التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما ذَكَرَ الجِهَاد ذَكَرَ أحد الأمُور التي يَحْتَاج إليها المُجَاهِد، وهو مَعْرِفَة كَيْفِيَّة أداء الصَّلاةِ في الخَوْف، والاشْتِغَال بمُحارَبَة العَدُوِّ.
"أن تقصروا": هذا على حَذْفِ الخَافِضِ، أي: في أن تَقْصُرُوا، فيكونُ في مَحَلِّ "أنْ" الوَجْهَان المَشْهُوران، وهذا الجَارُّ يتعلَّقُ بلفظِ "جُنَاح" أي: فََليْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ في قَصْرِ الصَّلاة.
قال الوَاحِدِيُّ: يُقَال: قَصَرَ فلان صَلاَتهُ، وأقصرها وقَصَّرَها، وكُلُّ جَائِزٌ.
والجمهور على "تَقْصُروا" من "قَصَرَ" ثلاثياً، وقرأ ابن عبَّاس: "تُقْصِروا" من "أقْصر"، وهما لُغَتَان: قَصَر وأقْصَر، حكاهما الأزْهَرِيُّ، وقرأ الضَّبِيُّ عن رجاله بقراءة ابن عبَّاسٍ، وقرأ الزُّهري: "تُقَصِّروا" مشدِّداً على التَّكْثِيرِ.
قوله: "من الصَّلاة" في "مِنْ" وَجْهَان:
أظهرهُما: إنها تَبْعِيضيَّةٌ، وهذا مَعْنَى قول أبي البقاء، وزعم أنه مَذْهَب سيبويه، وأنَّها صفةٌ لمَحْذُوفٍ، تقديرُه: شيئاً من الصلاة.
والثاني: أنَّها زائدةٌ، وهذا رأيُ الأخْفَش فإنه لا يَشْتَرِطُ في زِيَادتها شيئاً، و "أن يَفْتِنَكم": مفعُول "خفِْتُم".
وقرأ عبد الله بن مَسْعُود، وأبَيُّ: "من الصَّلاة أن يفتنكُم" بإسقاط الجُمْلة الشَّرْطيّة، و "أن يفتِنَكُم" على هذه القراءة، مَفْعُولٌ من أجْله، ولغةُ الحِجَاز: "فَتَنَ" ثُلاثياً، وتميم وقَيْس: "أفْتَن" رُبَاعياً.
فصل
لفظ القَصْر مُشْعِرٌ بالتَّخْفِيف؛ لأنه لَيْس صريحاً في أنَّ المُرادَ: هو القَصر في عَددِ الركعَات، أي: في كيْفِيَّة أدائِها، فلا جَرَم حصل في الآيَة قولان:
الأوّل: قَوْل الجُمْهُور أنَّ المراد مِنْه: القَصْر في عدد الرَّكَعَات والقَائِلون بهذا القَوْلِ اختلفُوا على قَوْلَيْن:
الأوّل: أن المراد مِنْهُ: صلاة المُسَافِر؛ وهو أنَّ كُلَّ صَلاَةٍ تكُونُ في الحَضَر أرْبَع رَكَعَاتٍ، فإنها تَصِير في السَّفَرِ رَكْعَتِيْنِ، وعلى هَذَا إنَّما يَدْخُل القَصْر في الرُّبَاعِيَّة خاصَّة.
الثاني: أنَّ المراد: صلاَة الخَوْف في السَّفَر، وهو قَوْل ابن عبَّاسٍ، وجَابِر بن عبد الله، وجماعة، قال ابن عبَّاس: فَرَضَ اللَّه صلاة الحَضَر أرْبَعاً، وصلاة [السَّفر ركعتَيْن]، وصلاة الخَوْفِ رَكْعَةً على لسان نَبِيِّكُم صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن المُرَاد من القَصْر: التَّخْفِيف في كيْفِيَّة أداء الرَّكَعَات، وهو أن يُكتفى في الصَّلاة بالإيمَاءِ والإشَارَة بدل الرُّكُوع والسُّجُود، وأن يَجُوز المَشْيُ في الصَّلاة، وأن تجُوز الصلاة عند تلَطُّخ الثَّوْب بالدَّمِ وهو الصَّلاة حال التِحَام القِتَال، [وهو مَرْوِيٌّ عن ابْن عَبَّاسِ وطاووس، واحتَجُّوا: بأنَّ خوف فِتْنَة العَدُوِّ لا تَزُول فيمَا يُؤتَى بِرَكْعَتِيْن على تَمَامِ أوْصَافِهَا، وإنما عَيَّن ذَلِكَ فيما يَشْتَدُّ فيه الخَوْف حَالَ التِحام القِتَال]، وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنه يُمْكِن إن يُقَال: إن المُسَافر إذا كانَت الصَّلاة قَلِيلَة الرَّكَعَاتِ، فيمكنه أنْ يَأتِيَ بِهَا على وَجهٍ لا يَكُون خَصْمُه عَالِماً بَِكَوْنِهِ مُصَلِّياً أما إذا كثُرت الرَّكَعَات، طالَت الصَّلاة، ولا يُمْكِنُه أن يَأتِي بها على حين غَفْلَةٍ مع العَدُوِّ، وحَمْل لفظِ القصْر على إسْقَاط [بَعْض] الرَّكَعَاتِ أوْلَى لوجوه: أحدُها: ما رُوِيَ عن يعلى بن أمَيَّة أنَّه قال:
"قلت لعمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: كيف نَقْصُر وقد أمِنَّا، وقد قال الله - تعالى -: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ } فقال: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ؛ فَسَأَلْتُ الرَّسُولَ - عليه الصلاة والسلام - فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُم، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" وهذا يدلُّ على أن القَصْر المذكُور في الآية، وهو القصْرُ في عَدَدِ الركَعَاتِ.
الثاني: أن القَصْر عبارةٌ عن أن يؤتى بِبَعْض الشَّيْء ويقتصر عَلَيْه، فإمَّا أن يُؤتَى بشَيٍْ آخَرَ، فذلك لا يُسَمَّى قَصراً، ومعْلُوم: أن إقامَة الإيماء [مَقَامَ] الرُّكُوع والسُّجُود، وتَجويز المَشْي في الصَّلاة، وتَجْوِيز الصَّلاة مع الثَوْب المُلَطَّخ بالدَّم، ليس شيء من ذلك قَصْراً؛ بل كُلُّها إثباتٌ لأحْكَامِ جديدةٍ، وإقَامَة لشَيْءٍ مَقَامَ شَيْء آخَرَ.
الثالث: أن "مِنْ" في قوله: "مِنَ الصّلاة" للتَّبْعيضِ، وذلك يُوجِبُ جَوازَ الاقْتِصَارِ على بَعْضِ الصَّلاة.
الرابع: أن لَفْظَ القَصْر كان في عُرْفِهِم مَخصُوصاً بتنْقِيصِ عددِ الرَّكَعَاتِ، ولهذا لمَّا صلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهر رَكْعِتَيْنِ، قال ذو اليَدَيْنِ: "أقصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيتَ؟".
الخامس: القَصْر بمعنى: تغير هَيْئَةٍ [الصَّلاة] المَذْكُورة في الآيةِ الَّتِي بَعْدَهَا توجب أن يكُون المُراد من هذه الآيَة بَيَان القَصْر، بمعنى حذف بَعْض الرَّكعَات، لئلا يَلْزَم التَّكْرَار.
فصل هل الأفضل الإتمام أم القصر؟
قصر الصَّلاة في السَّفر جَائِز بالإجْمَاعِ، واخْتَلَفُوا في جواز الإتْمَام.
فذهب أكْثَرُهُم إلى أن القَصْرَ واجِبٌ، وهو قَوْل عُمَر وعَلِيِّ، وابن عُمَر، وجابر، وابن عبَّاس، وبه قال الحَسَن وعُمَر بن عَبْد العَزِيز، وقتادة، وهو قول مالِكٍ وأصحاب الرأي بما روتْ عائِشَة - رضي الله عنها -، قالت: "الصَّلاةُ أوَّل ما فُرِضت [رَكْعَتَيْن في الحَضَر والسَّفَر فأقِرَّتْ] صَلاَة السَّفَر، وأتِمَّت صَلاةُ الحَضَر".
وذهب قَومٌ إلى جواز الإتْمَام، رُوِيَ ذلك عن عُثْمَان [وسَعْد] بن أبِي وَقَّاصٍ، وبه قال الشَّافِعِيُّ إن شاءَ أتَمَّ، وإن شاءَ قَصَر، والقَصْر أفْضَل.
فصل
قال أهل الظَّاهِر: قَلِيلُ السَّفَر وكَثِيرُه سَوَاء؛ لِظَاهِر الآية، فإن الآيَة مرتَّبَةٌ من شَرْط وجَزَاء، فإذا وُجِدَ الشَّرْط وهو الضَّرْب في الأرْض، ترتَّبَ عَلَيْه [الجزاء] سواء كَانَ طَويلاً أوْ قَصِيراً، وذلك مَرْوِيٌّ عن أنَسٍ، وقال عَمْرو بن دِينَار: قال لي جَابر بن زَيد: أقْصِر بعَرَفَة.
فإن قيل: هذا يَقْتَضِي حُصُول الرُّخْصَة عند انْتِقَال الإنْسَان من مَحَلَّة إلى مَحَلَّة. فالجواب: لا نُسَلِّم أنَّ هذا ضَرْب في الأرْضِ، وإن سُلِّم، فنقول: الإجْمَاع مُنْعَقِدٌ على أنَّه غير مُعْتَبَر، فَهَذا تَخْصِيصٌ بالإجْمَاع، والعامُّ بعد التَّخْصيص حُجَّة.
وقال الجُمْهُور: إن السَّفر مات لم يتقدَّر بِمقْدَار مَخْصُوصٍ، لم تَحْصُل فيه الرُّخْصَة، وقالوا: أجْمَع السَّلَف على أنَّ أقَل السَّفِر مقدَّرٌ، لأنه رُوِيَ عن عُمَر أنَّه يَقْصِر في يَوْم تامٍّ؛ وبه قَالَ الزُّهرِي والأوْزَاعِيُّ.
وقال ابْن عَبَّاس: يَقْصرُ إذا زَادَ علي يَوْم ولَيْلَة.
قال أنَس: المُعْتَبَر خَمْسَة فَرَاسِخ، وقال الحَسَن: مَسِيرة لَيْلَتَيْن.
وقال الشَعْبِي، والنَّخعِي، وسعيد بن جُبَيْر: من الكُوفَة إلى المَدَائِن مسيرة ثلاثةَ أيّام، وهو قول أبِي حَنِيفَة، وروى الحَسَن بن زِيَاد، عن أبي حنيفة: أنَّهُ إذا سَافَر إلى موضع يكون مَسيرة يَوْمَيْن، وأكثر اليوم الثَّالِث، جاز القَصْر، وهكذا رَوَاهُ ابن سماعة، عن أبِي يُوسُف ومحمَّد.
وقال مَالِكٌ: أمْيَال بأمْيَال هَاشِم جَدَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدَّر أمْيَال البَادِية؛ كل ميلٍ اثْنَا عَشَر ألف قدم، وهي أرْبَعَةٌ آلاف خطوة، فإن كل ثَلاثَة أقْدام خُطْوة، قالوا: واختِلاَف النَّاس يدل على انْعِقَاد الإجْمَاع، على أن الحُكْم غير مَرْبُوط بِمُطْلَق السَّفَر.
قال أهل الظاهر: اضْطِرَابُهم يَدُلُّ على أنَّهم لم يَجِدُوا دَلِيلاً في تَقْدِير المُدَّة، إذ لو وَجَدُوه لما حَصَل الاضْطِرَاب، وأما سُكُوت [سَائِر] الصَّحَابَة؛ فلعَلَّه كان لاعْتِقَادِهم أنّ الآية دَالَّة على ارتِبَاط الحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَر، وإذا كان الحُكْم مَذْكُوراً في نَصِّ القُرْآن، لم يكن بِهِم حَاجَةٌ إلى الاجْتِهَاد والاستِنْبَاطِ؛ فلهذا سَكَتوا فاستدل الحَنفيَّة على تقدير المُدَّة بقوله - عليه الصلاة والسلام:
"يَمْسَحُ المُسَافِر ثَلاَثَة أيّامٍٍ" وهو يدل على أنَّه إذَا لَمْ يَحْصُل المَسْح ثلاثة أيَّام، لا يسَمَّى مسافِراً.
واستدل الشَّافعيَّة بما رَوَى مُجَاهِدٌ وعطاء، عن ابن عبَّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
"يا أهْل مَكَّة، لا تَقْصُروا في أدْنَى من أرْبَعة بُرُد من مَكَّة إلى عُسْفَان" قال أهل الظَّاهِر: وهذا تَخْصِيص لعُمُوم القُرْآن بخَيْر الوَاحِد، وهو لا يَجُوز؛ لأن القُرْآن مَقْطُوع به والخَبَر مَظْنُونٌ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رُوِيَ عَنِّي حديثٌ فاعْرِضُوه على كِتَاب اللَّه - [تعالى] -، فإن وَافق، فَاقْبَلُوه، وإلا فَرُدُّوهُ" وهذا مُخَالِفٌ لعموم الكِتَاب، وأيْضاً فإنها أخْبَار وردَتْ في وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الحاجَةُ إلى مَعْرفتها؛ لأن الصَّحابة - رضي الله عنهم - كانُوا في أكْثَر الأوْقَات في السَّفَر والغَزْو، فلو كَانَت الرُّخْصَة مَخْصُوصَة بِسَفَرٍ، مقدَّر، لعرفوها ونَقَلُوها نقلاً متواتراً، لا سِيَّمَا وهو عَلَى خِلاف ظَاهِر القُرْآن، وأيضاً: فدلائل الشَّافعيَّة ودلائل الحَنَفِيَّة متقابِلة مُتَدافعة فسقَطَت ووجبَ الرُّجُوع لِظَاهِرِ القُرْآنِ.
فصل
خصَّ أهلُ الظَّاهر جواز القصر بِحَال الخَوْف؛ لقوله - تعالى -: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ } والمَشْرُوط بالشَّيْءِ عدمٌ، عند عَدَمِ ذلك الشَّيءِ، ولا يَجُوز دفع هذا الشَّرط بأخْبَار الآحَادِ؛ لأن نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبر الوَاحِدِ لا يَجُوز.
قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } فقيل: إن يَفْتِنُوكم عن إتْمَام الرُّكُوع [والسُّجُود]، وقيل: "أن يفتنكم" أي يغلبكم الَّذين كَفَرُوا في الصَّلاة، ونَظِيرُه قوله: [تعالى]: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ } عن الصلاة؛ لأن كُلَّ مِحْنَة، وبَلِيّة، وشِدَّة فهي فِتْنَة، وجَواب الشَّرْط مَحْذُوف يَدُلُّ عليه ما قَبْلَه.
وقيل: الكَلاَم تَمَّ [عند قوله: "مِنَ الصَّلاة"] والجملة الشَّرْطيةُ مُسْتَأنَفةٌ حتى قيلَ: إنها نَزَلَت بعد سَنَةٍ عن نُزُول ما قَبْلَها، وجوابُه حينئذٍ أيْضاً مَحْذُوف، ولكن يُقَدَّرُ من جِنْسِ ما بَعْدَه، وهذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وتأخير نُزُولِهَا لا يَقْتَضِي استِئْنَافَهَا.
فصل
اخْتَلَفُوا متى يَقْصُر:
فالجُمْهُور على أنَّ المُسَافِر لا يَقْصُر حتَّى يَخْرُج من بُيُوت القَرْيَة [وحينئذٍ] هو ضَارِبٌ في الأرْضِ، وهو قول مَالِكٍ في المُدَوَّنة، وروي عنه: أنَّه إذا كَانَت قَرْية تَجمع أهْلُها لا يَقْصُرُ حتى يُجَاوِزَها بثلاَثَةِ أمْيَالٍ، وكذلك في الرُّجُوع، وعن الحَارِث بن أبي رَبيعة: إذا أرَادَ السَّفَر، يَقْصُرُ في مَنْزِلِه؛ فيكون مَعْنَى قوله - [تعالى] -: { إِذَا ضَرَبْتُمْ [فِي ٱلأَرْضِ } معناه]: إذا أرَدْتُم السَّفَر. وعن مجاهد: لا يَقْصُر يَوْمَه الأوَّل حتى اللَّيْل، وهذا شَاذٌّ؛ لأن النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم صلى الظُّهْر بالمَدِينَة [أرْبعاً]، وصلَّى العَصْرَ بذي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْن، وبين المَدينَة وذي الحُلَيْفَة سِتَّة أمْيالٍ، أو سَبْعَة.
فصل
وعلى المَسَافِر أن يَنْوِيَ القَصْرَ حين الإحْرَام، فإن افْتَتَحَ الصَّلاة بنيَّة القصر، ثُمَّ عزم على المُقَام في أثناء الصَّلاة، جعلها نَافِلَةً، فإن كان ذَلِكَ بَعْد أنْ صَلَّى منها رَكْعَةً [واحِدَة]، أضَاف إليها أخْرى [وسلَّم] ثم صلى صلاة مُقِيم، وقال الأبْهَرِيّ، وابن الجَلاَّب: هذا - والله أعْلم - اسْتِحْبَابٌ، ولو بَنَى على صَلاَته وأتمّها، أجْزأتْهُ.
قوله: { إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [و] المعنى: إن العدَاوَة بَيْنَكُم وبَيْنَ الكَافِرين قَديمَةٌ، والآن قد أظْهَرْتُم خلافَهُم في الدِّين فازْدَادَت عَدَاوتُهم لَكُم، فمن شِدَّة العَدَاوة، حارَبُوكم وقَصَدُوا إتلافكُم إن قَدَرُوا، فإن طَالَتْ صَلاتُكُم، فرُبَّمَا وَجَدُوا الفُرْصَة في قَتْلِكُم؛ فلهذا رَخَّصْتُ لَكُم في قَصْر الصَّلاة.
قوله "لكم" متعلِّقٌ بمَحْذُوف: لأنه حالٌ من "عَدُوّاً"، فإنه في الأصْل صِفَةُ نَكِرَةٍ، ثم قُدِّم عَلَيْها، وأجاز أبُو البَقَاء أن يتعلَّق بـ "كَانَ"، [وفي المَسْألة] كَلاَمٌ مرَّ تَفْصِيلُه. وأفْرد "عَدُوّاً" وإن كَانَ المُرَادُ به الجَمْعَ لأنَّ العدُوَّ يسْتَوِي فيه الوَاحِد والجمع؛ قال - تعالى -:
{ { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ } [الشعراء: 77] وقد تقدّم تَحْقِيقُه في البَقَرة.
فصل في معنى الآية
قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } متَّصِل بما بَعْدَه من صَلاَةِ الخَوْفِ، منفصل عَمَّا قَبْلَه، رُوِيَ عن أبي أيُّوبٍ الأنْصَارِي، أنَّه قال: نَزل قَوْلُه: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } هذا القَدْر، ثمَّ بعد حَوْلٍ سألُوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن صَلاَةِ الخَوْفِ؛ فنزل: "إن خفتم" أي: وإن خِفْتُم { أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً، وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ }.
ومثله في القُرْآن كَثِيرٌ [أن] يجيء الخبر بِتَمَامِه، ثم يُنسق عَلَيْه خبرٌ آخَر، وهو في الظَّاهِر كالمُتَّصِل به، وهو مُنْفَصِلٌ عنه؛ كقوله - تعالى -:
{ { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [يوسف: 51] هذه حكاية عن امْرَأة العَزِيز، وقوله: { { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [يوسف: 52]، إخبارٌ عن يُوسُف - عليه الصلاة والسلام -.