التفاسير

< >
عرض

وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً
١٢٦
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

في تعلُّق الآيَة بما قَبْلَها وُجُوه:
أحدها: [أن المعنى] أن الله لم يَتَّخِذْ إبْرَاهِيم خليلاً لاحتياجه إلَيْه في شَيْءٍ كخلةِ الآدميِّين، وكيف يُعْقَل ذلك، وله مُلْك السَّموات والأرض، وإنما اتَّخَذَهُ خليلاً لمحض الكَرَم.
وثانيها: أنَّه - تعالى - ذكر من أوَّل السُّورة إلى هذا المَوْضِع أنْواعاً كَثِيرَة من الأمر والنَّهْي، والوعْد والوَعيد، وذكر في هَذِه الآيَة أنَّه إلَه المُحْدَثَاتِ، وموجِدُ الكائِنَاتِ، ومن كان مَلِكَاً مطاعاً، وجب على كُلِّ عاقلٍ أنْ يَخْضَعَ لتكاليفه، ويَنْقَادَ لأمْرِه.
وثالثها: أنه - تعالى - لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ، ولا يمكن الوَفَاءُ بهما إلا بأمْرَيْن:
أحدهما: القُدْرةُ التَّامَّة [المتعلِّقة] بجميع الكَائِنَات والمُمْكِنَات.
والثاني: [العِلْم] المتعلِّق بجميع الجُزْئِيَّات والكُلِّياتِ؛ حتى لا يَشْتَبه عليه المُطِيعُ، والعَاصِي، والمحسن والمُسِيءُ؛ فدلَّ على كَمَال قُدْرَته بِقَوْله: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }، وعلى كَمَال عِلْمِهِ بقوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً }.
ورابعها: أنه - تعالى - لمّا وصَفَ إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام - بأنه خَلِيلُه، بين أنَّه مع هذه الخُلَّة عَبْدٌ لَهُ، وذَلِك أنَّ له مَا فِي السَّمواتِ ومَا في الأرْض، ونَظِيرُه قوله تعالى:
{ { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم: 93] ويجري مُجْرَى قوله: { { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [النساء: 172] يعني: أنَّ الملائكة مع كَمَالِهِم في صِفَةِ القُدرةِ، والقوَّة في صِفَة العِلْم والحِكْمَة، لم يَسْتَنْكِفُوا عن عِبَادة اللَّه؛ كذا هَهُنا، يعني: إذا كَانَ كل من في السَّموات والأرْض مِلْكُه في تَسْخِيره، فكَيْفَ يعْقَل أن يُقَالَ: إن اتِّخَاذ اللَّه إبْراهيم خَلِيلاً، يخرجه عن عُبُودِيَّة اللَّه.
فصل
إنما قال: { مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ولم يقل "مَنْ" لأنه ذَهَب به مَذْهَبَ الجِنْس، والذي يُعْقَل إذا ذُكِر وأريد به الجنْسُ، ذكر بـ "مَا".
قوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } فيه وَجْهَان:
أحدهما: المُرَاد مِنْهُ: الإحاطة في العِلْم.
والثاني: الإحَاطَة بالقُدْرَة؛ كقوله:
{ { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } [الفتح: 21].
قال القَائِلُون بهذا القَوْل: وليس لِقَائِلٍ أن يَقُولَ: لمَّا دل قوله: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } على كمال القُدْرَةِ، لزم التَّكْرَار؛ لأنَّا نقول إنَّ قوله { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [لا يفيد ظاهره] إلا كونه قَادِراً على ما يَكُون خَارِجَاً عَنْهُمَا، ومغايراً [لهما]، فلما قال: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } دلَّ ذلك على كَوْنه قَادِراً على ما لا نهاية له من المَقْدُورَات خَارِج هذه السَّمَواتِ والأرْضِ.