التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣١
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ
٣٢
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

قرأ العامة "تُحِبُّونَ" - بضم حرف المضارعة، من "أحَبَّ" وكذلك { يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ }.
وقرأ أبو رجاء العُطَارِديّ "تَحِبُّون، يَحْبِبْكم" بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ.
وحكى أبو زيد: حَبَبْتُهُ، أحِبُّه.
وأنشد:

1410- فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ

ونقل الزمخشريُّ: قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً، أو وقْفاً جاز فيه لغتان: الفك والإدغام. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة.
والحُبّ: الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع: حِباب وحِبَبَة، حكاه الجوهريُّ.
وقرأ الجمهور "فَاتَّبِعُونِي" بتخفيف النون، وهي للوقاية.
وقرأ الزُّهري بتشديدها، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير؛ لالتقاء الساكنين، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله: { أَتُحَاجُّوۤنِّي } وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.
وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من "يغفر" في لام "لكم".
وقال: هو خطأ وغلط على أبي عمرو. وقد تقدم تحقيقه، وأنه لا خطأ ولا غلط، بل هو لغة للعرب، نقلها الناس، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج.
فصل
اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ، وهو أن اليهود كانوا يقولون:
{ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] فنزلت هذه الآية.
وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف.
- فقال: يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبدها حباً لله:
{ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، فقال الله - تعالى -: "قل" يا محمد { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ } فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } فأنا رسولُه إليكم، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله.
وقال القرطبي: "نزلت في وفد نجرانَ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عز وجل".
وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب رَبَّنا، فأنزل الله - عز وجل - { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي } [آل عمران: 31].
قال ابن عرفة: المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له.
وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما، واتباعه أمرهما، قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي } [آل عمران: 31] [ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 32]، أي: لا يغفر لهم].
قال سهل بن عبد الله: علامة حُبُّ الله حُبَّ القرآن، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة، حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة، أن لا يحب نفسه، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة.
قوله: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } الآية قيل: إنه لما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أبي لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ } أعرَضوا عنها { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم.
والمعنى: إنما أوجب الله عليكم طاعتي، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى، [بل لكوني رسولاً من عند الله].
قوله: { فإِن تَوَلَّوْاْ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مضارعاً، والأصل "تَتَوَلُّوْا" فحذف إحدى التاءين كما تقدم، وعلى هذا، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ، وهو الخطاب.
والثاني: أن يكون فعلاً ماضياً مسنداً لضمير غيب، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى، ونظيره قوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22].
فصل
روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى قالوا: ومن يَأبَى؟ قال: مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى" .
قال جابر بن عبد الله: "جاء الملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - وهو نائم - فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مَثَلاً، فاضربوا له مَثَلاً، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ، وأكل من المأدبةِ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ، فقالوا: أوِّلُوها له بفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ، قالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم من أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فَرَقَ بين الناس".
روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أراد أن يحبه اللهُ فعليه بصدقِ الحديثِ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره" وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال: إنِّي أحِبُّ فلاناً، فأحبه، قال: فيحبه جبريلُ، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يُحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهلُ السّماءِ، قال: ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول: إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه، قال فيبغضونه، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض" .
وقال: { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } ولم يَقُلْ: فإنه لا يحب؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ، أنشد سيبويه [قول الشاعر]: [الخفيف]

1411- لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا

ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول، فذكره للتمييز؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ.