التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قال مقاتل بن حيّان: نزلت في رجل من غَطَفَانَ يقال له مرثدُ بْنُ زَيْدٍ وَلِي مالَ ابن أخيه وهو يتيمٌ صغيرٌ، فَأكَلَهُ فأنزل اللَّهُ هذه الآية.
قوله: { ظُلْماً } فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مفعول من أجله، وشروط النصب موجودة.
الثاني: أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي: يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله: { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ } هذه الجملة في محل رفع لـ "إنَّ"، وفي ذلك خلاف.
قال أبُو حيان: وَحَسَّنَه هنا وقوعُ [اسم] "أن" موصولاً فطال الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبالِ بذلك، وهذا أحْسَنُ من قولك: "إنَّ زيداً إنَّ أبَاهُ منطلق"، ولقائلٍ أن يقول: ليس فيها دلالة على ذلك؛ لأنها مكفوفة بـ "ما" ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك، في المعنى: "إنَّ زيداً ما انطلق إلاَّ أبوه" وهو محل نظر.
قوله: { فِي بُطُونِهِمْ } فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ { يَأْكُلُونَ } أي: بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ، إمَّا حَقِيقَةً: بأنْ يَخلق اللَّهُ لهم ناراً يأكلونَهَا في بُطُونِهِم، أوْ مَجَازاً بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه، كما يطلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40].
قال القاضِي: وهذا أوْلَى؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ.
وَالثَّاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال مِنْ "ناراً" وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالاً.
وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في "تَذْكِرَتِهِ"، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفاً لـ { يَأْكُلُونَ } فَإنَّهُ قال: { فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } حال من نار، أي: نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ، وليس بِظَرْفٍ لـ { يَأْكُلُونَ } ذكره في "التَّذْكِرَةِ".
وفي قوله: "وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع" فيه نَظَرٌ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ { فِي بُطُونِهِمْ } حالاً من "نَار" هنا يجوزُ أن يكون حالاً من "النَّار" في البقرة، وفي [إبداء] الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر [منع أبي عليٍّ كَوْنَ { فِي بُطُونِهِمْ } ظرفاًَ للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل: الأكل لا يكون إلا] في البَطْنِ فما فائدةُ قوله: { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً }؟.
فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله:
{ { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: { { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ، وقوله: { { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالجَنَاحِ.
فصل في جواز الأكل من مال اليتيم
هذه الآيةُ توكيدٌ للوعيدِ المُتَقَدِّمِ لأكل مال اليتيم، وخَصَّ الأكل بالظلم، فأخرج الأكل بغير الظُّلْمِ مثل أكْلِ الوليّ بالمعروف من مال اليتيم، وإلاَّ لم يكن لهذا التَّخصيص فائدة.
فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم
ذكر تعالى الأكل إلا أنَّ المراد منه كُلّ أنواع الإتلافات فإنَّ ضرر اليتيم لا يختلفُ بأن يكون إتلاف مال بالأكْلِ، أو بطريقٍ آخَرَ، وإنَّمَا ذكر الأكْلَ، وأراد به كُلَّ التَّصرفات المُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ:
أحدها: أنَّ عامَّة أموال اليَتَامَى في ذلك الوقت هو الأنعام الَّتي يؤكل لحومها وَيُشْرَبُ ألبانها فخرجَ الكَلاَمُ على عاداتهم.
وثانيها: أنَّهُ جَرَتِ العَادَةُ فيمن أنْفَقَ مَالَهُ في وجوه مراداته خيراً كانت أو شراً أنَّهُ يقال: إنَّهُ أكل ماله.
وثالثها: أنَّ الأكل هو المعظم فما يبتغي من التصرُّفات.
قوله: { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً من الثُّلاَثِيِّ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي، والأصل على هذه القراءة: سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضُمَّ ما قبل الواو ليصح و "أصْلَى" يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو { سَعِيراً }، وأن تكون للتَّعدية، فالمفعول محذوف أي: يُصْلُونَ أنفْسهم سعيراً.
وأبو حَيْوَةَ بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً.
قال أبُو البَقَاءِ: والتّضعيفُ للتكثير.
والصَّلْي: الإيقاد بالنَّارِ، يقال: صَلِيَ بكذا - بكسر العين - وقوله { لاَ يَصْلاَهَآ } أي: يَصْلَى بها.
وقال الخليلُ: صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي: قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ، هكذا قال الرَّاغِبُ. وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِل وَأفْعَل [بمعنى]، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَف.
وقال غيره: "صَلِيَ بالنَّارِ أي: تَسَخَّنَ بقربها" فـ { سَعِيراً } على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض. وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ "يَصْلاها" يَصْلَى بها قول الشاعر: [الطويل]

1763- إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا

وقيل: صَلَيْتُه النَّارَ: أدْنَيْتُه منها، فيجوزُ أنْ يكونَ منصوباً مِنْ غير إسقاطِ خافضٍ.
قال الفرَّاءُ: الصلى: اسم الوقود وهو الصِّلاء إذا كسرت مدّت، وإذا فتحت قُصِرَتْ، ومن ضَمَّ الياء فهو من قولهم: أصْلاَهُ اللَّه حَرَّ النَّار إصلاء، قال:
{ { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } [النساء: 30] وقال: { { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر: 26].
وقال أبو زَيْدٍ: يقال: صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً، وهُوَ صَالِي النَّارِ، وقوم صالون وصلاء، قال تعالى:
{ { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 163] وقال: { { أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } [مريم: 70] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها، ومنه: مُسْعِرُ حَرْبٍ، على التشبيه، والمِسْعَرُ: الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ.
فصل
روي أنَّهُ لما أنزلت هذه الآية ثقل ذلك على النَّاسِ فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكليَّةِ، فصعب الأمر على اليتامى، فنزل قوله تعالى:
{ { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [البقرة: 220] وزعم بعضهم أنَّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلْمِ وهذا لا يصير منسوخاً، بل المقصود أنَّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظُّلم فهو إثم عظيم كما في هذه الآية، وَإنْ كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [أبواب] البرّ، لقوله: { { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [البقرة: 220].