحسن، وسمي العجل عِجْلاً لاستعجالهم عبادته، ذكره القُرْطبي، وفيه نظر؛ لأن العِجْلَ ولد البقرة كان موجوداً قبل أن يتخذ بنو إسرائيل العِجْل.
فصل
قال أهل التَّفسير: لما ذهب موسى إلى الطُّور، وقال لأخيه هارون: اخلفني في قَوْمي، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحُلِيّ الذي استعاروه من القِبْطِ قال لهم هارون: إن هذه الثياب والحُلِيّ لا تحلّ لكم، وكان السَّامِرِيُّ من مسيره مع موسى ـ عليه السلام ـ إلى البحر ينظر إلى حافر دَابّة جبريل حين تقدم على فرعون في دخول البحر.
قال بعض المفسرين: كان كلما نقل حافره يخضرّ مكانه نَبْتاً، فلهذا سمي فرس الحياة، ولا يصيب شيئاً إلا حَيي، فقال السّامريُّ: "إن لهذا النبت نَبَأً، فقبض منه قَبْضَةَ، وقيل: قبض من تراب حَافِرِهِ، فذلك قوله:
{ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [طه:96]، ثم إن السَّامري أخذ ما كان معهم من الذَّهب، فصوَّر منه عِجْلاً وألقى فيه تلك القَبْضة، فخرج له صوت كالخُوَارِ، فقال القوم: { هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ }
قال ابن عبّاس: "لأنه كان مُنَافقاً يظهر الإسلام، وكان يعبد البقر، وكان اسمه موسى بن ظفر".
وقيل: متَّى.
وقيل: هارون، وإنهم عبدوا العجل بعد مُجاوزة النَّهر لقوله تعالى:
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف:138].
فإن قيل: كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم الذي لا يتحرّك، ولا يحسّ، ولا يعقل مستحيل أن يكون إله السموات والأرض، وَهَبْ أنه ظهر من خُوَار، ولكن هذا القَدْر لا يصلح أن يكون شُبْهة في قَلْب أحد من العقلاء في كونه إلهاً، وأيضاً فإن القوم قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات الظاهرة التي تكون قريبةً من حَدّ الإلجاء من الدلالة على الصانع وصدق موسى ـ عليه السَّلام ـ فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حَدّ الضرورة، لا يكون صدور الخُوَارِ من ذلك العِجْلِ يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً.
قال ابن الخطيب: والجواب أنّ هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلاّ على وجه واحدٍ، وهو أن السَّامري ألقى إلى القوم أن موسى ـ عليه السَّلام ـ إنما قدر على ما أتى به؛ لأنه كان يتّخذ طلسمَات على قوى ملكية، وكان يقدر بواسطتها على هذه المُعجِزَاتِ فقال السَّامري للقوم: "وأنا أتخذ لكم طلسمات مثل طلسمته، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صَوْتٌ عجيب، فأطمعهم في أن يصيروا مثل مُوسَى ـ عليه السَّلام ـ في الإتيان بالخوارق، أو لعلّ القوم كانوا مجسّمة وحُلُولية، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجْسَام، فلذلك وقعوا في تلك الشبهة.
فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل
في هذه القصة فوائد:
أحدها: أنها تدلّ على أن أمّة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير الأمم؛ لأن أولئك اليهود مع مُشَاهدتهم تلك البَرَاهين البَاهِرَة اغْتَرُّوا بهذه الشبهة الرَّكيكة، وأمّا أمة محمد ـ عليه السلام ـ فإنهم مع أنهم محتاجون في ثبوت كون القُرْآن معجزاً إلى الدَّلائل الدقيقة لم يَغْتَرُّوا بالشُّبُهَات العظيمة، وذلك يدلُّ على أنهم أكمل عَقْلاً، وأدعى خاطراً من اليهود.
وثانيها: فيه تحذير عظيم من التقليد والجَهْل بالدلائل، فإن هؤلاء الأقوام لو عرفوا الله بالدَّليل معرفة تامّة لما وقعوا في شبهة السامري.
وثالثها: تسلية النبي ـ صلى الله علي وسلم - عما كان شَاهَدَ من مشركي العرب، واليهود، والنَّصارى من الخلاف، فكأنه تعالى أمره بالصَّبْرِ على ذلك كما صَبَرَ مُوسَى ـ عليه السلام ـ في هذه الواقعة المنكرة، فإنهم بعد أن خلّصهم الله ـ تعالى ـ من فرعون، وأراهم المعجزات العجيبة من أوّل ظهور مُوسَى إلى ذلك الوقت، اغْتَرُّوا بتلك الشبهة الرّكيكة، وأن موسى ـ عليه السلام ـ صبر على ذلك، فَلأَنْ يصبر محمد ـ عليه السلام ـ على أَذِيَّةِ قومه أولى.
ورابعها: أن أشدّ الناس مجادلةً وعداوة مع الرسول هم اليهود، فكأنه ـ تعالى ـ قال: إن هؤلاء يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البَلاَدَةِ، والجهالة، والغباوة إلى هذا الحد بحيث إن أشدّ الأشياء بَلاَدَة، وجهالة، وغباوة، هم البقر، فجعلوه إلهاً، فكيف هؤلاء الأخلاف.
فصل
في تفسير الظّلم وجهان:
الأول: قال فيه أبو مسلم: الظُّلم في أصل اللغة من النقص قال تعالى:
{ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [الكهف:33].
والمعنى: أنهم تركوا عبادة الخلاّق المحيي المميت، واشتغلوا بعبادة العِجْلِ، فقد صاروا ناقصين في خيرين: الدين والدنيا.
والثّاني: أن الظلم في العرف عبارة عن الضرر الخالي عن نفع يزيد عليه، ودفع مضرّة أعظم منه، والاسْتِحْقَاقُ غير العرفي علمه أو ظنّه، فإذا كان بهذه الصفة كان فاعلاً ظلماً، ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤدّيه إلى العقاب والنار، قيل: "إنه ظالم لنفسه"، وإن كان في الحال نفعاً ولذّة كما قال:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13].
وقال:
{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [فاطر:32] ولمّا كانت عبادتهم لغير الله ظُلماً ومؤدّياً إلى عذاب النار سُمّي ظلماً.
فصل في ردّ شبهة للمعتزلة
استدّلت المعتزلة بهذه الآية على أنّ المعاصي ليست بخلق الله من وجوه:
أحدها: أنه ـ تعالى ـ ذمَّهم عليها، ولو كانت مخلوقةً له لكانوا مطيعين بفعلها؛ لأن الطَّاعة عبارة عن فعل المراد.
وثانيها: لو كان العصيان مخلوق لله ـ تعالى ـ لكان الذَّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أَسْوَدَ، وأبيض، وطويلاً.
قال ابن الخطيب: وهذا تمسّك بفعل المدح والذم، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم، وقد تقدّم.
قوله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ }.
و "العفو" المَحْوُ، ومنه: "عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ" أي: محا ذنوبكم، والعافية: لأنها تمحو السّقم، وعَفَتِ الريح الأَثَرَ؛ قال: [الطويل]

488ـ فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ

وقيل: عَفَا كذا أي: كَثُرَ، ومنه "وأَعْفُوا اللِّحَى" فيكون من الأضداد.
وقال ابن عطية: "العَفْوُ تَغطية الأثر، وإذهاب الحال الأوّل من الذَّنْبِ أو غيره، ولا يستعمل العَفْوُ بمعنى الصَّفح إلا في الذنب". وهذا الذي قاله قريب من تَفْسِيْرِ الغُفْرَان؛ لأن الغفر التغطية والسَّتر، ومنه: المغفر، ولكن قد فُرِّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة، فيجتمع معها، وأمّا الغُفْرَانُ فلا يكون مع عقوبة.
وقال الرَّاغب: "العَفُو": القصد لتناول الشَّيء، يقال: عَفَاه واعْتَفَاهُ أي: قصده مُتَناولاً ما عنده، وعَفَتِ الريحُ التُّرابَ قصدتها متناولةً آثارها، وعَفَتِ الديار كأنها قصدت نحو البِلَى وعفا النَّبْت والشَّعْرُ قصد تناولَ الزِّيادة، وعفوتُ عنك كأنه قصد إِزَالَةَ ذَنْبِهِ صارفاً عنه، وأَعْفَيْتُ كذا، أي: تركته يعفو ويكثر، ومنه "أعْفُوا اللِّحَى" فجعل القصد قدراً مشتركاً في العَفْوِ، وهذا ينفي كونه من الأَضْدَادِ، وهو كلام حسن؛ وقال الشاعر [الطويل]

489ـ.................. إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْر مَنْ يَسْتَعِيرُهَا

معناه: أن العَافِي هنا ما يبقى في القَدْرِ من المَرَقِ ونحوه، فإذا أراد أحد أن يستعير القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبها بالعَافي الذي فيها، فالعَافِي فاعل، ومن يستعيرها مَفْعُول، وهو من الإسناد المجازي؛ لأن الرَّاد في الحقيقة صاحب القِدْرِ بسبب العافي.
فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية
قالت المعتزلة: "المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة، وهي قتل بعضكم بَعْضاً".
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله ـ تعالى ـ عليهم.
الثاني: أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً، فكذلك هاهنا.
إذا ثبت هذا فنقول: لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى:
{ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [البقرة:54] وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه ـ تعالى ـ أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً، وشرعاً، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى، فلأن يعفوا عن فُسّاق أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى.
قوله: "لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
"تَشْكُرُونَ" في محل رفع خبر "لعلّ"، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد.
وقال الراغب: هو تصور النعمة وإظهارها.
وقيل: هو مقلوب عن الكَشْر أي: الكَشْف، وهو ضدّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل: أصله من "عَيْن شَكْرى" أي: ممتلئة، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
و "شَكَر" من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً، وبحرف الجرِّ أُخْرَى، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيح، فمن المتعدِّي بنفسه قوله عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ: [الطويل]

490ـ هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ

ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى: { وَٱشْكُرُواْ لِي } [البقرة:152]، وسيأتي هنا تحقيقُهُ.
فصل في الرد على المعتزلة
قالت المعتزلة: إنه ـ تعالى ـ بَيَّن أنه عفا عنهم، ولم يؤاخذهم لكي يشركوا، وذلك يدلّ على أنه ـ تعالى ـ لم يرد منهم إلا الشكر.
والجواب: لو أراد الله ـ تعالى ـ منهم الشكر لأراد ذلك، أنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط، والأول باطل؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشَّرط، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر، وذلك ضد قول المعتزلة، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية، فقد أراد منه المُحَال؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال. فثبت أن الإشكال واردٌ عليهم.