التفاسير

< >
عرض

وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٥٦
لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٥٧
-النور

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على
{ { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ (وَأَطِيعُواْ) ٱلرَّسُولَ } [النور: 54] وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل، وإن طال، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، قاله الزمخشري. قال شهاب الدين: وقوله: (لأن حقَّ المعطوف... إلى آخره) لا يظهر عِلَّةً للحكم الذي ادَّعاه.
والثاني: أَنَّ قوله: "وَأَقِيمُوا" من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسنه الخطاب في قوله قبل ذلك: "مِنْكُمْ" ثم قال: { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: افعلوها على رجاء الرحمة.
قوله: "لاَ تَحْسَبَّن". قرأ العامة: "لاَ تَحْسَبَّنَ" بتاء الخطاب، والفاعل ضمير المخاطب، أي: لا تحسبن أَيُّها المخاطب، ويمتنع أو يبعد جعله للرسول - عليه السلام - لأنَّ مثل هذا الحُسبان لا يُتصوَّرُ منه حتى يُنْهى عنهُ. وقرأ حمزة وابن عامر: "لاَ يَحْسَبَّن" بياء الغيبة، وهي قراءة حسنةٌ واضحةٌ، فإنَّ الفاعل فيها مضمرٌ، يعودُ على ما دلَّ السياق عليه، أي: "لاَ يَحْسَبَّن حاسِبٌ واحدٌ". وإما على الرسول لتقدُّمِ ذكره، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم، خلافاً لمن لَحَّنَ قارئ هذه القراءة كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء. قال النحاس: ما عَلِمْت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يُلَحِّنُ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحنٌ، لأنه لم يأت إلا مفعولُ واحدٌ لـ "يَحْسَبن". وقال الفراء: هو ضعيفٌ، وأجازه على حذف المفعول الثاني والتقدير: "لاَ يَحْسَبن الذين كفروا أنفسهم معجزين" قال شهاب الدين: وسبب تلحينهم هذه القراءة: أنهم اعتقدوا أنَّ "الَّذِينَ" فاعل، ولم يكن في اللفظ إلا مفعولٌ واحدٌ، وهو "مُعْجِزِينَ" فلذلك قالوا ما قالوا.
والجواب عن ذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الفاعل مضمر يعود على ما تقدم، أو على ما يفهم من السياق، كما سبق تحريره.
الثاني: أنَّ المفعول الأول محذوف تقديره: ولاَ يَحْسَبن الَّذِين كفروا أنفسهم معجزين، إلاّ أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين، ومنه قول عنترة:

3855- وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ

أي: تظني غيره واقعاً. ولما نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال: وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين. ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث. فقدّر المفعول الأول ضميراً متصلاً. قال أبو حيان: وقد رَدَدْنَا هذا التخريج في أواخر "آل عمران" في قوله: { { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } [آل عمران: 188] في قراءة من قرأ بالغيبة، وجعل الفاعل: "الَّذِين يَفْرَحُونَ"، وملخصه: أنَّ هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدها، فلا يتقدَّر "لاَ يَحْسَبَنَّهُمْ" إذ لا يجوز ظنَّهُ زيدٌ قائماً، على رفع (زيدٌ) بـ (ظنه). وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور.
الثالث: أن المفعولين هما قوله: { مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } قاله الكوفيون. ولما نحا إليه الزمخشري قال: والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ الله في الأرض يطمعوهم في مثل ذلك، وهذا معنى قويٌّ جَيِّدٌ. قال شهاب الدين: قيل: هو خطأ، لأنَّ الظاهر تعلق "فِي الأَرْض" بـ "مُعْجِزينَ" فجعلهُ مفعولاً ثانياً كالتهيئة للعمل والقطع عنه، وهو نظير: "ظَنَنْتُ قَائِماً فِي الدَّارِ".
قوله: "وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الجملة عطفٌ على الجملة التي قبلها من غير تأويل ولا إضمار، وهو مذهب سيبويه، أعني: عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها خبراً وطلباً وإنشاءً. وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب.
الثاني أنها معطوفة عليها، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية، والتقدير: الذين كفروا لا يَفُوتُونَ اللَّهَ ومأواهم النارُ. قاله الزمخشري، كأنه يرى تناسب الجمل شرطاً في (صحة) العطف، هذا ظاهر حاله.
الثالث: أنها معطوفة على جملة مقدرة.
قال الجرحاني: لا يحتمل أن يكون "وَمَأْوَاهُم" متصلاً بقوله: "لاَ يَحْسَبن" ذلك نهيٌ وهذا إيجابٌ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله، تقديره: "لاَ يَحْسَبن الَّذين كفروا مُعْجزين في الأرض بل هم مَقْهُورُونَ ومَأْوَاهُمُ النَّارُ".