التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
٧
إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
٨
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
٩
وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
١٠
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
١١
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ
١٢
-يس

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ } وجب العذاب { عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا كقوله: { { وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [الزمر:71] وفي الآية وجوه:
أشهرها: أن المراد من القول هو قوله تعالى:
{ { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } [السجدة:13] { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ } [ص:85].
والثاني: أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وُجِد وثَبَتَ بحيث لا يُبَدَّل بغيره. لا يبدل القول لدي.
الثالث: المراد لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبانَ بُرْهَانُهُ، فإنهم لَمَّا لم يؤمنوا عندما ما حق القول واستمروا، فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العِنَاد وعند العناد لا يُفيد الإيمان. وقوله: "عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ" على هذا الوجه معناه أن من لم تَبْلُغْه الدعوة والبُرْهَانُ قليلُون فحق القَول على أكثرهم وهو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر.
قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ، وذلك أن أبا جهل كان (قد) حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلِّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له: ماذا صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت كلامه، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي، فأنزل الله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً }.
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعد ذلك: بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً.
وقال الفراء: معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله، كقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء:29] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة.
الرابع: قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم: إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى: { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون } يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى:
{ { لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة:143] أي صلاتكم عند بعض المفسرين، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال: لا يُصَلّون ولا يُزَكون.
قوله: { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } في هذا الضمير وجهان:
أشهرهما: أنه عائد على الأَغْلاَل، لأنها هي المُحَدَّث عنها، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن، لأنه يلبس العُنُقَ جَميعَهُ. قال الزمخشري: والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معنا من أن يُطَأْطِىءَ رَأْسَهُ.
الثاني: أن الضمير يعود على "الأيدي" لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق، واليدين، ولذلك سمي جامعة، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغُلّ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ. إلا أن الزمخشري قال: جعل الإِقماح نتيجة قوله: { فَهِيَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر.
وفي هذا الكلام قولان:
أحدهما: أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة.
والثاني: أنه استعارة، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين.
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ: (مثل) لتصميمهم على الكفر، وأنَّه لا سبيل إِلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن آيات الله. وقال غيره: هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم بينهم وبينه. (و) قال ابن عطية: وهذا أرجح الأقوال؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين. وتقدم تفسير الأَذْقَان.
وقال ابن الخطيب: المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [فصلت:53] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى (في) نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى هذا فقوله: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ.... وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في (الأنْفُسِ و) الآفاق. "فَهُمْ مُقْمَحُونَ" هذا الفاء لأحسن ترتيب، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق. أو ولما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ.
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع، وهو من قَمَحَ البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها - وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً، والجَمْع قِماحٌ، وأنشد:

4168- وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ نَغُضُّ الطَّرف كَالإبِلِ القِمَاحِ

يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة، فأصابهم المَيَدُ.
قال الزجاج قيل: الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ، لأن الإِبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها، لشِدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي:

4169- فَتًى مَا ابْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ

كذا رواه بضم القَاف، وابنُ السِّكِّيت بكسرها. وقال اللَّيْثُ: القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكرية ثم يعود. وقال أبو عبيدة إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره.
وقال الحسن: القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه. وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى. وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر مستدلاً بالبيت المتقدم:

4170-........... نغض الطرف كالإبل القماح

وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم. وسأل الناس أمير المؤمنين (علياً) - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجلع يده تحت لِحْيَتِهِ، ورفع رأسه. وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود "فَهيَ" على الأيدي.
قوله:{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف والحمدُ لله.
وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فيبغي أن يَسْلُكُوا الطّريقة المستقيمةَ { مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا } فلا يقدرون على السلوك. وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول: جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة يهلك. فقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } إشارة إلى هَلاَكِهِمْ فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقفٌ.
قوله: "فأغشيناهم" العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف. وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز، والحَسَنُ، وابنُ يَعْمُرَ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة.
وهو ضعف البصر. يقال: عَشِيَ بَصَرُهُ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا.
وهذا يحتمل الحقيقة والاسْتِعَارَة.
فصل
قوله: "فَأَغْشَينَاهُمْ" بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإِغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه؟ فيقال من وجهين:
أحدهما: أن ذلك بيان لأمور مرتبة ليس بعضها سبباً في البعض فكأنه تعالى قال: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإِقماحهم، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء ما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً.
والثاني: أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلف وقدّامِه سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبقى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً.
فَإنْ قيلَ: ذكر السد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ، ولم يذكر من اليَمِينِ والشِّمالِ فما الحكمة فيه؟.
فالجواب: إن قلنا: إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر. وأما على غير ذلك فيقال: إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء، ومُوَلِّين عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السلوك فكيمفا توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً (فإنَّا) لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال.
وقوله: { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا يبصرون شئياً، أو لا يبصرون سبيلَ الحق؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى.
قوله: { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } تقدم الكلام عليه أول البقرة، بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء بقوله: { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم.
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } قال من قبل:
{ { لِتُنذِرَ قَوْماً } [يس:6] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا: "إنَّما تنذر" وهو يقتضي التخصيص، فكيف الجمع بينهما؟‍‍! وطريقة من وجوه:
الأول: أن قوله: "لتنذر" أي (كَيْفَ) ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن.
وقوله: "إِنَّما تُنْذِرُ" أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى.
الثاني: (هو) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر (أن) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلأى أهل العناد قال لنبيه: ليس إنذارك غيرَ مفيد من جميع الوجوه، فأنِذرْ على سبيل العموم وإنما يُنْذَرُ بذلك الإنذارِ العَام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك.
الثالث: أن يقول: لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت (وبلغت)، واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك. والمراد بالذكر: القرآن لتعريف الذكر الألف واللام. وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى:
{ { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } } [يس:2]. وقيل: ما في القرآن من الآيات لقوله: { { وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ص:1] فما جعل القرآن نفس الذكر. والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم. وقوله: { وَخشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ } أي عمل صالحاً لقوله:{ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } وهذا جزاء العمل كقوله: { { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الحج:50] والمراد بالغيب: ما غاب وهو أحوال يوم القيامة. وقيل الوَحْدانية.
وقوله: "فَبَشِّرْه" إشارة إلى الرسالة، فإنَّ النَّبِيِّ بشيرٌ ونذيرٌ.
وقوله: "بمغفرة" على التنكير أي بمغفرة واسعةٍ تسيرُ من جميع الجوانب "وَأجْرٍ كرِيمٍ" أي ذي كرم كقوله: "وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" والمراد به الجنة.
قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } عند البعث. لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر. ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله: "فَبَشِّرهم بمغفرة" ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم ير في الدنيا فاللَّه يحيي الموتى وُيجْزَى المنذَرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحْيَاءُ الموتى.
فصل
"إنّا نحن" يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله:

4171- أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال (لَهُ): من أنت؟ فيقول: أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له: مَنْ أَنْتَ، يقول: أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال: إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى.
والثاني: أن الخبر "نُحْيِي" كأنه قال: "إِنَّا نُحِيي المَوْتَى" و "نحن" يكون تأكيداً.
وفي قوله: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } إشارة إلى الوحيد؛ لأن الإشراك يوجب التمييز، فإن "زيداً" إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال: "أنا زيد" لا يحصل التعريف التام، (لأن) للسامع أن يقول: أيُّمَا زيد؟ فيقول: ابنُ عمرو، (ولو كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو ولا يكفي قوله: ابن عمرو) فلام قال الله: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول: أنا كذا فيمتاز، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة: الرسالة والتوحيد والحشر.
قوله: "وَنَكْتُبُ" العامة على بنائه للفاعل، فيكون "مَا قَدَّمُوا" مفعولاً به و "آثَارَهُمْ" عطف عليه. وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول، و "آثَارُهُم" بالرفع عطفاً على "مَا قَدَّمُوا" لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل.
فصل
المعنى ماقدموا وأخروا، فاكتفي بأحدهما، لدلالته على الآخر كقوله تعالى:
{ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] أي وَالبَرْدَ. وقيل: المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً، كقوله تعالى: { { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [البقرة: 95] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته. وقيل: نكتب نِيَّاتِهِمْ فإِنها قبل الأعمال و "آثَارَهُمْ" أي أعمالهم. وفي "آثارهم" وجوه:
أحدها: ما سنوا من سنة حسنة وسيئة. فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناظر المبنية، والسيئة كالظّلامة المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة. قال - عليه (الصلاة و) السلام:
"مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً" وقيل: نكتب آثارهم أي خُطَاهم إلى المسجد؛ لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال: شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلِهم من المسجد فأنزل الله: { ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم } فقال - عليه (الصلاة و) السلام -: "إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ" . وقال - عَلَيْهِ (الصَّلاَةُ وَ) السَّلاَمُ -: " أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ" فإن قيل: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال: ("نُحْيي") و"نكتُبُ" ولم يقل: نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ؟.
فالجواب: أن الكتابة معظمة، لا من الإحياء، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء. (و) لأنه تعالى قال: { إِنَّا نَحْنُ } وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ، والإحياء العظيم يختص بالله، والكتابة دونه تقرير العريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
قوله: { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامة على نصب "كل" على الاشتغال. وأبو السَّمَّال قرأه مرفوعاً بالابتداء والأرجحُ قراءةُ العامة، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ.
فصل
"أَحْصَيْنَاهُ" حفظناه وثبّتناه "فِي إمَامٍ مُبينٍ". فقوله "أَحْصَيْنَاهُ" أبلغ من كتبناه، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده، فقال يحصي فيه. وإمامٌ جاء جمعاً في قوله:
{ { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء:71] أي بأئمتهم وحينئذ فـ "إمَام" إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجِاب، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال. والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً (للملائكة ما) يفعلون وللناس ما يفعل بهم، وهو الفارق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وسمي الكتاب إماماً، لأن الملائكة يأتمون به، ويتبعونه، وهو اللوح المحفوظ. وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لايُبدَّل، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن، فلما قال { نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وقيل: إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله: "وَنَكْتُبُ"؛ لأن من يكتب شيئاً في أرواق ويرميها وقد لا يجدها، فكأنه لم يكتب فقال: نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى: { { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه:52]. وقيل: إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن (علم) الله، ولا يفوته وهو قوله تعالى: { { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [القمر: 52-53] يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب.