التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٧٨
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

قرأ الجمهور "يحسبن" بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا "أنما" ونصبوا "خير" وأنكرها ابن مجاهدٍ - وسيأتي إيضاح ذلك - وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر "إنما". وحكى عنه الزمخشري - أيضاً - أنه قرأ بكسر "أنما" الأولى وفتح الثانية مع الغيبة، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ.
فأما قراءة الجمهور، فتخريجها واضح، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى "الذين" و "أن" وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين - عند سيبويه - أو مسدَّ أحدهما، والآخر محذوف - عند الأخفش - ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب، يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحسبن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا أن يكون "الذين كفروا" مفعولاً أول، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، لتتحد هذه القراءة - على هذا الوجه - مع قراءة حمزةرحمه الله ، وسيأتي تخريجها.
و "ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية، فيكون العائد محذوفاً، لاستكمال الشروط، أي: الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية - أي: إملاءنا - وهي اسم "إن" و "خير" خبرها.
قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن تكون كافةً، وزائدة؛ إذ لو كان كذلك لانتصب "خير" بـ "نملي" واحتاجت "أن" إلى خبر، إذا كانت "ما" زائدة، أو قدر الفعل يليها، وكلاهما ممتنع" انتهى. وهي من الواضحات. وكتبوا "أنما" - في الموضعين - متصلة، وكان من حق الأولى الفصل؛ لأنها موصولة.
وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم، حتى أنه نُقل عن أبي حاتم أنها لحن.
قال النحاس: وتابَعَهُ على ذلك [جماعة] وهذا لا يُلتفت إليه، لتواترها، وفي تخريجها ستة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون فاعل "تحسبن" ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و "الذين كفروا" مفعول أول، و { أنما نملي لهم خير } مفعول ثان، ولا بُدَّ - على هذا التخريج - من حَذْفِ مضافٍ، إما من الأول، تقديره: ولا تحسبن شأنَ الذين، وإما من الثَّاني، تقديره: أصحاب أن إملاءنا خير لهم.
وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل؛ لأن "أنما نملي" بتأويل مصدر، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على "الذين كفروا" والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى.
الثاني: أن يكون "أنما نملي لهم" بدلاً من "الذين كفروا". وإلى هذا ذهب الكسائي، والفرّاء، وتبعهما جماعة، منهم الزَّجَّاج والزمخشري، وابنُ الباذش، قال الكسائيُّ والفرّاء: وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد، والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي. قال الفرّاءُ: ومثله:
{ { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ } [الزخرف: 66] أي: ما ينظرون إلا أن تأتيهم. انتهى.
ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرّاءِ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني - في هذه الأفعالِ - لا يجوز عند أحد. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ - وقد تقدم تحقيق ذلك.
وقال ابنُ الباذش: ويكون المفعول الثاني قد حُذِف؛ لدلالة الكلامِ عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملائنا لهم ثابتة، أو واقعة.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف صح مَجِيءُ البدلِ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ؟
قلتُ: صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى، ألا تراك تقول: جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ، مع امتناع سكوتك على: متاعك.
وهذا البدلُ بدلُ اشتمالٍ - وهو الظاهرُ - أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ، ويكون على حَذْف مضافٍ، تقديره: ولا تحسبن إملاء الذين، فحذف "إملاء" وأبدل منه: "أنما نملي" قولان مشهوران.
الثالثُ - وهو أغربها -: أن يكون "الذين كفروا" فاعلاً بـ "تحسبن" على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث، كقوله:
{ { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الشعراء: 105] أي: ولا تحسبن القوم الذين كفروا، و "الذين" وَصْف للقوم، كقوله تعالى: { { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ } [الأعراف: 137]. فعلى هذا تتحد هذه القراءة مع قراءة الغيبة، وتخريجها كتخريجها، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى بـ "اللُّباب". وفيه نظر؛ من حيث إن "الذين" جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله - عند البصريين - لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأما اعتذاره عن ذلك بأن "الذين" صفة للقوم - الجائز تأنيث فِعلهم - وإنما حذف، فلا ينفعه؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر، لا يجيز أحدٌ من البصريين: قامت المسلمون - على إرادة: القوم المسلمون - ألبتة.
وقال أبو الحسن الحوفيُّ: "أن" وما عملت فيه من موضع نصب على البدل، و "الذين" المفعول الأول، والثاني محذوف.
وهو معنى قول الزمخشريِّ المتقدم.
الرابع: أن يكون: { أنما نملي لهم } بدلاً من: "الذين كفروا" بدل اشتمال - أي: إملاءنا - و "خير" بالرفع - خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خير لأنفسهم، والجملة هي المفعول الثاني، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم، ثم وقال: قُلْتُ: ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ.

1696- فِينَا الأنَاةُ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا أَنَّا بِطَاءٌ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ

كذا جاءت الرواية بفتح "أنا" بعد ذكر المفعول الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: حسبت زيداً أنه قائم، أي: حسبته ذا قيام.
فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد، وهو المفعول الثاني لـ "حسبت" انتهى.
وفيما قاله نظرٌ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر "إن" إذا وقعت مفعولاً ثانياً، والأول اسم عين، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر، فيلزم منه الاخبار بالمعنى عن العين.
الخامس: أن يكون "الذين كفروا" مفعولاً أول، و { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } في موضع المفعول الثاني، و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي "تحسبن" ففي الكلام تقديم وتأخير، نُقِل ذلك عن الأخفشِ.
قال أبو حاتم: وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح "أن" - يحتج به لأهل القَدَر؛ لأنه كان منهم - ويجعله على التقديم والتأخير، [أي]: ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نُمْلي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم. انتهى.
وإنما جاز أن تكون "أن" المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك، وغيره يمنع ذلك، فإن تقدم خبرها عليها - نحو: ظني أنك منطلق، أو "أما" التفصيلية، نحو أما أنك منطلق فعندي، جاز ذلك إجماعاً. وقول أبي حاتم: يذكر فتح "أن" يعني بها التي في قوله: { أنما نملي لهم خير }. ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم، لأنه يجب - عندهم - رعاية الأصلح.
السادس: قال المهدويّ: وقال قوم: قدم "الذين كفروا" توكيداً، ثم حالهم، من قوله: { أنما نملي لهم } رداً عليهم، والتقديرُ: ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم.
وأما قراءة يحيى - بكسر "إنَّما" مع الغيبة - فلا تخلو إما أن يُجْعَل الفعلُ مسنداً إلى "الذين" أو إلى ضميرٍ غائبٍ، فإن كانت الأولى كانت "أنما" وما في حيِّزها معلقة لـ "تحسبن" وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً، فهي مقدرة، فيكون "إنّما" - بالكسر - في موضع نَصْبٍ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين - بتقدير لام الابتداء - في قوله [البسيط]:

1697- كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ

فلولا تقدير اللام لوجب نصب "ملاك" و "الأدب". وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح "إنما".
ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف - وهو ضمير الأمرِ والشأنِ - وقد قيل بذلك في البيت، وهو الأحسنُ فيه.
والأصلُ: لا تحسبنه - أي الأمر - و { إنما نملي لهم } في موضع المفعول الثاني، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان "الذين" مفعولاً أول، و "أنما نملي" في موضع المفعول الثاني.
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ، فقد خرَّجَها هو، فقال: على معنى: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم - كما يفعلون - وإنما هو ليتوبوا، ويدخلوا في الإيمان، وقوله: { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه، وعرفوا إنعام الله عليهم، بتفسيح المُدَّةِ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة. انتهى.
فعلى هذا يكون "الذين" فاعلاً، و "أنما" - المفتوحة - سادة مسد المفعولين، أحدهما - على الخلاف - واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النَّحَّاسُ: قراءة يحيى بن وَثَّابٍ - بكسر "إن" فيهما جميعاً - حسنة، كما تقول: حسبت عمراً أبوه خارجٌ.
وأما ما حكاه الزّجّاج - قراءةً - عن خلق كثير، وهو نصب "خير" على الظاهر من كلامه، فقد ذكر تخريجها، على أن { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من "الذين كفروا" و "خيراً" مفعول ثانٍ، ولا بد من إيراد نَصِّهِ، قال -رحمه الله -: مَنْ قرأ: "ولا يحسبن" بالياء، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر "إن" والمعنى: لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، ودخلت "إن" مؤكِّدةً، فإذا فتحت صار المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، قال: وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من "الذين" والمعنى: ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأ بها خلقٌ كثير، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر: [الطويل]

1698- فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا

جعل "هلكه" بدلاً من "قيس" والمعنى: فما كان هلك قيس هلك واحدٍ، 1هـ.
يعني: "هلك" - الأول - بدل من المرفوع، فبقي "هلك واحد" منصوباً، خبراً لـ "ما كان" كذلك: { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } "أن" واسمها - وهي "ما" الموصولة - وصلتها، والخبر - وهو "لَهُم" في محل نصب، بدلاً من "الَّذِينَ كَفَرُوا" فبقي "خَيْراً" منصوباً على أنه مفعول ثانٍ لـ "تَحْسَبَنَّ". إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بأن هذه القراءة لم يقرأ بها أحد - أعني نصب "خَيْراً" - قال أبو علي الفارسي: لا يصح البدل، إلا بنصب "خَيْرٌ" من حيثُ كان المفعول الثاني لـ "حسبت" فكما انتصب "هلكَ واحدٍ" في البيت - لما أبدل الأول من "قيس" - بأنه خبر لـ "كان" كذلك ينتصب "خَيْرٌ لَهُمْ" إذا أُبْدِل الاملاء من "الَّذِينَ كَفَرُوا" بأنه مفعول ثانٍ لـ "تَحْسَبَنَّ". قال: وسألت أحمد بن مُوسَى عنها، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني بـ "أحمد" هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور، وقال - في الحجة -: "الَّذِينَ كَفَرُوا" في موضع نصب؛ بأنها المفعول الأول، والمفعول الثاني هو الأول - في هذا الباب - في المعنى، فلا يجوزُ - إذَنْ - فتح "إن" في قوله: { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } لأن إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قُلْتَ: لِمَ لا يجوز الفتح في"أن" وجعلها بدلاً من "الَّذِينَ كَفَرُوا" كقوله تعالى:
{ { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف: 63] وكما كان "أن" من قوله تعالى: { { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [الأنفال: 7]؟
قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنك إذا أبدلت "أن" من "الذين كفروا" كما أبدلت "أنَّ" من "إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ" لزمك أن تنصب "خَيْراً" على تقدير: لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم، من حيثُ كان المفعولُ لـ "تَحْسَبَنَّ".
وقيل: إنه لم ينصبه أحد، فإذا لم يُنْصَب عُلِمَ أن البدل فيه لا يصح، فإذا لم يَصِح البدلُ، لم يجز فيه إلا كسر "إن" على أن تكون "إن" وخبرها في موضع المفعول الثاني من "تَحْسَبَنَّ".
انتهى ما رد به عليه، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد.
قال شهابُ الدين: "ولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ، ويقول: قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه، والإثبات مقدم على النفي، وما ذكره أبو علي - من قوله: وإذا لم يجز إلا كسر "إن".... الخ - هذا - أيضاً مما لم يقرأ به أحد".
قال مَكِّي: "وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر "إنَّما" فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني، ولم يقرأ به أحدٌ علمته". وقد نقل أبو البقاء أن نصب "خَيْراً" قراءة شاذة قال: وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب، على أن يكون "لأَنْفُسِهِمْ" خبر "أن" و "لَهُمْ" تبيين، أو حال من "خَيْر".
يعني: أنه لما جعل "لأَنْفُسِهِم" الخبر، جعل "لَهُم" إما تبييناً، تقديره: أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصل صفة لها. والظاهر - على هذه القراءة - ما تقدم من كون "لَهُمْ" هو الخبر، ويكون "لأَنْفُسِهِمْ" في محل نصب؛ صفة لـ "خَيْرٌ" - كما كان صفة له في قراءة الجمهور.
ونقل - أيضاً - قراءة كسر "أن" وهي قراءة يحيى، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ، ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى؛ لأن الأصل عدم الحذفِ.
والإملاء: الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر - للمدة الطويلة - قال الواحدي واشتقاقه من الملْوة - وهي المدة من الزمان - يقال: مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد.
قال الأصمعيُّ: يقال أملى عليه الزمان - أي: طال - وأملى له - أي: طوَّل له وأمهله - قال أبو عبيدة: ومنه: الملا - للأرض الواسعة - والمَلَوَان: الليل والنهار، وقولهم: مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي: مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً -.
وقيل: المَلَوَانِ: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ: [الطويل]

1699- نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ

فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيفا إليهما؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه. فقوله: { أنما نملي لهم } أصل الياء واوٌ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة.
قوله: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها، إلا أن أبا حيّان قال: إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط، قال: وإنما الزمخشريُّ - لولوعه بنْصرة مذهبه - يروم رد كل شيء إليه.
قل شهابُ الدِّينِ: وهذا تحامُلٌ عليه؛ لأنه ثقةٌ، لا ينقل ما لم يُرْوَ. وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان:
الأول: أنها جملة مستأنفة، تعليلٌ للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً؟ فقيل: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } و "إنّ" - هنا مكفوفة بـ "ما" ولذلك كُتِبَتْ متصلة - على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة - اسمية ولا حرفية - لأن لام "كي" لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه.
الثاني: أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى.
قال أبو البقاء: وقيل: { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } تكريرٌ لَهُمْ" تكريرٌ للأول، و "لِيَزْدَادوا" هو المفعول الثاني لـ "تَحْسَبَنَّ" على قراءة التاء، والتقدير: ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً، بل ليزدادوا إثماً. ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك.
قال شِهَابُ الدينِ: وفي هذا نظر، من حيث إنه جعل "لِيَزْدَادوا" هو المفعول الثاني، وقد تقدم أن لام "كي" لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ "تَحْسَبَنَّ" - بتاء الخطاب - لا يفتحها ألبتة.
واللام في "ليزدادوا" فيها وجهان:
أحدهما: أنها لام "كي".
والثاني: أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ.
قوله: { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } في هذه الواو قولان:
أحدهما: أنها للعطف.
والثاني: أنها للحالِ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط؛ فإنه قال: فإن قلت: ما معنى القراءة - يعني: قراءة يحيى التي نقلها هو عنه؟
قلتُ: معناه: ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ.
قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم -: ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللَّهُ لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي [لزيادة] الخير، كان قوله: { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يدفع هذا التفسير، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة، وبين ظاهر آخر الآية.
فصل
أصل "ليزدادوا": ليزتادوا - بالتاء - لأنه افتعال من الزيادة، ولكن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد ثلاثة أحرفٍ - الزاي، والذال، والدال - نحو ادكروا والفعل هنا - متعدٍّ لواحدٍ، وكان - في الأصل - متعدياً لاثنين، - كقوله تعالى:
{ { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10] ولكنه بالافتعالِ ينقص أبداً مفعولاً، فإن كان الفعلُ - قبل بنائه على "افتعل" للمطاوعة - مُتَعدياً لواحدٍ، صار قاصراً بعد المطاوعةِ، نحو مددتُ الحبلَ فامتدَّ، وإن كان متعدياً لاثنين صار - بعد الافتعال - متعدياً لواحدٍ، كهذه الآية.
وخُتِمَتْ كل واحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاؤه { عَذَابٌ عَظِيمٌ } مقابلاً لهم، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه. وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه، فإذا خسر تألَّم، فخُتِمَت هذه الآيةُ بألم العذابِ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته.
وأما الثالثة فتضمنت الإملاء - وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا - وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم.
فصل
قال ابنُ الخطيبِ: احتج أصحابُنا - بهذه الآية - في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة - والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى - والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ.
ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً، فدل على أنّ المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّده بقوله: { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.
وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان، والإتيان بخلاف خبر الله - مع بقاء ذلك الخبر - جمع بين النقيضين، وهو محالٌ. وإذا لم يكونوا قادرين - مع ذلك الإملاء - على الخير والطاعة - مع أنهم مكلَّفُون بذلك - لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة.
وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ: ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً.
وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة - كقوله: { { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] - أو يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم. أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً - بإمهاله - أشبه حال مَنْ فعل الإملاء لهذا الغرضِ. أو تقول: اللام - هنا - ليست للتعليل بالإجماع، أما على مذهب أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّل بغرض الإحسانِ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه.
وقول القائلِ: ما المرادُ بهذه الآية؟ لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن المستدلَّ نَفَى الاستدلال على أن اللام للتعليلِ، فإذا بَطَلَ ذلك سقط استدلالُهُ.
وعن الثالث، وهو مسألةُ العلمِ والخبر، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار، وهو باطلٌ.
والجوابُ عن الأول أنَّ المنفيَّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلةِ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يُذْكِر مُقابِلُه، فلما يُذْكَر دلَّ على المنفيَّ هو الخيرُ مطلقاً. وتمسُّكهم بقوله تعالى:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] وقوله: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ } [النساء: 64] جوابه: أن ما تمسَّكوا به عام، ودليلنا خاصّ. وقولهم: اللام للعاقبة، قلنا: خلاف الظاهر - مع أن البرهان العقليّ يُبْطله؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصولُهُ؛ لأن حصولَ معلومِهِ واجبٌ، وعدم حصوله مُحَالٌ، وإرادة المحالِ مُحَالٌ فوجب أن يرد ما هو الواقع، فثبت أن المقصود هو التعليلُ. وأما التقديمُ والتأخيرُ، فجوابُهُ: أن ذلك على خلاف الأصل؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت "أَنَّمَا" الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم: لا يمكن حَمْل اللام على التعليل، قلنا: الممتنع - عندنا - تعليل أفعاله - تعالى - بغرض يصدر عن العباد، فأما أنه يفعل فعلاً ليحصل منه شيءٌ آخرَ، فغير ممتنع.
وأيضاً فالآيةُ نصٌّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم، والقوم لا يقولونَ به، فهي حجةٌ عليهم، وأما المعارضة فجوابها: أن تأثيرَ قدرة اللَّهِ تَعَالَى - في إيجاد المُحْدِثَات - متقدمٌ على تعلُّق علمه بعدمه، فلم يكن أن يكون العلم مانعاً من القدرة، وأما العبدُ فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلُّق علم الله تعالى بعدمه، فصحَّ كَوْنُ هذا العلمِ مانعاً للعبدِ عن الفعل.
قال ابن الخطيبِ: اتفق أصحابُنا، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمةٌ دينيةٌ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآيةِ، وقالوا: دلت على إطالة عُمْره ليست بخير له، والعقل يُقَرِّره لك؛ لأن من أطعم إنساناً طعاماً مسموماً لا يعد ذلك إنعاماً، فإذا كان القصدُ من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة، ومما ورد من النعم في حقِّ الكافرِ محمولٌ على ما هو نعمةٌ في الظَّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة.