التفاسير

< >
عرض

فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

{ فَإنْ حَآجُّوكَ } أي: خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة، والمغالطات، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام، ونحن عليه، فقال الله تعالى - { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي: انقدت لله وحده، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان.
وقال الفرّاءُ: معناه: أخلصت عملي لله.
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه:
أحدها: أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن، ودعاء الشجرة، وكلام الذئب، وغيرها مما يدل على صحة دينه، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }، وأجاب عن شبه القوم بأسرها، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله:
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18]، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها، قال بعده: { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ } وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة، ولم يرجع إليه، فقد يقول - في آخر الأمر -: أما أنا فمنقادٌ للحق، فإن وافقتم، واتبعتم الحق الذي أنا عليه، فقد اهتديتم، وإن اعترضتم، فالله بالمرصاد.
ثانيها: أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه - عليه السلام - قال لهم: هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات، ونظيره قوله:
{ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [أل عمران: 64].
وثالثها: قال أبو مسلم: هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام -، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع، فأمر الله تعالى - محمداً - صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته، بقوله تعالى:
{ { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [النحل: 123]، ثم أمر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال: { { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 79] فقل يا محمد: "أسْلَمْتُ وَجْهِيَ" كقول إبراهيم: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ"، أي: أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخلصت له، كأنه قال: فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات.
فصل
فَتَحَ الياءَ من "وَجْهِيَ" - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون.
قوله: { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } في محل "مَنْ" وجوه:
أحدها: الرفع؛ عطفاً على التاء في "أسْلَمْتُ"، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية.
قال أبو حيان: "ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو: "أكلت رغيفاً وزيدٌ" لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه، بل المعنى على أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول "أسْلَمْتُ" والتقدير: ومن اتبعني وجهه، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله]، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: عمرو كذلك، أي: قضى نحبه".
قال شهابُ الدينِ: "إنما صحت المشاركة في نحو: أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة".
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف - كما تقدم.
الثالث: أنه منصوب على المعية، والواو بمعنى "مع" أي: أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ.
وقال أبو حيّان: "ومن الجهة التي امتنع عطف "مَنْ" على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون "مَنْ" منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ: أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ "مع" ألبتة".
قال شهابُ الدينِ: "فهم المعنى، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ، وأي مانع من أن المعنى: فقل: أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية".
الرابع: أن محل "مَنْ" الخفض، نسقاً على اسم "الله"، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى: جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له.
وقد أثبت الياءَ في "مَنِ اتَّبَعَنِي" نافع، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية، نحو
{ { أَكْرَمَنِ } [الفجر: 15] و { { أَهَانَنِ } [الفجر: 16] وعليه قول الأعشى: [المتقارب]

1374- وَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتيادِي الْبِلاَ دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ

وقول الأعشى - أيضاً -: [المتقارب]

1375- وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ

قال بعضهم: حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها.
قوله: { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } يعني اليهود والنصارى، والمراد بالأميِّيِّين: مشركو العرب، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر.
قوله: { أَأَسْلَمْتُمْ } صورته استفهام، ومعناه الأمر، أي: أسلموا، كقوله تعالى:
{ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91].
قال الزمخشري: "يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته -: هل فهمتها، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عز وجل - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي الاستفهام استقصار، وتعبير بالمعاندة، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق".
وقال الزّجّاج: "أأسْلَمْتُم" تهديد.
قال القرطبيُّ: "وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى: أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟".
قوله: { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } دخلت "قد" على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل، وكأنه قد قَرُب من الوقوع.
رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسْلَمْنَا، فقال لليهود: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا: معاذَ اللهِ، وقال للنَّصَارَى: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً، فقال الله عز وجل-: { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ }، أي: تبليغ الرسالة، وليس عليك الهداية.
والبلاغ: مصدر "بَلَغَ" - بتخفيف عين الفعل -.
قيل: إنها نُسِخَت بالجهاد. { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، وهذا يفيد الوعد والوعيد.