التفاسير

< >
عرض

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

لما بَيَّنَ - تعالى - أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، بيَّن - هنا - أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم، ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ.
فإن قيلَ: أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم - والفرحُ عينُ الاستبشارِ - فلزم التكرارُ؟ فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ، فلا يلزم التكرارُ.
الثاني: لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصل لهم في الآخرةِ.
فإن قيلَ: ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ؟
فالجواب: أن النعمةَ هي الثواب، والفَضْل: هو التفضُّل الزائد.
وقيل: النعمة: المغفرة، والفَضْل: الثواب الزائد.
وقيل: للتأكيد.
روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيأمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ، الْيَاقُوَتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويُزَوَّج اثنينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه" قال: هذا حديثٌ حَسَنٌ، صحيحٌ، غريبٌ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ، وهي في العدد سبعةٌ.
فصل
وهذه الآية تدلُّ على أنّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ - بصلاحِ حالِ إخوانِهِ - أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ، لأنهُ - تعالى - مدَحَهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحوا بإخوانهم، ثم ذكر - بعده - استبشارهم بأنفسهم، فقال: { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ }.
قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ } قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ "أن" على الاستئنافِ.
وقال الزمخشري: إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ.
واستشكلَ كونها اعتراضاً؛ لأنها لم تقع بين شيئين متلازمين.
ويمكن أن يُجاب عنه بأن "الذين استجابوا" يجوز أن يكون تابعاً لـ "الذين لم يلحقوا" - نعتاً، أو بدلاً، على ما سيأتي - فعلى هذا لا يتصور الاعتراض.
ويؤيدُ كونها للاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه: والله لا يضيع، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ؛ عَطْفاً على قوله: "بنعمة" لأنها بتأويل مصدر، أي: يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين.
فإن قيل: لم قال: "يستبشرون" من غير عطف؟
فالجوابُ فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم، دون { الذين لم يلحقوا بهم } لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين.
الثاني: أنه تأكيدٌ للأولِ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيانَ مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري.
الثالثُ: انه بدلٌ من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً: أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال: بدل منه، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد.
الرابعُ: أنه حال من فاعل "يحزنون" و "يحزنون" عاملٌ فيه، أي: ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ، لوجهين:
أحدهما: أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ.
الثاني: أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة، والحال قَيْدٌ فيه، فيفوت هذا المعنى.
فصل
والمقصودُ - من هذا الكلام - أن إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه، ولا يُضيعه.
قوله: "الذين استجابوا" فيه ستة أوْجُهٍ:
أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
وقال مَكيٌّ: ابتداء وخبره "من بعدما أصابهم القرح" وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة، بل "من بعد" متعلقٌ بـ "استجابوا".
الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر، أي: هم الذين.
الثالث: أنه منصوب بإضمار "أعني" وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك: القطع.
الرابع: أنه بدل من "المؤمنين".
الخامس: أنه بدلٌ من { الذين لم يلحقوا } قَالَه مَكّيٌّ.
السادسُ: أنه نعتٌ لـ "المؤمنين" ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ، وهو أن يكون نعتاً لقوله: { الذين لم يلحقوا } قياساً على جَعْلهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ.
و "ما" في قوله: { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ } مصدرية، و "الذين أحسنوا" خَبَرٌ مقدَّمٌ، و "منهم" فِيْهِ وَجْهَان:
أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في "أحسنوا" وعلى هذا فـ "من" تكون تبعيضية.
الثاني: أنها لبيان الجنسِ.
قال الزمخشري: "مثلها في قوله تعالى:
{ { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [الفتح: 29] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم". و "أجر" مبتدأ مؤخَّر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره، إما مُستأنفة، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب "الذين استجابوا" مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره.
والمرادُ: أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات.
فصل في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -:
"أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا، وقالوا: لا محمداً قَتَلْتُمْ، ولا الكواعبَ أردفتم، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ، وقال: لا أريد أن يخرجَ الآن معي إلا من كان معي في القتالِ، فانتدبَ عصابةً منهم - مع ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد - ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع، وقال: يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ، ولسْتُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن. فأذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ مَعَهُ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهِباً للعدو، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم، فيظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم، فينصرفوا. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِينَ رَجُلاً، منهم أبو بكرٍ وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وطلحةُ، والزبيرُ، وسعدٌ، وسعيدٌ، وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وحذيفةُ بنُ اليَمانِ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح، حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال" - روي عن عائشةً أنَّها قالتْ- لعبدِ الله بن الزُّبَيْر: ابنَ أختي، أما - والله - إن أباك وجَدَّك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله - عز وجل - فيهم: { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ }.
"وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم مَعْبَدٌ الخُزاعِيُّ بحمراء الأسدِ، وكانت خزاعةُ - مسلمهم وكافرهم - عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صَفْقَتهُمْ معه، لا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها، ومعبد - يومئذ - مشرك، فقال: يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم.
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لقي أبا سفيان ومَنْ معه - بالروحاء - قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم، لنكرَّنَّ على بقيتهم، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبدُ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط، يتحرقون عليكم تحرُّقاً، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط، قال ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصيَ الخيل. قال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً: [البسيط]"

1690- كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ

"وذكر أبياتاً. ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه. ومَرَّ به رَكْبٌ من بني عبد القيسِ، فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينةَ قالوا: ولِمَ؟ قالوا: نريد المِيرَة، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً بـ عكاظ غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا: نَعَمْ، قال فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ. ومرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـ حمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: حَسْبُنَا الله وَنْعِمَ الوكيلْ، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة." هذا قولُ أكثرِ المفسّرين.
الثاني:
"قال الأصمُّ: نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ، لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ، فانهزموا، وصلى عليهم صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: رُدَّها؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها، فقالت: قد بلغني ما فُعِلَ به، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر: فَدَعْها، لتنظرَ إليه، فقالت خيراً، واستغفرت له. وجاءت امرأة - قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها - فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حَيٌّ قالت: كل مصيبةٍ بعدك هدر."