التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١٥٦
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
١٥٧
وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ
١٥٨
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيِّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار، بقولهم: { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع، وعفا اللَّهُ بفضله عنهم، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ، فقال: لا تقولوا - لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد -: لو لم تخرجوا لما متم، وما قُتِلْتم، فإن الله هو المُحْيي والمميت، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد، وهو المراد بقوله: { وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ }.
وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد، لو لم يخرج إلى الجهاد، لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد - حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ - خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة، وهو المرادُ بقوله: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }.
واختلفوا في { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فقيل: هل هو كافر يقول هكذا.
وقيل: إنه مخصوصٌ بالمنافقين؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم.
وقيل: مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن سلول ومعتب بن قُشَير، وسائر أصحابهما.
قوله: { لإِخْوَانِهِمْ } قال الزمخشريُّ: "لأجل إخوانكم". وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل أن يكونَ المراد منه الأخوة في النسب، كقوله تعالى:
{ { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [الأعراف: 65] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فقال المنافقون هذا الكلام ويحتمل أن يكون المرادُ: الأخوة في الدين، فقال المنافقونَ هذا الكلام، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات.
قوله: { إِذَا ضَرَبُواْ } "إذا" ظرف مستقبل، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين - هنا - من حيثُ إن العامل فيها { قَالُواْ } - وهو ماضٍ - فقال الزمخشريُّ: "فإن قُلْتَ: كيف قيل: { إِذَا ضَرَبُواْ } مع "قالوا"؟ قلت: هو حكاية حال ماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض".
وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ: "ويجوز أن يكون { كَفَرُواْ } و { قَالُواْ } ماضيين، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير: يكفرون، ويقولون لإخوانهم". انتهى.
ففي كلا الوجهين حكاية حال، لكن في الأول حكاية حال ماضية، وفي الثاني مستقبلة، وهو - من هذه الحيثية - كقوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [البقرة: 214]. ويجوز أن يراد بها الاستقبال، لا على سبيل الحكاية، بل لوقوعه صلة لموصول، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي - إذا وقع صلة لموصول - صلح للاستقبال، كقوله: { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [المائدة: 34]. وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ، وقال: "دخلت "إذا" وهي حرفُ استقبالٍ - من حيثُ "الذين" اسم فيه إبهام، يعم مَنْ قال في الماضي، ومَنْ يقول في الاستقبال، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان" يعني: فتكون حكاية حالٍ مستقبلة.
قال ابن الخَطيبِ: "إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين:
إحداهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث، أو هو حادث، قال تعالى:
{ { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1] وقال: { { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [الزمر: 30] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى، فلما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، فصار بسبب ذلك الجد، هذا المستقبل كالواقع.
الثانية: أنه - تعالى - لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ".
وقدَّر أبو حيّان: مضافاً محذوفاً وهو عامل في "إذا" تقديره: وقالوا لهلاك إخوانهم، أي: مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا، أو غَزَوْا، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لـِ "أن" والمضارع، حتى يكون مستقبلاً، قال: لكن يكون الضمير في قوله: { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } عائداً على { لإِخْوَانِهِمْ } لفظاً، وعلى غيرهم معنى - أي: يعود على إخوان آخرين، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ، أو غزو، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين - وهو مثل قوله تعالى:
{ { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [فاطر: 11] وقول العربِ: عندي درهم ونِصْفُه.
وقول الشاعرِ: [البسيط]

1673- قَالَتْ: ألاَ لَيْتَما هَذَا الْحَمَامُ لَنَا إلَى حَمَامَتِنَا، أو نِصْفُهُ فَقَدِ

المعنى: من معمر آخر، ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخرَ.
وقال قُطربٌ: كلة "إذْ" و "إذا" يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى، فيكون "إذا" هنا بمعنى "إذْ".
قال بعضهم: وهذا ليس بشيء.
قال ابنُ الْخَطِيبِ: "أقول: هذا - الذي قاله قُطْرُبٌ - كلامٌ حسنٌ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ، فنقول عن قائل مجهول، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: "إذا" حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ، لما بينه وبين كلمة "إذْ" من المشابهة الشديدة، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به، وأنا شديدُ التعجُّب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ ذلك البيت المجهول دليلاً على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى".
قوله: { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } - بالتشديد - جمع غازٍ - كالرُّكَّع والسُّجَّد - جمع راكع وساجد - وقياسه: غُزَاة كرام ورُمَاة - ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح، في نحو ضارب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم.
وقال الزهريُّ والحسنُ "غُزًى" - بالتخفيف - وفيها وجهانِ:
الأول: أنه خفف الزاي، كراهية التثقيل في الجمع.
الثاني: أن أصله: غُزاة - كقُضاة ورُماة - ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأن نفس الصيغة دالَّةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها.
قال ابنُ عَطِيَّةَ: "وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم.
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي: [الطويل]

1674- أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ، وَانْتَحَى بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ

يريد: الأبُوَّة - جمع أب - كما أن العمومة جمع عم، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا: ابن، وبنو".
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير، وأن قوله: حذف التاء من عمومة، ليس كذلك، بل الأصل: عموم - من غير تاء - ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على "فعول" - من غير تاء - هو الأصل، نحو: عموم وفحول، وما جاء فيه التاء، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء، حتى يُدَّعَى حَذْفُها، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه؛ فإنه بني عليها، فيمكن ادعاء الحذف فيه، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن، بل مصدرين، وأما أبُوّ - في البيت - فهو شاذَّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه، فيقول: "أبَيّ" بقلب الواوين ياءين، نحو: عُصِيّ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً، وهو شاذ.
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير: غُزَاة كقُضاة، وغُزًى كصوَّم، وغُزَّاء كصُوَّام، وجمع رابع، وهو جمع سلامة، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول.
قال القرطبيُّ: "والمغزية: المرأة التي غزا زوجها، وأتانٌ مُغْزِية: متأخِّرةُ النِّتَاجِ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها، والغَزْو: قصد الشيء، والمَغْزَى: المَقْصِد، ويقال: - في النسب إلى الغزو: غَزَوِيّ".
قال الواحديُّ: "في الآية محذوف، يدل عليه الكلام، والتقدير: { إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ } فماتوا { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فقتلوا، { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فقوله: { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } يدل على قتلهم وموتهم".
فصل
المراد بالضَّرْبِ: السفر البعيد، وقوله: "غُزًّى" هم الغُزَاة الخارجون للجهاد، فكان المنافقونَ يقولون - إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو -: إنما ماتوا، أو قتلوا بسبب السفر والغزو، وقصدهم بذلك تنفير الناس.
فإن قيل: لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض - وهو داخل فيه؟
فالجوابُ: أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد، لا القريب، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض.
قوله: { لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ } في هذه اللام قولان:
قيل: إنها لام "كَيْ".
وقيل: إنها لام العاقبة والصيرورة، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ:
فقيل: التقدير: أوقع ذلك - أي: القول، أو المعتقد - ليجعله حَسْرَةً، أو ندمَهم، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي، وذلك على معنيين - باعتبار ما يراد باسم الإشارة.
أما الاعتبار الأول، فإنه قال: "يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله اللَّهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً، ويصون منها قلوبكم"، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال: "ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ، أي: لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللَّهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم".
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، فقال - بعد ما حكى عنه المعنى الأول -: "وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه، فلا تضربوا في الأرض ولا تغزو، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ".
قال شهاب الدين: ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟
وقال أبو حَيَّانَ - أيضاً -: "وقال ابنُ عِيسَى وغيره، اللامُ متعلِّقة بالكون، أي: لا تكونوا كهؤلاء، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم، ومنه أخذ الزمخشريُّ قوله، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بينَّا فساد هذا القولِ".
وقوله: وذاك لم ينص، بل قد نَصَّ، فإنه قال: فإن قُلْتَ: ما متعلق { لِيَجْعَلَ }؟ قلت: { َقَالُواْ } أو { لاَ تَكُونُواْ }. وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام - ومعناها التعليل - بـ { قَالُواْ } لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد.
وعلى القول الثاني - أعني: كونها للعاقبة تتعلق بـ { قَالُواْ } والمعنى: أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم، فكان عاقبة قولهم، ومصيره إلى الحسرة، والندامة، كقوله تعالى:
{ { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين، وإنما هو شيءٌ ينسبونه للأخفش، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام، نحو: { { فَبَشِّرْهُم } [آل عمران: 21] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في { { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] ومذهبه في تلك أنها للعلة - بالتأويل المذكور والجَعْلُ - هنا - بمعنى التَّصْييرِ.
فصل
اختلفوا في المشار إليه بـ "ذَلِكَ": فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا.
وقال الزمخشريُّ ما معناه: الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول.
وقريب منه قول ابن عطيةَ: "الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم".
وقال ابنُ عَطِيَّة - أيضاً -: "ويحتمل عندي - أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله".
وقيل: هو المصدر المفهوم من { قَالُواْ }، و { حَسْرَةً } مفعول ثانٍ، و { فِي قُلُوبِهِمْ } يجوز أن يتعلق بالجَعْل - وهو أبلغ - أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله.
فصل
ذكروا - في بيان كون ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم - وجوهاً:
الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر، او الغزو، لبقي، فذلك الشخص إنما مات، أو قُتِل بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه، أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك، فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللَّهِ وقضائه، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ألبتة.
الثاني: أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم، تثبطوا، وتخلَّفوا عن الجهاد، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة، والاستيلاء على الأعداء، والفوز بالأماني، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد، والحَسرة.
الثالث: أن هذه الحسرة، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب.
الرابع: أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين، ووجدوا منهم قبولاً لها، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم، ومكرهم على الضَّعَفَة، فالله - تعالى - يقول: إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل.
الخامس: أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم، فيقعون عند ذلك في الحسرة، والخيبة، وضيق الصدر، وهو المراد بقوله تعالى:
{ { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [الأنعام: 125].
السادس: أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء، لم يلتفتوا إليهم، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم، فتحصل الحسرةُ في قلوبهم.
قوله: { وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } فيه وجهان:
الأول: أن المقصودَ منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين، وتقريره: إن المحيي والمميت هو اللَّهُ تعالى، ولا تأثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ، وأن علمَ اللَّهِ لا يتغير، وأن حُكْمَه لا ينقلب، وأن قضاءه لا يتبدَّل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فإن قيل: أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللَّهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاءَ اللَّهِ يتبدَّل، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ. والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكليف، وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه.
فالجوابُ: أن حُسْنَ التكليف - عندنا - غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [مصلحة]، بل اللَّهُ يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريد.
الثاني: أن [المقصود] بقوله: { وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أنه يُحْيي قُلوبَ أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال.
قوله: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي "يعملون" بالغيبة؛ رَدَّا على { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } والباقون بالخطاب؛ ردَّا على قوله: و { لاَ تَكُونُواْ } وهو خطابٌ للمؤمنينَ.
فإن قيل: الصادر منهم كان قولاً مسموعاً، لا فعلاً مَرْئِيًّا، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع؟
فالجوابُ: قال الراغبُ: لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه، خص البصر بذلك، كقولك - لمن يقول شيئاً، وهو يقصد فعلاً يحاوله -: أنا أرى ما تفعله.
قوله: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } اللام هي الموطئة لقسم محذوف، وجوابه قوله: { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وحُذِفَ جوابُ الشرط؛ لسَدِّ جواب القسم مسده؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله: وهو ساد مسدَّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف.
قوله: { أَوْ مُتُّمْ } قرأ نافع وحمزة والكسائي "مِتُّمْ" - بكسر الميم - والباقون بضمها، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ - مثل: قَالَ يَقُولُ قُلْتُ، ومن كسر، فهو من مَاتَ يَماتُ مِتُّ، مثل: هَابَ يَهَابُ هِبْتُ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ. روى المبرِّدُ هذه اللغة.
قال شهابُ الدينِ: وهو الصحيحُ من قول أهل العربية، والأصل: مَوْتَ - بكسر العين - كخَوِفَ، فجاء مضارعه على يَفْعَل - بفتح العين -.
قال الشاعر: [الرجز]

1675- بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ عِيشي، وَلاَ نأمَنُ أنْ تَمَاتِي

فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل - بالفتح - فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء، أو إحدى أخواتها: مِتُّ -بالكسر ليس إلا- وهو أنا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها، دلالة على بنية الكلمة في الأصل، هذا أوْلَى من قول من يقول: إن مِتُّ - بالكسر - مأخوذة من لغة من يقول يموت - بالضم في المضارع - وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال، كالمازني وأبي علي الفارسي - ونقله بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً، وإذا ثبت ذلك لغةً، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه.
قوله: { لَمَغْفِرَةٌ } اللام لامُ الابتداءِ، وهي ما بعدها جواب القسم - كما تقدم - وفيها وجهان:
الأول - وهو الأظهر -: أنها مرفوعة بالابتداء، والمسوِّغات - هنا - كثيرة: لام الابتداء، والعطف عليها في قوله: { وَرَحْمَةٌ } ووصفها، فإن قوله { مِّنَ ٱللَّهِ } صفة لها، ويتعلق - حينئذٍ - و "خيرٌ" خبر عنها.
والثاني: أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل، أو الموت في سبيل الله؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير: فذلك، أي: الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير، ويكون "خيرٌ" صفة لا خبراً، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ؛ فإنه قال: وتحتمل الآية أن يكون قوله: { لَمَغْفِرَةٌ } إشارة إلى الموت، أو القتل في سبيل الله، فسمى ذلك مغفرة ورحمة؛ إذ هما مقترنان به، ويجيء التقديرُ: لذلك مغفرةٌ ورحمةٌ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله: "خير" صفة لا خبر ابتداء انتهى، والأول أظهر. و "خير" - هنا - على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
قال ابن الخطيبِ: "والأصوب - عندي - أن يقال: إن هذه اللام في "المغفرة" للتأكيد، فيكون المعنى: إن وجب أن تموتوا، أو تُقْتَلوا، في سفركم أو غزوكم، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة - أيضاً - فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ، ثُمَّ بتقدير أن يكون لازماً، فإنه يستعقب لزوم المغفرةِ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه"؟
قوله: { وَرَحْمَةٌ } أي: ورحمة من الله، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حذف آخر، مصحِّح للمعنى، وتقديره: لمغفرةٌ لكم من الله، ورحمة منه لكم.
فإن قيل: المغفرة هي الرحمة، فلِمَ كرَّرها، ونكَّرَها؟
فالجوابُ: أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها، وهو المراد بقوله: "مما تجمعون" ونظيره قوله تعالى:
{ { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة: 72] والتنكير قد يشعر بالتقليل، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة، فيرحم، ثم يغفر.
قوله: "مما يجمعون"ما" موصولة اسمية، والعائدُ محذوفٌ، ويجوز أن تكون مصدرية.
وعلى هذا فالمفعول به محذوف، أي: من جمعكم المال ونحو.
وقراءة الجماعة "تجمعون" - بالخطاب - جَرياً على قوله: "ولئن قتلتم" وحفص - بالغيبة - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل: ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقُدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ: ان الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله: { إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهَمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً.
فالجوابُ: أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
قوله: { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ } هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى: { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ } وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال: { وَرَحْمَةٌ } وهو إشارة إلى من عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله: { لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ } وهو إشارةٌ إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى -عليه السَّلامُ - مَرَّ بأقَوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال: ماذا تَطْلبُون؟ فقالوا: نخشى عذابَ اللَّهِ، فقال: هو أكرمُ من لا يخلصكم من عذابه. ثم مرَّ بأقوام آخرينَ، فرأى عليهم تلك الآثار، فسألهم، مَاذَا تَطْلُبُونَ؟ فقالوا: نطلب الجنَّةَ والرَّحْمَةَ، فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مرَّ بقوم، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم: فقالوا: نعبده لأنه إلهُنَا، ونحن عبيدُهُ، لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصونَ، والمتعبدون المحقون.
قوله: { لإِلَى ٱلله } اللام جواب القسم، فهي داخلة على { تُحْشَرُونَ } و { وَإِلَى ٱللَّهِ } متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم، أو للاهتمام به، وحسًّنه كونُه فاصلة، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [بالنون]، مع اللام، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما.
كقول الشاعر: [الكامل]

1676- وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ................................

فجاء بالنون دون اللام.
وقول الآخر: [الطويل]

1677- لَئِنْ يكَ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ

فجاء باللام دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورة.
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول - كهذه الآية - أو بقَدْ، نحو: والله لقد أقومُ.
وقوله: [الطويل]

1678- كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ...............................

أو بحرف التنفيس، كقوله تعالى: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5] فلا يجوز توكيده - حينئذ - بالنون، قال الفارسيُّ: "الأصل دخولُ النُّونِ، فَرْقاً بين لام اليمينِ، ولام الابتداءِ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على "سوف" حصل الفرق - أَيضاً - فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أما مستقبلاً فلا".
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله - مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ - وإنما لم يصرح به، تعظيماً.