التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٧٣
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
٧٤
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

اللام في "لِمَنْ" فيها وجهان:
أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة، كهي في قوله تعالى:
{ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72] أي: ردفكم وقول الآخر: [الوافر]

1511- فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا

وقول الآخر: [الكامل]

1512- مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا

وقول الآخر: [الطويل]

1513- يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ

أي: أنخنا الكلاكِلَ، وأخدع الخليل، ويذمون الدنيا، ويُرْوَى: يذمون بالدنيا، بالباء.
قال شهابُ الدينِ: وأظن البيتَ: يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع - وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ، وهذا الوجه ليس بالقوي.
الثاني: أن "آمن" ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف، فعُدِّيَ باللام، أي: ولا تُقِرّوا، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم، ونحوه قوله:
{ { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ } [يونس: 83] وقوله: { { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف: 17] وقال أبو علي: وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله: { { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ } [يونس: 83]، وقوله: { آمَنتُمْ لَهُ } [طه: 71]، وقوله: { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وهنا استثناء مُفَرَّغٌ.
وقال أبو البقاء: { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء مما قبلَه، والتقديرُ: ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم.
والثاني: أن النية به التأخير، والتقدير: ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم؛ فاللام على هذا - زائدة، و "مَنْ" في موضع نصب على الاستثناء من أحد.
وقال الفارسيُّ: الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله: { أَن يُؤْتَىۤ } فلا يتعلق باللام في قوله: { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلا أن يحمل اللام على معناه، فيتعدى إلى مفعولين، ويكون المعنى: ولا تُقِرُّوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم، كما تقول: أقررت لزيد بألفٍ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى، ولا تكون زائدة على حد:
{ { رَدِفَ لَكُمْ } [النمل: 72] و { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن "آمن" معنى "أقَرَّ".
فصل
اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلامِ اليهودِ، وفيه وجهانِ:
الأول: أن معناه: ولا تُصَدِّقُوا إلا بنبي يُقرِّر شرائعَ التوراةِ، ومَنْ جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة، فلا تصدقوه، وعلى هذا التفسير تكون اللام في { لِمَنْ تَبِعَ } صلة زائدة.
الثاني: معناه: لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل مَنْ تبع دينكم، أي: ليس الغرضُ من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فإنّ مقصود كلِّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.
ثم قال: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ }.
قال ابن عباسٍ: معناه: الدين دين الله، ونظيره:
{ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ } [الأنعام: 71] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم:
أما على الوجه الأول - وهو قولهم: لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به، وأرشد إليه، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله:
{ { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [البقرة: 142] - قوله: { { قُل لِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } [البقرة: 142] يعني: الجهاتِ كلَّها لله، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء.
وعلى الوجه الثاني: المعنى: { إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } قد جئتكم به، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ.
فصل
قوله تعالى: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة، وليس بسديد، لما نقل من الخلاف، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين، تثبيتاً لقلوبهم، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟
[إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف، ولا شك أن قولَه: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } من كلام الله مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم].
قوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } اعلم أن هذه الآية من المشكلات، فنقول: اختلف الناس في هذه الآية على وجوه:
الأول: أن قوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } متعلق بقوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } على حذف حرف الجر، والأًصل: ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل "أن"، ويكون قولُه: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } جملةً اعتراضيةً.
قال القفّالُ: يحتمل أن يكون قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر، فيقول - عند بلوغه إلى تلك الكلمة -: آمنت بالله، أو يقول: لاَ إلَه إلا اللهُ، أو يقول: تعالى الله عن ذلك، ثم يعود إلى تمام الحكاية، فيكون قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } من هذا الباب.
قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ -: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } مُتَعَلِّقٌ بقوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } وما بينهما اعتراضٌ، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً، ودون المشركين، لئلا يدعوهم إلى الإسلام.
{ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } عطف على { أَن يُؤْتَىۤ } والضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } لِـ { أَحَدٌ } لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ.
فإن قلت: ما معنى الاعتراضِ؟
قلت: معناه: إن الهدَى هُدى الله، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم، أو يزيد ثباتاً، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهداية والتوفيق.
قال شهاب الدينِ: "وهذا كلامٌ حسَنٌ، لولا ما يُريد بباطنه"، وعلى هذا يكون قوله: { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } مستثْنَى من شيء محذوفٍ، تقديره: ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم، وتكون هذه الجملة - أعني قوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة، أي وقالت طائفةٌ كذا، وقالت أيضاً: ولا تؤمنوا، وتكون الجملة من قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } من كلام اللهِ لا غير".
قال ابن الخطيبِ: وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ:
الأول: أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صلى الله عليه وسلم كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم، وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد.
الثاني: أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف؛ فإن التقدير: قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ }.
الثالث: أنه كيف وقع قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } فيما بين جزأي كلام واحد؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم.
الوجه الثاني: أن اللام زائدة في { لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } وهو مستثنى من "أحَدٌ" المتأخِّر، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ، فـ { لِمَنْ تَبِعَ } منصوب على الاستثناء من "أحد"، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل { أَن يُؤْتَىۤ } ثلاثة أوجهٍ:
الأول والثاني: مذهب الخليل وسيبويه، وقد تَقَدَّمَا.
الثالث: النصب على المفعول من أجله، تقديره: مخافةَ أن يُؤتَى.
وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى، ولا من جهة الصناعة، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه، وعلى عامله، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها، وهو غير جائزٍ.
الوجه الثالث: أن يكون { أَن يُؤْتَىۤ } مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك، ودبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وقوله: { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه: ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ }، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم، وقوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } معناه: لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك، ودبرتموه، لا لشيء آخرَ، يعني أن ما بكم من الحسد و البغي، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأنْ يُؤتَى أحَدٌ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ، والتقرير، والتوبيخ - بمعنى: ألأن يؤتى أحَدٌ؟
فإن قلت: ما معنى قوله: { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } على هذا؟
قلت: معناه: دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [لكم] عند ربكم.
الوجه الرابع: أن ينتصب { أَن يُؤْتَىۤ } بفعل مقدَّرٍ، يدل عليه: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } كأنه قيل: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } فلا تُنكِروا أن يُؤتَى أحَدٌ مثل ما أوتيتم. فـ "لا تنكروا" ناصِب لِـ "أن" وما في حَيِّزها؛ لأن قوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا.
قال أبو حيّان: وهذا بعيد؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم.
قال شهاب الدين: "متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان".
الوجه الخامس: أن يكون { هُدَى ٱللَّهِ } بدلاً من "الْهُدَى" الذي هو اسم "إنَّ" ويكون خبر { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ }، والتقدير: قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم، ويكون "أوْ" بمعنى "حتى"، والمعنى: حتى يحاجوكم عند ربكم، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } معطوفاً على { أَن يُؤْتَىۤ } وداخلاً في خبر إن.
الوجه السادس: أن يكون { أَن يُؤْتَىۤ } بدلاً من { هُدَى ٱللَّهِ } ويكون المعنى: قُلْ بأن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن، ويكون قوله: { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } بمعنى فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم، قال ابنُ عطية: وفيه نظرٌ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [النهي] وإبقاء عمله.
الوجه السابع: أن تكون "لا" النافية مقدَّرة قبل { أَن يُؤْتَىۤ } فحذفت؛ لدلالة الكلام عليها، وتكون "أو" بمعنى "إلاَّ أن" والتقدير: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ، وجاء بمثله، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي.
وفيه ضعف من حيث حذف "لا" النافية، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر.
الوجه الثامن: أن يكون { أَن يُؤْتَىۤ } مفعولاً من أجله، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ليس داخلاً تحت قوله: "قل" بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف: كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم، أي: مما خالف دينَ الإسلام؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في { أُوتِيتُمْ } و { يُحَاجُّوكُمْ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
واستضعف بعضُهم هذا، وقال: كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير: كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها، بكراهة الإيتاء المذكور.
الوجه التاسع: أن "أنْ" المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي "لا"، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء، وجعلَ "أو" بمعنى "إلا"، والتقدير: لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله: { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } حالٌ لازمةٌ من جهة المعنى؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه. وهذا قول ساقطٌ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ.
فصل
"أحد" يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي، وأن تكون بمعنى "واحد" والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً؛ اعتباراً بمعناه؛ إذ المراد به العموم، وعليه قوله:
{ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 47] - جمع الخبر لما كان "أحَدٌ" في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } باعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعِه.
وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها "أحد" - المذكور - الملازم للنفي، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعلُه الملازم للنفي. والأمر واضح مما تقدم.
فصل
قرأ ابنُ كثير: أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ:
أحدها: أن يكون { أَن يُؤْتَىۤ } على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره: ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ، كقوله تعالى:
{ { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِين } [القلم: 14-15]، والمعنى: أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب، للاختصارِ، تقديره: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه، ولا تؤمنون به، قاله قتادةُ والربيعُ، وهذا الحذفُ كثيرٌ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه -: أمِنْ قلة إحساني إليك؟ أمِنْ إساءتي إليك؟ والمعنى: أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ؟ ونظيره: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9]، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ. وحينئذ يسوغ في محل "أن" الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ.
وثانيها: أن { أَن يُؤْتَىۤ } في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره: أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به، أو تعترفون به، أو تذكرونه لغيركم، أو تُشيعونه في الناس، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره، وهذا على قول مَنْ يقول: أزَيْدٌ ضربته؟ وهو وجه مرجوحٌ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر، وتكون المسألة من باب الاشتغال، التقدير: أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه؟ فـ "تذكرونه" مُفَسِّرٌ لـ "تذكرون" الأولى، على حد: أزيداً ضربتَه؟ ثم حذف الفعل الأخير؛ لدلالة الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها، وهذا أرجح من الوجه قبله، لأنه مثل: أزيداً ضربته وهو أرجح، لأجل الطالب للفعل، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى:
{ { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [يونس: 91] تقديره: آلآن آمنتَ، ورجعتَ وثبت، ونحو ذلك.
قال الواحديُّ: فإن قيل: كيف جاز دخول "أحَدٌ" في هذه القراءة، وقد انقطع من النفي، والاستفهام، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول "أحَدٌ".
قيل: يجوز أن يكون "أحَدٌ" - في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين، وهذا يقع في الإيجاب، ألا ترى أنه بمعنى "واحد".
قال أبو العباسِ: إن "أحَداً" و "وَحَداً" و "وَاحِداً" بمعنًى.
وقوله: { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ }، أو في هذه القراءة - بمعنى "حتى"، ومعنى الكلام: أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم.
قال الفراء: "ومثله في الكلام: تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك.
ومثله قول امرئ القيس: [الطويل]

1514- فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا

أي حتى، ومن هذا قوله تعالى: { { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [آل عمران: 128]، ومعنى الآية: ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم"، قال: "فهذا وَجْهٌ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه؟". وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي.
ويجوز أن يكون { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية، تقديره: أتذكرون، أو أتشيعونه. ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجه الرابع.
الخامس: أن يكون { أَن يُؤْتَىۤ } - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ.
قال ابن الخطيبِ: "أما قراءة من يقصر الألف من "أنْ" فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام، كما قرئ:
{ { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم } [البقرة: 6] - بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } [القلم: 14] قرئ بالمد والقصر.
وقال امرؤ القيس: [المتقارب]

1515- تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر؟

أراد: أتروح؟ فحذف ألف الاستفهام؛ لدلالة "أم" عليه، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.
وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ، فقال: ["وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير]؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة".
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة: إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها "إنْ" النافية، فقال: وقُرِئَ: "إن يؤتى أحد" على "إن" النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي: "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم.
قال ابنُ عطيةَ: "وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة، ويكون قولها: أو يحاجوكم بمعنى: أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له"، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في "أوْ" - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير، وأن تكون بمعنى "إلا" إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز، وعلى قول غيره تكون بمعنى "حَتَّى".
وقرأ الحسن: أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض لـ "أن" - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء، وابن عطية، وقيَّدَها بعضُهم بكسر "أنْ" وفسَّرها بإن النافية، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، والمفعول المحذوف، تقديره: إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول الأول، وهُوَ أحَدٌ؛ لدلالة المعنى عليه، وأبقى الثاني، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله: { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وما بعده من قول الله تعالى، يقول: "قل" يا محمدُ إن { ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ } "إنْ" بمعنى الجحد، أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، أو يحاجوكم، يعني: إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم.
قال الواحدي: "وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيراً؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير، والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ، من أوَّلِها إلى آخرهَا، مع بيان المعنى في النظم".
فصل
قال بعض المفسّرين: هذا من قول الله - تعالى -، يقول: "قل" لهم يا محمدُ: { إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم، وبعث نبيًّا حسدتموه، وكفرتم به، { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } وقوله: { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } - على هذا - رجوع إلى خطاب المؤمنين، وتكون "أوْ" بمعنى "إنْ" لأنهما حرفا شرط وجزاء، ويوضع أحدُهما مَوْضِعَ الآخر، وإن يُحاجُّوكم - يا معشرَ المؤمنين - عند ربكم فقل يا محمدُ، إنَّ الهدى هدى الله، ونحن عليه. ويجوز أن يكون الجميعُ خِطاباً للمؤمنين، ويكون نظمُ الآيةِ: إنْ يُؤتَ أحدٌ مثلَ ما أوتيتم - يا معشرَ المؤمنين - يَحْسدوكم، فقل: إن الفَضْلَ بِيَدِ الله، وإن حاجُّوكم فقل: إنَّ الْهُدَى هُدَى الله.
ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله تعالى: { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وقوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } من كلام الله تعالى - كما تقدم - ثَبَّت به قلوبَ المؤمنينَ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود، وتزويرهم في دينهم، ومعناه: لا تُصدِّقوا يا مَعْشَرَ الْمُؤمنين إلا مَنْ تَبعَ دِينَكُمْ، ولا تصدقوا أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من الدين والفَضْلِ، ولا تصدِّقُوا أن يُحاجُّوكم في دينكم عند ربكم، أو يقدروا على ذلك؛ فإنَّ الهدى هدى اللهِ، والفضل بيد اللهِ يؤتيه من يشاء، والله واسعٌ عليمٌ، فتكون الآية كلُّها خطاب الله - تعالى - مع المؤمنين.
و "الفضل" - هنا - الرسالة، وهو - في اللغة - عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يُستعمَل في زيادة الإحسان، والفاضل: الزائد على غيره [في خصال الخير، ثم كَثر استعمال الفَضْل حتى صار لكل نفع قَصَد به فاعله الإحسانَ إلى الغير]، وقوله: { بِيَدِ ٱللَّهِ } معناه: أنه مالك له، يؤتيه من يشاءُ، أي: هو تفضُّلٌ موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوةَ تحصُل بالتفضُّلِ، لا بالاستحقاق؛ لأنه جعلها من باب الفَضْل الذي لفاعله أنْ يفعَلَه، وأنْ لا يفعَلَه.
الواسع: الكامل القدرة، والعليم: الكامل العلم، فلكمال قُدْرَتهِ يصح أن يتفضل على أيِّ عَبْدٍ شاء بأي تفضُّل شاء، ولكمال علمه لا يكون شيء من أفعاله إلا على وَجْه الحكمة والصواب.
قوله: { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي: يختص بنبوته من يَشَاء، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }.