التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
٥٢
رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ
٥٣
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٥٤
إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٥٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٥٦
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
٥٧
ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ
٥٨
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

الإحساس: الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال: أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به، ويقال: حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه -.
قال الشاعر: [الوافر]

1486- سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ

قال سيبويه: ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون: أحسست وأحسَسْنَ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة، فإذا قلت: لم أحس، لم تحذف.
وقيل: الإحساس: الوجود والرؤية، يقال: هل أحْسَسْتَ صاحبَك - أي: وجدته، أو رأيته؟
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ "الحِسّ" في القرآن على أربعة أضربٍ:
الأول: بمعنى الرؤية، قال تعالى: { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } [آل عمران: 52] وقوله تعالى:
{ { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [الأنبياء: 12] أي رأوه. وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [مريم: 98] أي: هل تَرَى منهم؟
الثاني: بمعنى القتل، قال تعالى:
{ { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [آل عمران: 152] أي: تقتلونهم.
الثالث: بمعنى البحث، قال تعالى:
{ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [يوسف: 87].
الرابع: بمعنى الصوت، قال تعالى:
{ { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [الأنبياء: 102] أي: صَوْتَهَا.
قوله: { مِّنْهُمْ } فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ "أحَسَّ" و "مِنْ" لابتداء الغاية أي: ابتداء الإحساس من جهتهم.
الثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنه حال من الكفر، أي: أحس الكفر حال كونه صادراً منهم.
فصل
في هذا الإحساس وجهان:
أحدهما: أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه.
والثاني: أن يُحْمَلَ على التأويل، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ:
أحدها: قال السُّدِّيُّ: إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا، فخافهم واختفى عنهم.
وقيل: نفوه وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض، فَنَزَلا في قرية على رجل، فأضافهم، وأحسن إليهم، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً، مُهْتَمًّا، ومريم عند امرأته، فقالت مريم ما شأن زَوْجك؟ أراه كئيباً؟ قالت: لا تسأليني. فقالت: أخبريني، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه، قالت: إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده، ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل، عاقبه، واليوم نوبتنا، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ، قالت: فقولي له: لا يهتم؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له، فيُكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك، فقال: يا أمَّه، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت: قد أحْسَنَ إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ماءاً] ثم أعْلِمْني. ففعل ذلك، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً، وما في الجوابي خَمْراً، لم يرى الناس مثلَه، فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ، قال: من اين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا، قال الملك: إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هذه من أرض أخرى، فلما خلط على الملك، واشتد عليه، قال: أنا أُخْبِرُك، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال: إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى: لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال: ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى: فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال: نعم. فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا. وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك، قال: أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ؟ قالوا: مَنْ أنت؟ قال: عيسى ابن مريم، عبد الله ورسوله، { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق، فقصد اليهودُ قتلَه، وأظهروا الطعن فيه.
وثانيها: أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة، وأنه ينسخ دينَهم، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه، طالبين قَتْلَهُ، فلما أظهر الدعوةَ، اشتد غضبهُم، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله.
وثالثها: أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به، وأن دعوته لا تنجع فيهم، فأحب أن يمتحنهم، ليتحقق ما ظنه بهم، فقال لهم: { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } فما أجابه إلا الحواريُّونَ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون، مصرون على إنكار دينه، وطلب قتله.
قوله: { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }؟ "أنْصَار" جمع نصير نحو شريف وأشراف.
وقال قوم: هو جمع نَصْر المراد به المصدر، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي؟ و "إلى" على بابها، وتتعلق بمحذوف؛ لأنها حال، تقديره: من أنصاري مضافين إلى الله، كذا قدره أبو البقاء.
وقال قوم إن "إلَى" بمعنى مع أي: مع الله، قال الفرَّاء: وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل "إلَى" في موضع "مع" إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه، كقول العرب: الذود إلى الذَّوْدِ إبل، أي: مع الذود. بخلاف قولك: قدم فلان ومعه مال كثير، فإنه لا يصلح أن يقال: وإليه مال، وكذا قوله: قدم فلان مع أهله، ولو قلت إلى أهله لم يصح، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله:
{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2].
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى: "مع" فقال: [وقيل: هي بمعنى: "مع"] وليس بشيء؛ فإن "إلَى" لا تصلح أن تكون بمعنى "مع" ولا قياس يُعَضِّدُهُ.
وقيل: إن "إلَى" بمعنى اللام من أنصاري لله؟ كقوله: { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ }، كذا قدره الفارسي.
وقيل: ضمَّن أنصاري معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي، فيكون "إلَى الله" متعلقاً بنفس "أنصاري".
وقيل: متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في "أنْصَارِي" أي: مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه، قاله الزمخشريُّ.
وقيل: التقدير: من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله، وإلى أن أظهر دينه، ويكون "إلَى" هاهنا غاية؛ كأنه أراد: من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمرُ الله؟
وقيل: المعنى: من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟
وفي الحديث: أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى -:
"اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ" أي تقرّبنا إليك.
وقيل: "إلَى" بمعنى: "في" تقديره: من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسنُ.
فصل
والحواريون، جمع حواري، وهو النّاصرُ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل "مفاعل"؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف: قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ، فإنهما ممنوعان من الصرف، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ. والحواريّ: الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره: حوارياً؛ تسمية له باسم أولئك؛ تشبيهاً بهم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير:
"ابن عمتي وحواريّ أمتي" وفيه أيضاً - "إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر" ، وقال معمر قال قتادة: إن الحواريّين كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدةِ بن الجراح، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رضي الله عنهم أجمعين. وقيل: الحواريّ: هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب، أي: أخلصت بياضَه بالغَسْل، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً؛ لتنظيفه الثياب، وفي التفسير: إن أتباع عيسى كانوا قصارين.
قال أبو عبيدة: سمي أصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين.
وقال الفرزدق: [البسيط]

1487- فَقُلْتُ: إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ

يعني النساء؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن: الحواريات، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ: وحواري الرَّجُلِ: صفوته وخالصته، ومنه قيل للحضريات: الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن.
[وأنشد لأبي حلزة اليشكري]: [الطويل]

1488- فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ: يبكين غيرَنا ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ

ومنه سميت الحور العين؛ لبياضهن ونظافتهن، والاشتقاق من الحور، وهو تبيض الثياب وغيرها:
وقال الضّحّاكُ: هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - هواري - بالهاء مكان الحاء -.
قال ابن الأنباري: فمن قال بهذا القول قال: هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون.
وقيل: "هم المجاهدون" كذا نقله ابنُ الأنباريّ.
وأنشد: [الطويل]

1489- وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ

قال الواحديُّ: والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة.
وقال الراغبُ: حوَّرت الشيء: بيَّضته ودوَّرته، ومنه الخبز الحُوَّارَى، والحواريُّون: أنصار عيسى.
وقيل: اشتقاقه من حار يَحُور - أي: رَجَع. قال تعالى:
{ { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [الانشقاق: 14]. أي لن يرجع، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي: رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه: حار الماء في القدر، وحار في أمره، وتحيَّر فيه، وأصله تَحَيْوَرَ، فقُلِبَت الواوُ ياءً، فوزنه تَفَيْعَل، لا تفعَّل؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل: تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة: مِحْوَر؛ لتردُّدِهِ، ومَحَارة الأذُنِ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة، والقوم في حوارى أي: في تَرَدُّد إلى نقصان، ومنه: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور" وفيه تفسيران: أحدهما: نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني: نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها.
ويقال: حَارَ بعدما كان. والمحاورة: المرادَّة في [الكلام]، وكذلك التحاورُ، والحوار، ومنه:
{ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [الكهف: 34] و { { وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [المجادلة: 1] ومنه أيضاً: كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي: بعَقْل يرجع إليه. والحور: ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ، يقال - منه -: أحورت عينه، والمذكر أحور، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء -.
وقيل: سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك.
وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام، وما يشوب الدين.
قاله ابن المبارك: سُمُّوا بذلك؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها.
وقال رَوْحُ بن قَاسِم: سألت قتادةَ عن الحواريِّين، فقال: هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ، وعنه أنه قال: الحواريون هم الوزراء.
والياء في "حواريّ وحواليّ" ليست للنسب، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ، وقرأ العامة "الْحَوَارِيُّونَ" بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن، قالوا: لأن التشديد ثقيل.
وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها: الحوارون؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها، فتَسْكُن الياء، فيلتقي ساكنان، فيحذفوا الياء؛ لالتقاء الساكنين، وهذا نحو جاء القاضون، الأصل: القاضيون، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر. قالوا: وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة، كما ذهب الأخفشُ في "يَسْتَهْزِيُونَ" إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بقيت الضمة؛ تنبيهاً على الهمزة.
فصل في المراد بـ "الحواريين"
اختلفوا في الحواريين، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ: كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر، فقال لهم عيسى: أنتم تصيدون السمك، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد، قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة، فما اصطاد شيئاً، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسنُ: كانوا قصَّارين، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ، أي يبيِّضونها.
وقيل: كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً، اتَّبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روحَ الله جعنا، فيضرب بيده الأرضَ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء، فيشربون، فقالوا: من أفضل منا؛ إذا شئنا أطُعِمْنَا، وإذا شئنا استقينا، وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم مَنْ يعمل بيده، ويأكل من كَسْبه، قال: فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء، فسُمُّوا حَوَاريِّين.
وقيل: كانوا ملوكاً، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: أتعرفونه؟ قالوا: نعم فذهبوا، فجاءوا بعيسى، فقال: من أنت؟ قال عيسى ابن مريم، قال: وأنا أترك ملكي وأتبعك، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون.
وقيل: إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه، فقال له: هاهنا ثياب مختلفة، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب، فطبخ عيسى صلى الله عليه وسلم جُبًّا واحداً، وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد، فرجع الصباغ، وسأله، فأخبره بما فعل، فقال: أفسدت عليَّ الثيابَ، قال: قم فانظر، فكان يخرج ثوباً أخضر، وثوباً أصفر، وثوباً أحمر، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به، وهم الحواريُّونَ.
قال القفَّال: ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السَّمكِ، وبعضهم من القصَّارين، وبعضهم من الصبَّاغين، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه، والمخلصين في محبته وطاعته.
قوله: { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي: أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ. { آمَنَّا بِٱللَّهِ } هذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى: أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله، والذَّبَّ عن أوليائه، والمحاربة لأعدائه، ثم قالوا: { وَٱشْهَدْ } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي: منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك.
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا إلى الله، وقالوا: { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ } عيسى { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
وقال عطاء: مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته، وقد أجاب الله دعاءهم، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام -.
قال ابن عباس: مع محمد وأمته، قال تعالى:
{ { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143].
وقيل: اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك:
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [آل عمران: 18]. قوله: { مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } حال من مفعول { فَٱكْتُبْنَا } وفي الكلام حذف، أي: مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله: { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } من باب المقابلة، أي: لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله: { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ } [الأعراف: 99] والمكر في اللغة أصله الستر، يقال: مكر اللَّيْلُ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.
قال القرطبي: وأصل المكر في اللغة: الاحتيال والخِداع، والمكر: خَدَالةُ الساق، والمكر: ضَرْب من النبات ويقال: بل هو المَغْرَة، حكاه ابنُ فارس، قالوا: واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملقف، تخيلوا منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه، وامرأة ممكورة الخَلْق، أي: ملتفة الجسم، وكذا ممكورة البَطْن. ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم، وعبر بعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمود، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ، وعلى ذلك قوله: { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }. ومذموم، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح، نحو:
{ { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43].
فصل
أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فَهَمُّوا بقتله، فذلك مكرهم به. وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه:
أحدها: أن مكر الله استدرَاج العبد، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم، كما قال
{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [القلم: 44].
وقال الزّجّاج: "مكر الله" مجازاتهم على مكرهم، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء؛ لأنه في مقابلته، كقوله:
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [البقرة: 15] وقوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]. ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً، وهو معنى قوله: { { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [البقرة: 87] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة، وكان قد ألقي شبهه على غيره، فأخِذ، وصُلِب، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ:
فرقة قالوا: كان الله فينا فذهب. والأخْرَى قالت: ابن الله. والثالثة قالت: كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحدٌ منهم، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه، ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا: وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ، حتى قتل بعضهم، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم.
الثالث: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه السلام، ولَقُوا منهم الجهد، فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ، وفَعَل وَفَعَل، فقال: لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه. ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى، فأخبروه وبايعوه على دينهم، وأنزل المصلوب، فغيبه، وأخذ الخشبة، فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله.
الرابع: أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس، فقتلهم، وسباهم، وهو قوله:
{ { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ } [الإسراء: 5] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم.
الخامس: يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه، ومكر الله بهم، حيثُ أعلى دينَهُ، وأظهر شَرِيعَتَهُ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود.
وفي قوله: { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر؛ إذ الأصل: ومكروا ومكر اللهُ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ.
قوله: { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ } في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قوله: { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } أي: مكر الله بهم في هذا الوقت.
الثاني: { خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }.
الثالث: أنه "اذكرْ" - مقدَّراً - فيكون مفعولاً به كما تقدم تقريره.
قوله: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }، فيه وجهان:
أحدهما: وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي.
الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء، ثم يتوفى بعد ذلك، والواو للجمع، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء.
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى، إلا أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه، ونزلوه إلى الأرض، وحُكمِه بِشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديثِ. فعلى الأول ففيه وجوهٌ:
أحدها: إني متمم عمرك، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه.
الثاني: إني مُميتُك، والمقصود منه ألا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: قال وَهْبٌ: تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ، ثم رُفِع وأحْيِيَ.
الثاني: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه.
الثالث: قال الربيع بن أنس: إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء، قال تعالى
{ { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر: 42].
وثالثها: أن الواو لا تفيد الترتيب، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت أنه حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلك.
رابعها: إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك، فيصير حاله كحال الملائكة- في زوال [الشهوات] والغضب والأخلاق الذميمة -.
خامسها: أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ، لا جَسَدُهُ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده.
وسادسها: إني متوفيك، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء، وانقطع خبره، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
وسابعها: أن التوفِّي هو القبض، يقال: فلان وفاني دراهمي، ووافاني، وتوفيتها منه، كما يقال سلم فلان دراهمي إلي، وتسلمتها منه. فإن قيل: فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع، فيصير قوله: { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } تكراراً، فالجواب: أن قوله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يدل على حُصُولِ التَّوفِّي، وهو جنس تحته أنواع، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ، فلما قال: { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } صار تعييناً للنوع، فلم يكن تكراراً.
ثامنها: أن يقدر حذف مضاف، أي: متوفي عملك، بمعنى مستوفي عملك، ورافعك إليَّ، أي: ورافع عملك إليّ، كقوله:
{ { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] والمرادُ منه: أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره، ولا يهدر ثوابهُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ الْمَالُ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ" .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى: "وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ" .
وقيل للحُسَيْن بن الفضل: هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال: نعم، قوله: { وَكَهْلاً } وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما معناه: { وَكَهْلاً } بعد نزوله من السماء.
فصل
قال القرطبيُّ: "والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس".
وقال الضحاك: وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن أصحابه تفرقوا ثلاث فرق:
فقالت فرقة: كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم
{ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } [الصف: 14] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله: { وَرَافِعُكَ إلَيَّ } تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ:
أحدها: أن المراد إلى محل كرامتي، كقول إبراهيم: "إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ" وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من "العراق" إلى "الشام"، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله، والمجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، فكذا هاهنا.
وثانيها: أن معناه [رافعك إلى مكان] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ.
وثالثها: أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه.
قوله: { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } معناه مُخْرِجك من بينهم، ومُنَجِّيك، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
قوله: { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ } فيه قولان:
أظهرهما: أنه خطاب لعيسى عليه السلام.
الثاني: أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم فيكون الوقف على قوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تاماً، والابتداء بما بعده، وجاز هذا؛ لدلالة الحال عليه. و { فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ثاني مفعولي { وَجَاعِلُ } لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.
و { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } متعلق بالجَعْل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي: جاعلهم قاهرين لهم، إلى يَوْمِ القيامةِ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا، فأما يوم القيامة، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم، فيدخل الطائع الجَنَّةَ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا، وانقضائها؛ لأن لهم استعلاءً آخر غير هذا الاستعلاء.
قال أبو حيّان: "والظاهر أن "إلى" تتعلق بمحذوف وهو العامل في "فَوْقَ" وهو المفعول الثاني لـ "َجَاعِل" إذْ معنى "جاعل" هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق "إلى" بذلك المحذوف، بل بما تقدم من "مُتَوَفِّيك" أو من "رَافِعُكَ" أو من "مُطَهِّرُكَ" إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها، أما تعلقه بـ "رَافِعُكَ" أو بـ "مُطَهِّرُكَ" فظاهر، وأما بـ "مُتَوَفِّيكَ" فعلى بعض الأقوال".
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به: قابضك من الأرض من غير موت، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [وابن جريج] وابن زيد وغيرهم. أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ: وهو مُسْتَوْفٍ أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار، وإن على قول مَنْ يقول: إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة، بل قائل يقول: إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل، والظاهر أنه متعلق بـ "جَاعِل". وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم "أحكم" ونحوه قبل الباء.
فصل
قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ: الذين اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة، والمنعة، والحُجَّةِ.
قال الضحاك: يعني الحواريين.
وقيل: هم الروم.
وقيل: النصارى، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة، والنصارى بخلاف ذلك.
فصل
قال أهلُ التّاريخِ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين.
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ: في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره، على ما قال:
{ { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } [النساء: 157] والأخبار واردة أيْضاً بذلك، إلا أن الرواياتِ اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه، فقتلوه وصلبوه، وتارة يُرْوَى أنه صلى الله عليه وسلم رغَّب أحد خَوَاصِّ أصحَابه في أن يُلْقِيَ اللهُ شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات:
الأول: أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي، ثم زينته ثانياً فحينئذ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات.
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يأمرهم، ويَنْهَاهُمْ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ.
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا [جاز] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى، وبالجملة، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ.
الإشكال الثاني: أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى:
{ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [المائدة: 110] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه.
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء، وعلى إسْقامهم، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟
الإشكال الثالث: أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟
الإشكال الرابع: أنه إذا ألقي شبهه على الغير، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
الإشكال الخامس: أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً، مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع، ولقال: إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم.
والجواب عن الأول: أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم.
والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعالى لو رفعه إلى السماء، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء.
والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
والجواب عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ، لم يكن مُفِيداً للعلم.
والجواب عن السادس: أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ.
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله.
قوله: { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدّينِ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات، لكان: ثم إليّ مرجعهم، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة، وأزجر في النذارة. وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني: إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه، ومتولّي أمره، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي: إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم، وبشأنه أعْنَى، كقوله:
{ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] وفي الحديث: "ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ" .
قوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } في محل هذا الموصول قولان:
أظهرهما - وهو الأظهر -: أنه مرفوع على الابتداء، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره، وهذا وجه ضعيف؛ لأن "أمَّا" لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل، ومن جوَّز ذلك قال: بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم، ولا يضمر قبله. قال: لئلا يَلِيَ "أمَّا" فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك: أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه، وكذا هنا يُقَدَّر: فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ.
وقد قرئ شاذًّا { وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ } [فصلت: 17] بنصب "ثمود" واستضعفها الناس.
فصل
عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة، وفي الآخرة بالنار أي: في وقت الآخرة بالنار { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ }.
فإن قيل: وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار، وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
فالجوابُ: أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟
فالجواب: أن المانع من القتل هو العهد، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه.
قوله: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا } الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله.
وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن "فَيُوَفِّيهِمْ" - بياء الغيبة - والباقون بالنون. فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة؛ تفنُّناً في الفصاحةِ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه؛ اعتناءً بالمؤمنين، ورفْعاً من شأنهم؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه.
فصل
دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء؛ لقوله: { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر.
واحتج المعتزلة بقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } - بمنزلة قوله: لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص، فقد يقال: أحبّ زيداً، ولا يقال: أريده. فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة، فصار قوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } بمنزلة قوله: لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي.
وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه.
قوله: { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ } يجوز أن يكون "ذَلِكَ" مبتدأ، "نَتْلُوهُ" الخبر "مِنَ الآيَاتِ" حال أو خبر بعد خبر.
ويجوز أن يكون "ذَلِكَ" منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و "مِنَ الآيَاتِ" حال، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [أي: هو من الآيات، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار، وعندهم "زيد ضربته" أحسن من "زيداً ضربته"، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر]، يعني الأمر ذلك، و "نَتْلُوهُ" على هذا حال من اسم الإشارة، و { مِنَ الآيَاتِ } حال من مفعول "نَتْلُوهُ".
ويجوز أن يكون "ذَلِكَ" موصولاً بمعنى "الذي" و "نَتْلُوهُ" صلة وعائد، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي: الذي نتلوه عليك كائن من الآيات، أي: المعجزات الدالة على نبوتك. جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ، وهذا مذهب الكوفيين.
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا "ذَا" خاصةً، بشروطٍ تقدم ذكرها؛ ويجوز أن يكون "ذلك" مبتدأ، و "مِنَ الآيَاتِ" خبره، و "نَتْلُوهُ" جملة في موضع نصب على الحال، والعامل معنى اسم الإشارة.
قوله: "نَتْلُوهُ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى، أي: الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك، كقوله:
{ { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ } [البقرة: 102].
والثاني: أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية.
و "من" فيها وجهانِ:
أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك.
والثاني: أنها لبيان الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به.
قال أبو حيّان: وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير "من" البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ: ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [على سبيل المجاز].
والحكيمُ: صيغة مبالغة محول من "فاعل". ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى "مُفْعَل" أي: مُحْكَم، كقوله:
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود: 1] إلا أن "فعيل" بمعنى "مُفْعَل" قليل، قد جاءت منه أليْفَاظ، قالوا: عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [في سبيل الله] فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله: "نَتْلُوه" التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } - كذا قاله أبو حيّان، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ.
فصل
التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال:
{ { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله: { { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ } [القصص: 3]، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ.
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن.
وقيل: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك.