التفاسير

< >
عرض

هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٦٣
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

{ هُمْ دَرَجَاتٌ } مبتدأ وخبر، ولا بد من تأويل [بالإخبار] بالدرجات عن "هم" لأنها ليست إياهم، فيجوز أن يكون جُعلُوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً، والمعنى: أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه، أي: هم مثل الدرجات في التفاوت.
ومنه قوله: [الوافر]

1686- أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ

ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف، أي: هم ذوو درجات، أي: أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل: لهم درجاتٌ - فحُذِفت اللامُ - وعلى هذا يكون "درجات" مبتدأ، وما قبلها الخبرُ، وردَّه بعضهم، وقال: هذا من جهله وجهل متبوعيه - من المفسرين - بلسان العرب، وقَالَ: لا مساغ لحذف اللام ألبتة؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها، وهنا المعنى واضحٌ، مستقيم من غير تقدير حَذْف.
قال شهابُ الدينِ: "وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ، والمخطئ معذورٌ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء - رضي الله عنهم - يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي".
وقرأ النخعي "هم درجة" بالإفراد على الجنس.
قوله: { عِندَ ٱللَّهِ } فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ "درجات" على المعنى؛ لما تضمنت من معنى الفعل، كأنه قيل: هم متفاضلون عند الله.
ثانيهما: أن يتعلق بمحذوف صفة لـ "درجات" فيكون في محل رفع.
فصل
"هم" عائد إلى لفظ "من" في قوله:
{ { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } [آل عمران:162] ولفظ "من" معناه الجمع. ونظيره قوله تعالى: { { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } [السجدة: 18]. ثم قال: "لا يستوون" بصيغة الجمع، وهو عائد إلى "من".
واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره، والذي تقدّم ذكره نوعان: من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخطٍ من الله - يُحتمل أن يعودَ إلى الأول، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني، ويحتمل أن يعودَ إليهما، فإن عاد إلى الأول صَحَّ - ويكون التقديرُ: إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم - لوجوه:
الأول: أن الغالب - في العُرْف - استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقابِ.
الثاني: أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى:
{ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه - حيث قال: "عند الله" - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى: { { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 21].
الثالث: أنه - تعالى - وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله - وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ - فوجب أن يكون قوله: "هم درجات" وصفاً لمَن اتبع رضوان الله.
وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب، وهو قول الحسن، قال: إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب، كقوله:
{ { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [الأحقاف: 19] وقال صلى الله عليه وسلم "إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ" .
وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذلك درجات أهل العقاب، قال تعالى: { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7، 8]. وقوله: "عَنْدَ اللهِ" أي: في حكم الله وعلمه، كما يقال: هذه المسألة عند الشافعيّ كذا، وعند أبي حنيفة كذا. ثم قال: { وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل.
فصل
ذكر محمدُ بن إسحاق - في تأويل قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [آل عمران: 161] - وجهاً آخر، فقال: أي: ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم، رغبةً أو رهبةً، ثم قال: { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } يعني: رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله، ورضوان الخَلْق على رضوان الله؟
ووجه النَّظم - على هذا التقدير - أنه تعالى لما قال:
{ { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } [آل عمران: 159] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ، فكيف يُمكنُ التسويةُ بين مَن اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ؟
قال ابنُ الخَطِيبِ: "وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة، فهو عُرْفٌ حادِثٌ".