التفاسير

< >
عرض

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ
١٢٠
فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
١٢١
ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ
١٢٢
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ" أي: أنهى إليه الوسوسة، وأمَّا وَسوَسَ له فمعناه: لأجله قال الزمخشري: فإن قلت: كيف عدّى وَسْوَسَ باللام في قوله: { { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ } [الأعراف: 20] وأخرى بإلى؟ قلت: وَسْوَسَةُ الشيطان كَوَلْوَلَةِ الثكلى ووَقْوَقَة الدجاجة في أنها حكايات الأصوات، فحكمُها حكمُ صوت أو جرس، ومنه: وسوسة المُبْرسَم وهو مُوَسْوس بالكسر، والفتح لحسن، وأنشد ابن الأعرابي:

3699- وَسْوَسَ يدعُو مُخْلصاً رَبَّ الفَلَقْ

فإذا قلت: وسوس له فمعناه لأجله كقوله:

3700- أجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أبِي كِبَاشِ

ومعنى وسوس إليه أنهى الوسوسة كقوله: حدث إليه.
وقال أبو البقاء: عُدّي "وَسْوَسَ" بـ "إلى" لأنه بمعنى أسرَّ، وعداه في موضع آخر باللام، لكونه بمعنى ذَكَرَ له، أو تكون بمعنى لأجله.
قوله: { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ } يعني على شجرة إن أكلتَ منها بَقيتَ مخلداً، { وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَىٰ } أي مَنْ أكل من هذه الشجرة دام ملكه. قال ابن الخطيب: واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغَّبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله:
{ { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } [طه: 117-119] ورغَّبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله: { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ } وفي انتظام المعيشة بقوله: { وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَىٰ } فكان الشيء الذي رغَّب (الله تعالى آدم) فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقعه على الإقدام عليها، ثم إن آدم - عليه السلام - مع كمال عقله وعلمه (بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه، وأعلمه) بأن عدوه حيث امتنع من السجود له، وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمولى. ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أنّ هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدره.
روى البخاريُّ ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"احتجَّ آدمُ وموسى عند ربهما، فحَجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجياً وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ }؟ قال نعم، قال أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحَجَّ آدمُ مُوسَى" .
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَتَبَ الله مَقَادِير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعَرْشُهُ على الماء" . وقال: "كل شيء خلقه بقدر حتى العَجْز والكَيْسُ" . قوله: "فَأَكَلاَ مِنْهَا" يعني آدم وحواء. { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا }.
قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما. وإنما جمع "سَوْآتِهمَا" كما قال: "صَغَتْ قُلُوبُكُمَا".
{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } قال الزمخشري: طَفِقَ بفعل كذا مثل جعل يفعَلُ وأخَذَ وأنْشَأ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة. وقرىء "يُخَصِّفان" للتكثير والتكرير من خصف النعل، وهو أن يخرز عليها الخصاف، أي: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر، وهو ورق التين. قوله: { وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ } بأكل الشجرة "فَغَوى" أي" فعل (ما لم يكن له فعله). وقيل: أخطأ طريق الجنة وضلَّ حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده.
وقال ابن الأعرابي: أي: فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال: عَصَى آدمُ، ولا يجوز أن يقال: آدم عاصٍ (لأنه إنما يقال: عَاصٍ) لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه فيقال خاط ثوبَه، ولا يقال: هو خياط (حتى يعاوده ويعتاده).
قوله: "فَغَوَى" الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها.
وقيل: معناه بشم من قولهم: غوي البعير بكسر الواو والياء إذا أصابه ذلك. وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى.
قال الزمخشري: زعم بعضهم "فَغَوى" فَبَشَم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفاً، فيقول في فَنِيَ، وبَقِيَ: فَنَا وَبَقَا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث.
قال شهاب الدين: كأنه لم يطلع على أنه قرىء بكسر الواو، ولو اطلع عليها لردها، وقد فرَّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم - عليه السلام - إلى الغي.
فصل
تمسك بعضهم بقوله: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } في صدور الكبيرة عنه من وجهين:
أحدهما: أن العاصي اسم للذمِّ فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة، ولقوله تعالى:
{ { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ } [الجن: 23] ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فَعَل فِعْلاً يُعَاقَبُ عليه.
الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه.
وأجيب عن الأول: بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب، فإنك تقول: أمرته فعَصَاني، وأمرته بشرب الدواء فَعَصَاني وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنَّ العاصي يستحق العقاب، والعرف يدل على أنه اسم ذم، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب. فإن قيل: وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد.
قلنا: لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه، وأما قوله: يقال أمرته بشرب الدواء فَعَصَاني، قلنا: لا نُسَلِّم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب، ولئن سلَّمنا ذلك لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا أجزموا عليه بالفعل. وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً، وإن لم يكن الوجوب حاصلاً، وذلك يدل على أنَّ لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم - عليه السلام - إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلَّم أن الآية تدل على صدور المعصية منه، لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر، وهذا قول عامة المعتزلة. وهذا أيضاً ضعيف، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم، وأن ظاهره يدل على أنه يستحق العقاب، وذلك لا يليق بالصغيرة، وأجاب أبو مسلم: بأنه عَصَى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في "غَوَى".
وهذا أيضاً بعيد، لأن مصالح الدنيا مباحة، من تركها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم ذم، ولا يقال:
{ { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف: 22].
وأما التمسك بقوله: "فَغَوَى" فأجابوا عنه من وجوه:
أحدها: أنه خابَ من نعيم الجنة، لأنه إنما أكل من الشجرة ليدومَ مُلْكه، فلما أكل زال، فلما خاب سَعْيه قيل: إنَّه غَوَى.
وتحقيقه أن الغَيَّ ضدُّ الرشد، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود، ومن توصل بشيء إلى شيء فحصل ضد مقصوده كان ذلك غياً.
وثانيها: قال بعضهم غَوَى أي: بَشَم من كثرة الأكل.
قال ابن الخطيب: والأولى عندي في هذا الباب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة. وهاهنا بحث لا بد منه، وهو أن ظاهر القرآن وإن دلَّ على أن آدم عصى وغوى، ولكن ليس لأحد أن يقول: إن آدم كان عاصياً غاوياً. ويدل على صحة هذا القول أمور:
أحدها: قال العُتبي: يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه، ولا يقال: هو خياط حتى يعاوده ويعتاده، ويصير معروفاً بالخياطة.
وهذه الزلة لم تصدر عن آدم إلا مرة واحدة، فوجب أن لا يجوز إطلاق الاسم عليه.
وثانيها: أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرَّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زانٍ فكذا هنا.
وثالثها: أن قولنا: عاصٍ وغاوٍ يُوهِمُ كونه عاصياً في أكثر الأشياء، (وغاوياً عن معرفة الله تعالى) ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عَصَى فيها، فكأنه قال: عصى في كيت وكيت، وذلك لا يوهم ما ذكرنا.
ورابعها: أنه يجوز من الله ما لا يجوز من غيره، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره.
قوله: { ثُمّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّه } أي: اختاره واصطفاه، "فَتَابَ عَلَيْه" بالعفو وهداه إلى التوبة حين قال:
{ { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23].
قال عليه السلام: لو جُمِع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاؤه أكثر ولو جمع ذلك إلى نوح لكان بكاؤه أكثر، وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه. ولو جمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته كان بكاؤه أكثر.
قال وهب: لمّا كثر بكاؤه أمره الله تعالى أن يقول: "لاَ إلَه إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ وبحمدِك عَملتُ سوءاً وظَلَمْتُ نفسي فاغفر لي فإنَّكَ خَيْرُ الغَافِرِينَ" فقالها آدم، ثم قال: قل "سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ عَمِلتُ سوءاً وظلَمْتُ نَفْسِي فتُبْ عليَّ إنَّكَ أنْتَ التَوَّابُ".
قال ابن عباس: هذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.