التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٩٧
مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
٩٨
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

هذا نوع آخر من قَبَائح اليهود، ومنكرات أقوالهم، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره ـ تعالى ـ بمخاطبتهم بذلك؛ لأنه يجري مجرى المُحَاجّة، والمفسرون ذكروا أموراً:
أحدها:
"أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد: كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُل، وأَمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظِّفْرُ وَالشَّعْرُ فِمنَ المَرْأَةٍ فقال: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ صَاحِبَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، قال: صدقت فقال: أخبرني أي الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أَنْشُدُكُمْ بَاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيْلَ مَرِضَ مَرضاً شَدِيْداً فطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ للَّهِ نَذْراً لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ لُحْمَانُ الإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا فقالوا: اللهم نعم.
فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عز وجل؟ قال: جِبْريلُ عليه السلام.
قال: إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرَّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله ـ تعالى ـ أنزل على نبينا أنبيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له: بخت نصرّ ووصفه لنا [وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رَجُلاً من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله، فانطلق حتى لقي بـ بابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله]. [فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً] فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله ـ تعالى ـ على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس فلا فائدة من قتله، ثم إنه كبر وقوي وملك، وغزانا وخرّب بيت المقدس، فلذلك نتّخذه عدوّاً [فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله"
ابن عباس ـ رضي الله تعالى ـ عنهما، وفي هذا القول نظر؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية: إن رسولهم ميكائيل، وهو الذي يأتي بالبِشْر والرخاء، وأنهم يحبونه، ثم إنه ـ تعالى ـ أثبت عدواتهم لميكائيل أيضاً في الآية التي تليها فقال: { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [البقرة:98] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا].
وثانيها: قال قتادة وعكرمة والسّدي: كان لعمر بن الخَطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أرض بأعلى "المدينة" وممرها على مِدْرَاس اليهود، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم، وسمع منهم، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رضي الله عنه: والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني، وإني أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأرى أثاره في كتابكم فقالوا: مَنْ صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال: جبريل فقالوا: ذلك عدونا يُطْلع محمداً على أَسْرَارنا، وهو صاحب كل عذاب وخَسْف وشدّة، وإن ميكائيل يأتي بالخِصْبِ والسّلامة، فقال لهم عمر رضي الله عنه: تعرفون جبريل، وتنكرون محمداً ـ عليه الصَّلاة السَّلام ـ فقالوا: نعم قال: فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله ـ عز وجل ـ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل، قال: فإن كان كما تقولون فما هما بعدوين، ولأنتم أكفر [ من الحمير، وإني أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدواً لميكائيل فهو عدو لجبريل، ومن كان عدواً لهما فإن الله ـ تعالى ـ عدوّ له، ثم رجع عمر فوجد جبريل ـ عليه السلام ـ قد سبقه بالوَحْي، فقرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآيات وقال: لقد وافقك ربك يا عمر، فقال عمرـ رضي الله عنه ـ فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله ـ تعالى ـ أَصْلَبَ من الحجر].
وثالثها: قال مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل ـ عليه السلام ـ عدوّنا، أمر أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات.
قال ابن الخطيب: والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد ـ صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى: { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة:97] مشعر بأن هذا التنزيل [لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله، فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة، وتقرير هذا من وجوه:
أولها: أن الذي نزله جبريل من] القرآن [ الذي نزل به فيه] بشارة المطيعين بالثواب، وإنذار العصاة بالعقاب، والأمر بالمُحَاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره، بل بأمر الله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره، ولا سبيل إلى مُخَالفته فعداوة مَنْ هذا سبيله توجب عداوة الله ـ تعالى ـ وعداوة الله ـ تعالى ـ كفر، فيلزم أن معاداة مَنْ هذا سبيله كفر.
ثانيها: أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب، فإما أن يقال: إنه كان [يتمرد أو يأبى] عن قبول أمر الله، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله، فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل ـ عليهما السلام ـ فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟
وثالثها: أن إنزال القرآن على محمد ـ عليه السلام ـ كما شق على اليهود، فإنزال التوراة على موسى ـ عليه السلام ـ شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نَفْرة هؤلاء لإنزال القرآن قُبْحه فلتقتض نَفْرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى ـ عليه السلام ـ قبحه، ومعلوم أن كل ذلك باطل، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.
فإن قيل: إنا نرى اليهود في زماننا مُطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن أحداً مِنْ سَلَفهم لم يقل بذلك.
فالجواب: أن هذا باطل، لأن كلام الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديداً، وهم الذين قالوا:
{ ٱجْعَل لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف:138].
قوله تعالى: { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ } "مَنْ" شرطية في محلّ رفع بالابتداء، و "كان" خبره على ما هو الصحيح كما تقدم، وجوابه محذوف تقديره: من كان عدوّاً لجبريل فلا وجه لعداوته، أو فليمت غيظاً ونحوه.
ولا جائز أن يكون "فَإِنَّهُ نَزَّلهُ" جواباً للشرط لوجهين:
أحدهما: من جهة المعنى.
والثاني: من جهة الصناعة.
أما الأول: فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلاً.
ولقاتل أن يقول: هذا محمول على التَّبيين، والمعنى: فقد تبين أنه نزله، كما قالوا في قوله:
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [يوسف:27] ونحوه.
وأما الثاني: فلأنه لا بد في جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز: مَنْ يقم فزيد منطلق، ولا ضمير في قوله: "فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ" يعود على "مَنْ" فلا يكون جواباً للشرط، وقد جاءت مواضع كثيرة من ذلك، ولكنهم أَوَّلُوهَا على حذف العائد، فمن ذلك قوله: [الوافر]

677ـ فَمَنْ تَكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا

وقوله: [الطويل]

678ـ فَمَنْ يِكُ أَمْسَى بِالْمَدينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

وينبغي أن يبنى ذلك على الخلاف في خبر اسم الشَّرْط.
فإن قيل: إنَّ الخبر هو الجزاء وحده ـ أو هو الشَّرْط ـ فلا بدّ من الضمير، وإن قيل بإنه فعل الشَّرْط، فلا حاجة إلى الضمير، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى:
{ { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [البقرة:38]، وقد صّرح الزمخشري ـرحمه الله ـ بأنه جواب الشَّرْط، وفيه النَّظر المذكور، وجوابه ما تقدم. و "عَدُوّاً" خبر "كان"، ويستوي فيه الواحد وغيره، قال: { { هُمُ ٱلعَدُوُّ } [المنافقون:4] ـ والعَدَاوَةُ: التجاوز قال الرَّاغب: فبالقلب يقال: العداوة وبالمشي يقال: العدو، وبالإخلال في العدل يقال: العدوان وبالمكان أو النسب يقال: قوم عِدًى أي غرباء.
و "لِجْبِريلَ" يجوز أن يكون صفة لـ "عَدُوّاً" فيتعلّق بمحذوف، وأن تكون اللام مقوية لتعدية "عَدُوّاً" إليه.
و "جبريل" اسم ملك وهو أعجمي، فلذلك لم ينصرف، وقول من قال: "إنّه مشتقّ من جبروت الله" بعيد؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية، وكذا قول من قال: إنه مركّب تركيب الإضافة، وأن "جبر" معناه: عبد، و "إيل" اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فهو بمنزلة عبد الله؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرف الثاني [وهذا القول مَرْوِيّ عن ابن عَبَّاس، وجماعة من أهل العلم، فقال أبو علي السّنوي: وهذا لا يصحّ لوجهين:
أحدهما: أنه لا يعرف من أسماء الله "إيل".
والثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً]. وقال المهدوي: إنه مركّب تركيب مزج نحو: حضرموت وهذا بعيد أيضاً؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلاّ.
وَرَدَّ عليه أبو حَيَّان بأنه لو كان مركباً تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المُتَضَايفين، أو يبنى على الفَتْح كأحد عشر، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [يجوز فيه هذه الأوجه، وكونه لم يسمع فيه البناء، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج] وهذا الرد لا يحسن ردًّا؛ لأنه جاء على أحد الجائزين، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك.
قال القرطبيرحمه الله تعالى: والصَّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بلسان عربي مبين.
قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الأسماء الأعجمية، فجاءت فيه بثلاث عشرة لغة.
أشهرها وأفصحها: "جبريل" بزنة قِنْديل، وهي قراءة أبي عمرو، ونافع وابنِ عامرٍ وحفْصٍ عن عاصم، وهي لغة "الحجاز"؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَلٍ: [الطويل]

679ـ وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ

وقال حَسَّان: [الوافر]

680ـ وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَه كِفَاءُ

وقال عمران بن حِطَّان: [البسيط]

681ـ وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لاَ كِفَاءَ لَهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللهِ مأْمُونَا

الثانية: كذلك إلا أنه بفتح الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفَرَّاء: "لا أحبها؛ لأنه ليس في كلامهم فَعْلِيلٌ" وما قاله ليس بشيء؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم كـ"لِجَامٍ"، وقسم يلحقوه كـ "إِبْرَيْسَمٍ"، على أنه قيل: إنه نظير شَمويل اسْمَ طائر.
وعن ابن كثير أنه رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ "جَبْرِيلَ ومِيكَائيلَ"، قال: فلا أزال أقرؤهما كذلك.
الثالثة: جَبْرَئِيل كَعْنتَريس، وهي لغة قيس وتميم، وبها قرأ حمزة والكسائيُّ؛ وقال حسَّان: [الطويل]

682ـ شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ يَدَ الدَّهْرِ إِلاَّ جَبْرَئِيلُ أمَامَهَا

وقال جريرٌ: [الكامل]

683ـ عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِجَبْرئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالاَ

الرابعة: كذلك إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر
الخامسة: كذلك إلاّ أن اللام مشددة، وتروى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و"إِلٌّ" بالتشديد اسم الله تعالى.
وفي بعض التفاسير:
{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [التوبة:10] قيل: معناه: الله وروي عن أبي بكر لما سمع بِسَجْع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إِلٍّ.
السادسة: جَبْرَائِل بألف بعد الرَّاء، وهمزة مكسورة بعد الألف، وبها قرأ عكرمة.
السابعة: مثلها إلا أنها بياء الهمزة.
الثامنة: جِبْرَاييل بياءين بعد الألف من غير همزة، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضاً.
التاسعة: جِبْرَال.
العاشرة: جِبْرَايل بالياء والقصر، وهي قراءة طلحة بن مُصَرِّف.
الحادية عشرة: جَبْرِينَ بفتح الجيم والنون.
والثانية عشرة: كذلك إلا أنه بكسر الجيم.
والثالثة عشرة: جَبْرايين.
والجملة من قوله: "مَنْ كَانَ" في محلّ نصب بالقول، والضمير في قوله "فإنّه" يعود على جبريل وفي قوله: "نزله" يعود على القرآن، وهذا موافق لقوله:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء:193] في قراءة من رفع "الروح" ولقوله: "مصدقاً".
وقيل: الأول يعود على الله، والثاني يعود على جبريل، وهو موافق لقراءة من قرأ "نَزَّل بهِ الرُّوحَ" بالتشديد والنصب، وأتى بـ "على" التي تقتضي الاستعلاء دون "إلى" التي تقتضي الانتهاء، وخصّ القلب بالذكر؛ لأنه خزانة الحِفْظ، وبيت الربّ عز وجل [وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه، لا على قلبه، إلاَّ أنه خصّ القلب بالذكر؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أدَّاه إلى أمّته، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء ثبات حفظه في قلبه جاز أن يقال: نزله على قلبك، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه، ولأنه أشرف الأعضاء.
قال عليه الصَّلاة السَّلام:
"أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" ] وأضافه إلى ضمير المخاطب دون ياء المتكلم، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون "على قلبي" لأحد الأمرين:
إما مراعاة لحال الأمر بالقول فَتَسْرُد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك: قل لقومك: لا يهينوك، ولو قلت: لا تهينوني لجاز، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]

684ـ أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هُنَيْدَةُ: مَا لِيَا

فأحرز المعنى ونَكَّبَ عن نداء هندية "ما لك"؟، وإما لأن ثَمَّ قولاً آخر مضمراً بعد "قل" والتقدير، قل يا محمد: قال الله "من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزله على قلبك"، [وإليه نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله، قل: ما تكلمت به من قولي: من كان عدوًّا لجبريل، فإنه نزله على قلبك] فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر، والقول المضمر معمول للفظ "قل"، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ "قل" بالتأويل المذكور أولاً، ولا ينافيه قول الزمخشري، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في "أنه" يحتمل معنيين:
الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك.
الثاني: فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك، ودلت الآية على شرف جبريل ـ عليه السلام ـ وذمّ معاديه قاله القُرْطبيرحمه الله تعالى.
قوله تعالى: "بإِذْن اللهِ" في محلّ نصب على الحال من فاعل: "نزله" إن قيل: إنهُ ضمير جبريل، أو من مفعوله إن قيل: إن الضمير المرفوع في "نزل" يعود على الله، والتقدير: فإنه نزل مأذوناً له أو معه إذن الله، والإذن في الأصل العلم بالشَّيء، والإيذان، كالإعلام، آذن به: علم به، وآذنته بكذا: أعلمته به، ثم يطلق على التمكين، أذن في كذا: أمكنني منه، وعلى الاختيار، فعلته بإذنك: أي باختيارك، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك.
قال ابن الخطيب: تفسير الإذن هُنا بالأمر أي بأمر الله، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه:
أولها: أنَّ الإذن حقيقة في الأمر، ومجاز في العلم، واللَّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.
وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.
وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة.
قوله تعالى: "مُصَدِّقاً" حال من الهاء في "نزّله" إن كان يعود الضمير على القرآن، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والتقدير: فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقاً.
الثاني: أن يكون من جبريل بمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل، وهي حال مؤكدة، والهاء في "بين يديه" يجوز أن تعود على "القرآن" أو على "جبريل".
وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ـ عليهم الصَّلاة والسَّلام ـ لا يخصّ كتاباً دون كتاب، ومنهم من خصَّه بالتوراة، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكُتب فلم صار مصدقاً لها؟
فالجواب: أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد وأصول الدين.
قوله تعالى: "هُدًى وَبُشْرى" حالان معطوفان على الحال قبلهما، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل، أو على المبالغة أو على حَذْف مضاف أي: ذا هدى و"بشرى" ألفها للتأنيث، وجاء هذا التَّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقاً للترتيب الوجودي، وذلك أنه نزل مصدّقاً للكتب؛ لأنها من ينبوع واحد، وحصلت به الهداية بعد نزوله، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية، وخصّ المؤمنين، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، كقوله: بشرى للمتقين، أو لأن البشرى لا تكن إلاَّ للمؤمنين؛ لأن البُشْرَى هي الخبر الدَّال على الخير العظيم، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين.
قوله تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا }: الكلام في "مَنْ" كما تقدم، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ }.
فإن قيل: وأين الرَّابط؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر، وكان الأصل: فإن الله عَدُوّ لهم، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة.
والثاني: أن يراد بالكافرين العموم، والعموم من الرَّوَابط، لاندراج الأول تحته، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره: من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه.
وقال بعضهم: الواو في قوله: { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } بمعنى"أو"، قال: لأن من عادى واحداً من هؤلاء المذكورين، فالحكم فيه كذلك.
وقال بعضهم: هي للتفصيل، ولا حاجة إلى ذلك، فإن هذا الحكم معلوم، وذكر جبريل وميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة، وهكذا كُلّ ما ذكر خاص بعد عام، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وبعضهم يسمي هذا النوع بالتجريد، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية، وهذا الحكم ـ أعني ذكر الخاصّ بعد العام ـ مختصّ بالواو ولا يجوز في غيرها من حروف العطف.
وجعل بعضهم مثل هذه الآية ـ أعني: في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له ـ قوله:
{ فِيهِمَا فَٰكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [الرحمن:68] وهذا فيه نظر، فإن "فاكهة" من باب المطلق؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وليست من العموم في شيء، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله، ثم نص عليه فصحيح، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله: { فإِنَّ ٱللهَ عَدُوٌّ }؛ لأنه لو أُضمر فقيل: "فإنه" لأوهم عوده على اسم الشرط، فينعكس المعنى، أو عوده على ميكال؛ لأنه أقرب مذكور.
وميكائيل اسم أعجمي، والكلام فيه كالكلام في "جبريل" من كونه مشتقّاً من ملكوت الله عز وجل، أو أن "ميك" بمعنى عبد، و"إيل" اسم الله، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج، وقد عرف الصحيح من ذلك.
وفيه سبع لغات: "مِيكَال" بزنة "مِفْعَال" وهي لغة "الحجاز"، وبها قرأ أبو عمر وحفص عن عاصم، وأهل "البصرة"؛ قالوا: [البسيط]

685ـ وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا عُدَدٌ فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ

وقال جرير: [الكامل]

686ـ عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بمُحَمَّد وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيْكَالاَ

الثانية: كذلك، إلاَّ أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وأهل "المَدينة" بهمزة واختلاس ميكائيل.
الثالثة: كذلك، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن "ميكائيل"، وهي قراءة الباقين.
الرابعة: ميكئيل مثل ميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن.
الخامسة: كذلك، إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، فهو مثل: مِيكَعِل، وقرىء بها.
السادسة: ميكاييل بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش.
السابعة: ميكاءَل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال: "إسراءَل"، وحكى المَاوَرْدِيّ عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن "جَبْر" بمعنى عَبْد بالتكبير، و "ميكا" بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله قال: ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف.
وقال القرطبيرحمه الله تعالى: وزاد بعض المفسّرين: وإسرافيل عبد الرحمن.
قال النحاس: ومن قال: "جبر" عبد، و "إل" الله وجب عليه أن يقول: هذا جَبْرُئِل، ورأيت جَبْرَئِل، ومررت بِجَبْرِئِل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون مسمى بهذا.
وقال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفاً، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.
قال ابن الخطيب: يجب أن يكون جبريل ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ أفضل من ميكائيل لوجوه:
أحدها: أنه قدمه في الذّكر، وتقديم المَفْضُول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً.
وثانيها: أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم، وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.
وثالثها: قوله ـ تعالى ـ في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام:
{ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير:21] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ فوجب أن يكون أفضل منه.
فإن قيل: حقّ العَدَاوة الإضرار بالعدو، وذلك مُحَال على الله تعالى، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟
فالجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلاّ فينا؛ لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المَضَارِّ به، وذلك مُحَال على الله ـ تَعَالى ـ بل المراد أحد وجهين: إما أن يعادوا أولياء الله، فيكون ذلك عداوة الله، كقوله:
{ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المائدة:33]، وكقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب:57]؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذيّة عليه، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن الطريقة، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.