التفاسير

< >
عرض

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ
١٩
وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
٢٠
هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢١
ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ
٢٢
مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ
٢٣
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ
٢٤
مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ
٢٥
بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
٢٦
-الصافات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "فَإِنَّمَا هِيَ" قال الزمخشري: "فَإنَّما هِيَ" جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا زجره واحدة. قال أبو حيان: وكثيراً ما تضمَّن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ تقديره ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب للأمر والنهي وما ذكر معهما، أمَّا ابتداءً فلا يجوز حذفه.
فصل
"هي" ضمير البعثة المدلول عليها بالسِّياق لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً، قال الزَّمَخْشَرِيُّ "هي" مبهمة يوضحها خبرها، قال أبو حيان: وكثيراً ما يقول هو وابن مالك: إن الضمير يفسره خبره. ووقف أبو حاتم على "يَا وَيْلَنا" وجعل مع ما بعده من قوله الباري تعالى، وبعضهم جعل { هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه، وقوله: { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } من قول الباري تعالى: وقيل: الجميع من كلامهم. وعلى هذا فيكون قوله: "تُكَذِّبُونَ" إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض.
فصل
لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله: { فإنما هي زجرة واحدة } أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي إحياء ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل: ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي يزجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة، قال ابن الخطيب: ولا يبعد أن يقال تلك الصيحة إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل: فما الفائدة في هذه الصيحة للأموات وهذه النفخة جارية مَجْرَى السبب لحياتهم فتكون مقدمة على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله؟
فالجواب: على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي: فيه وجهان:
الأول: أن يعتبر بها الملائكة.
والثاني: أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب. (انتهى). وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله (وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها) كما قال:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك:2] روي أن الله تعالى يأمرنا سراً قيل فينادى أَيَّتُّها العِظَامُ النَّخِرَة، والجُلُودُ البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال القيامة قولهم بعد القيام من القبور: { يا ويلنا هذا يوم الدين } أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهَلَكَةِ، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: "هذا يوم الدين" أي يوم الحساب القيامة المذكور في قوله: { { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة:4] أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله: { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } تَقَدَّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
قوله: { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل: ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا: هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم: بل هذا يوم الفصل؟
أجاب القاضي عنه وقال: المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده: { فَاهْدُهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم } أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال: كيف يصح ذلك وقد قال بعده: { وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ } ومعلوم أن (مَـ) ـحْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال: إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة: احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ (مِنْ) هنا (ك) يساقون إلى النار.
قوله: { وَأَزْوَاجَهُمْ } العامة على نصبه وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على الموصول.
والثاني: أنه مفعول معه. قال أبو البقاء: وهو في المعنى أقوى، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف لا يُعْدَلُ عنه، وقرأ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ بالرفع عطفاً على ضمير "ظَلموا". وهو ضعيف لعدم العامل، وقوله: { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم.
قوله: "إِنَّهُمْ مَّسْؤُولُونَ" العامة على الكسر على الاستئناف المفيد للعلة، وقرىء بفتحها على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.
فصل
المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي: كل من عمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى:
{ { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } [الواقعة: 7] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول "عندي من هذا أزواج" أي أمثال، وتقول: زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن: أزواجهم: المشركات، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل: يعني إبليسَ وجنودَه لقوله: { { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } } [يس:60]. { فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم }، قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ: قدموهم والعرب تسمي السابق هادياً. وقال الواحدي: وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم. "وَقِفُوهُمْ" يقال وَقَفْتُ الدَّابَة أَقِفُها وَقْفاً فوَقَفَتْ هي وُقُوفاً. قال المفسرون: لما سِيقُوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط فقال: { قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْؤُولُونَ }. قال ابن عباس: عن أقوالهم وأفعالهم.
وقيل: تسألهم الخزنة: "ألم يأتكم نذير رسل منكم"، (رسل) بالبينات قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. ويجوز أن يكون هذا السؤال هو قوله بعد ذلك: { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } (أي لا تسألون) (توبيخاً لهم فيقال): ما لكم لا يناصرون قال ابن عباس: لا ينصر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحْن جميعٌ منتصر فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم لا تَنَاصَرُون، وقيل: يقال للكفار: ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
قوله: "مَا لَكُمْ" يجوز أن يكون منقطعاً عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم، ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقاً للسؤال و "لاَ تَنَاصَرُونَ" جملة حالية العامل فيها الاستقرار في "لكم". وقيل: بل هي على حذف حَرْفِ الجرِّ وأن الناصبة فلما حذفت "أن" ارتفع الفعل. والأصل في أن لا. وتقدمت قراءة البَزِّي لا تناصرون بتشديد التاء. وقرىء تَتَنَاصَرُونَ على الأصل.
قوله (تعالى): { بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن منقادون، يقال اسْتَسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع. والمعنى هم اليوم أذلاّء منقادون لا حِيلَة لهم في دفع تلك المضارّ.