التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٢٤
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ } قرأ الجمهور { وَٱلْمُحْصَنَاتُ } بفتح الصاد سواء كانت معرفة بأل أم نكرة والكسائي بكسرها في الجميع إلاَّ في قوله { وَٱلْمُحْصَنَاتُ } في هذه الآية فَإنَّهُ وافق الجمهور فأما الفتح ففيه وجهان:
أشهرهما: أنَّهُ أسْنَدَ الإحصان إلى غيرهن، وهو إما الأزْوَاجُ أو الأولياء، فَإنَّ الزَّوج يحصن امرأته أي يعفها، والولي يحصنها بالتَّزويج أيضاً واللَّهُ يحصنها بذلك.
والثَّاني: أنَّ هَذَا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور منها، يعني: أنه اسم فاعل، وَإنَّمَا شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ أحصن، فهو مُحْصَنٌ، وَألقح فهو مُلْقَحٌ، وأسْهَبَ فهو مُسْهَبُ، وَأمَّا الكسرُ فَإنَّهُ أسند الإحصان إليهن؛ لأنَّهُنَّ يحصن أنفسهن بعفافهن، أو يحصن فروجهن بالحفظ، أو يحصن أزواجهن، وَأمَّا استثناء الكسائي الآية لتي هنا قال: لأن المراد بهن المُزَوَّجَات، [فالمعنى أنَّ أزواجهن أحصنوهن فهنَّ مفعولات، وهذا على أحد الأقوال في المحصناتِ هنا منهنَّ على أنَّهُ قد قُرِئَ شاذاً بالكسر في هذا أيضاً قال: وإنْ أُرِيدَ بهن المزوّجات]؛ لأنَّ المراد أحصن أزواجهن، و فروجهن وهو ظاهر.
وقرأ يزيد بن قطيب: "والمُحْصُنات" بضمّ الصّاد كأنَّهُ لم يعتد بالساكن فأتبع الصّاد للميم كقولهم: "مَنْتُن"، وأصل هذه المادة الدَّلالة على المنع ومنه الحصن؛ لأنَّهُ يمنع به، و "حصان" بالكَسْرِ للفرس من ذلك، ومدينة حصينةٌ ودرع حصينة أي: مَانِعَةٌ صاحبها من الجراح، قال تعالى
{ { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ } [الأنبياء: 80] أي: لتمنعكم، والحَصَانُ: بالفتح المرأة العفيفة؛ لمنعها فرجها من الفَسَادِ، قال تعالى: { { ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ } [التحريم: 12]، ويقال: أحْصَنَتِ المرأةُ وَحَصُنَتْ، ومصدر حَصُنَتْ: "حصن" عن سيبويه، و "حصانة" عن الكِسَائِيِّ، وأبي عبيدةَ، واسمُ الفاعل من أحْصَنَتْ مُحْصَنَةٌ، ومن حَصُنَت حَاصِنٌ، قال الشاعر: [الرجز]

1780- حَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسِ مِن الأذى وَمِنْ قرافِ الْوَقْسِ

ويقالُ لها "حصان" كما تقدم [بفتح الحاء] قال [حَسَّان] يصف عائشة رضي الله عنها: [الطويل]

1781- حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ

فصل [معنى الإحصان]
والإحْصَان ورد في القرآن [بإزاء] أربعة معان: التزّوج كهذه الآية لأنَّهُ عطفت المحصنات على المحرّمات، فلا بدّ وأنْ يكون الإحصان سبباً للحرمة، ومعلوم أن الحرية والعفاف، والإسلام لها تأثير لها في ذلك، والمرْأةُ المزوّجة محرمة على الْغَيْرِ.
الثَّاني: العِفَّةُ قال تعالى:
{ { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } [النساء: 25] وقوله { { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [المائدة: 5] { { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [الأنبياء: 91] أي: أعَفَّتْهُ.
الثالث: الحرية في قوله:
{ { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } [النور: 4] يعني الحرائر؛ لأنَّهُ لو قَذَفَ غَيْرَ حرَّةٍ لم يجلد ثمانين جلدة. وكذا قوله { { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [النساء: 25] وقوله: { { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } [النساء: 25].
الرَّابعُ: الإسلام قال تعالى: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } قيل في تفسيره فإذا أسْلَمْنَ، وهذا يقع معرفته في الاستثناء الواقع بعده، وهو قول بعض العلماء، فإنْ أُرِيدَ به هنا التَّزوج كان المعنى: وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات، قال أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنَّ أزواج فيتزوّجْنَ بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فَنَهى اللَّهُ عن نكاحهن [ثم استثنى] فقال: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } يعني بالسّبي، [ولهن أزواج في دار الحرب يحل لمالكهن وطؤهنّ بعد الاستبراء؛ لأنَّ بالسّبي] يرتفع النِّكاح بينها وبين زوجها.
قال أبُو سَعيدٍ الخُدْرِيُّ: بعث رسولُ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس فأصابوا سبايا لَهُنَّ أزْوَاج من المشركين فكرهوا غشيانهن وتحرجوا، فأنزل الله هذه الآية.
وقال عطاءٌ: يريد أنْ تكون أمته في نكاح عبده يجوز أن ينزعها منه.
وقال ابن مسعود: أرَادَ أنْ يبيع الجارية المزوّجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها، ويكون بيعها طلاقاً فيحل للمشتري وطؤها وهذا قول أبيّ بن كعب وابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وجابر، وأنس - رضي الله عنهم - وقال علي، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف: إنَّ الأمة المزوجة إذَا بيعت لا يقع عليها الطَّلاق، وعليه إجْمَاعُ الفقهاء اليوم؛ لأنَّ عائشة - رضي الله عنها - لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النَّبي صلى الله عليه وسلم وكانت متزوجة فلو وقع الطلاق بالبيع لما كان في ذلك فائدة، وحجة الأوَّلين ما روي في قصة بَريرةَ أنَّه عليه الصلاة والسَّلامُ قال:
"بيع الأمة طلاقها" قالوا: فَإذَا ملكت الأمة حَلَّ وطؤها سواء ملكت بشراء، أو هبة أوْ إرث ويدل على أنَّ مُجَرَّد السّبي يحلُّ الأمة قول الْفَرَزْدَق: [الطويل]

1782- وذَاتِ حَلِيلٍ أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ

يعني: أنَّ مجرد سبائها أحَلَّهَا بعد الاستبراء، وإنْ أُريد به الإسلام، أو العفّة فالمعنى: أنَّ المسلمات العفيفات حرام كلهنَّ، [يعني] فلا يزنى بهن إلا مَا مُلِكَ منهنّ بتزويج نكاح جديد بعد وقوعه البَيْنُونَةِ بينهن وبين أزواجهم أو ما ملكت يمين إن كانت المرأة مملوكة، فيكون المراد بما ملكت أيمانكم التّسلط عليهن، وهو قدر مشتركٌ، وعلى هذه الأوجه الثَّلاثة يكون الاستثناء متصلاً، وإذا أريد الحرائر، فالمرادُ إلا بما ملكت [أيمانكم] بملك اليمين ويدل عليه قوله بعد ذلك { { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } [النساء: 25] فكان المراد [بالمحصنات هنا هو المراد] هناك، وعلى هذا ففي قوله { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } وجهان:
الأوَّلُ: أنَّ المراد منه إلاَّ العقد الذي جعله اللَّه تعالى ملكاً لكم وهو الأربع.
والثَّاني: أنَّ الحرائرَ محرمات عليكم إلا ما أثبت اللَّهُ لكم ملكاً عليهنَّ بحضور الولي والشُّهود والشُّروط المعتبرة في النِّكاح، وعلى هذا [فَإنَّ] الاستثناء منقطع.
قوله { مِنَ ٱلنِّسَآءِ } في محلِّ نصب على الحال كنظيره المتقدّم.
وقال مَكِّيٌّ: فائدةُ [قوله] { مِنَ ٱلنِّسَآءِ } أنَّ المحصنات يقع على الأنفس فقوله: { مِنَ ٱلنِّسَآءِ } يرفع ذلك الاحتمال، والدَّلِيلًُ على أنَّهُ يراد بـ "المحصنات" الأنفس قوله
{ { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } [النور: 4] فلو أُرِيدَ به النِّساء خاصَّةً لما حُدَّ مِنْ قذف رجلاً بنصّ القرآن، وقد أجمعوا على أنَّ حدَّه بهذا النَّص. انتهى.
قال شهَابُ الدِّينِ: وهذا كلام عجيبٌ؛ لأنَّهُ بعد تسليم ما قاله في آية النُّور كيف يتوهَّم ذلك هنا أحد من النَّاس.
فصل [في سبي أحد الزوجين]
اتَّفَقُوا على أنَّهُ إذَا سبي أحد الزَّوْجَيْنِ قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة بينهما، فإنْ سُبِيَا معاً، قال الشَّافِعِيُّ: تزول الزَّوجيّة ويستبرئها المالك.
وقال أبُو حَنِيفَةَ لا تزول الزَّوجيَِّة.
واستدلَّ الشافعيُّ بقوله { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } فيقتضي تحريم ذوات الأزواج ثم قال { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } يقتضي أن عند طريان الملك ترتفع الحرمة ويحصل الحل.
قال أبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إن حصلت الفُرْقَةُ بمجرد طريان الملك فوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها [وإرثها] وليس ذلك واجب، فإنَّ العام بعد التَّخصيص حجة في الباقي، وأيضاً فالحاصل عن السَّبي إحداث الملك، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص، فكان الأوَّل أقوى.
قوله [{ كِتَابَ ٱللَّهِ }] في نصبه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّهُ منصوبٌ على أنَّهُ مصدر مؤكّد بمضمون الجملة المتقدِّمة قبله، وهي قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } ونصبه بفعل مقدر [تقديره] كتب الله ذلك عليكم كتاباً، والمعنى: كتب اللَّهُ عليكم تحريم ما تقدَّمَ ذكره من المحرمات كتَاباً مِنَ اللَّهِ، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير. قال تعالى
{ { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ } [النمل: 88]، وأبعد عبيدة السلماني في جعله هذا المصدر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم [من النساء }].
الثاني: أنه منصوب على الأغراء بـ "عليكم" والتقدير: عليكم كتاب الله، أي: الزموه كقوله تعالى
{ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } [المائدة: 105] وهذا رأي الكِسَائيِّ ومن تابعه أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإغراء مستدلِّينَ بهذه الآية، وبقول الشَّاعِرِ: [الرجز]

1783- يَأيُّهَا المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا إنِّي رَأيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَا

فـ "دَلْوِي" منصوبٌ بدونك تقَدَّمَ، والبصريون يمنعون ذلك، قالوا: لأنَّ العامل ضعيف، وتأوَّلُوا الآية [على ما تَقَدَّمَ] والبيتَ على أنَّ "دَلْوِي" منصوب بالمائِحِ أي: الَّذِي مَاحَ دلوي.
والثَّالثُ: أنَّهُ منصوبٌ بإضْمَارِ فعل أي: الزموا كِتَابَ اللَّهِ [وهذا قريب من الآخر.
وقال أبُو الْبَقَاءِ: هذا الوجه تقديره: الزموا كِتَاب اللَّهِ] وعليكم: إغراء يعني: أنَّ مفعوله قد حُذِفَ للدلاَلَةِ بـ { كِتَابَ ٱللَّهِ } عليه. أيْ عليكم ذلك فيكون أكثر تأكيداً، وأمَّا عليكم فقال أبُو الْبَقَاءِ: إنَّهَا على القَوْلِ بأنَّ كِتَابَ اللَّهِ مصدرٌ يتعلَّقُ بذلك الفعل المقدر النَّاصب لكتاب، ولا يتعلَّق بالمصدر وقال: لأنَّهُ هنا فَضْلة، قال: وقيل: يتعلَّق بنفس المصدر؛ لأنَّهُ ناب عن الفعل حيثُ لم يذكر معه فهو كقولك: مروراً بِزَيْدٍ، قلت وَأمَّا على القول بأنَّهُ [إغراء فلا محل له من الإعراب لأنه واقع موقع فعل الأمر وأما على القول بأنَّه] منصوبٌ بإضْمَارِ فعل أي الزموا فَعَلَيْكُمْ متعلِّقٌ بنفس كتاب، أو محذوف على أنَّهُ حالٌ منه.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ "كتب الله" على أن "كتب" فعل ماض و"الله" فاعل به، وهو يؤيدُ كونه منصوباً على المصدر المؤكد.
وقرأ ابنُُ السّميفع اليمانيُّ "كُتُبُ الله" جعله جَمْعاً مرفوعاً مضافاً للَّهِ تعالى على أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه كُتُبُ اللَّهِ عليكم.
قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ } قرأ الأخوانِ وحفصٌ عن عاصمٍ { وَأُحِلَّ }، مبنيِّا للمفعول والباقُونَ مبنيًّا للفاعل، وكِلْتَا القراءَتَيْنِ الفعل فيما معطوف على الجملة الفعليَّةِ من قوله { حُرِّمَتْ }، والمُحَرَّمُ والمُحَلَّلُ: هو اللَّهُ - تعالى - في الموضعين سواء صرَّح بإسناد الفعل إلىِّ ضميره، أو حذف الفاعل للعلم بِهِ، وادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ قراءة { وَأُحِلَّ } مبنياً للمفعول [عطف على { حُرِّمَتْ } ليعطف فعلاً مبنياً للمفعول] على مثله، [أي حرمت المبني للمفعول] وَأمَّا على قراءة بنائه للفاعل فَجَعَلَهُ معطوفاً على الفعل المقدَّر النَّاصِبِ لكتاب [كأنه قيل: كتب اللَّهُ عليكم تحريم ذلك، وأحَلَّ لكم ما وراء ذلكم.
قال أبُو حَيَّان: وما اختاره يعني من التَّفْرِقَةِ بين القِرَاءَتَيْنِ غير مختار؛ لأنَّ النَّاصب لكتاب اللَّه] جملة مؤكدّة لمضمون الجُمْلَة من قوله { حُرِّمَتْ } إلى آخره، وقوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ } جملة تأسيسية، [فلا يناسب أنْ تعطف إلاَّ على تأسيسية مثلها لا على] جملة مؤكدة، والجملتان هنا متقابلتان إذْ إحْدَاهُمَا للتحريم، والأخرى للتحليل فالمناسب أن تعطف إحْدَاهُمَا على الأخرى لا على جملة أخرى غير الأولى، وقد فعل هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول، فليكن هذا مثله.
قال شهاب الدِّينِ: وفي هذا الرد نظر [لأنَّ تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى وما ذكره أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهره وقد تبع البيضاويُّ الزَّمَخْشَرِيَّ في التفرقة فتأمل.
قوله] { ما وراء ذلكم } مفعول به إما منصوب المحل أوْ مرفوع على حسب القراءتين في "أحل".
فصل
ظاهر قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } يقتضي حِلَّ كُلِّ من سوى الأصناف المذكورة إلا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ على تحريم أصناف أخرى سوى [الأصناف] المذكورين، لقوله عليه السلام:
"لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا" وزعم الخوارجُ أنَّ هذا خبر واحد، فلا يجوزُ أن يخصَّ به القرآن لوجوه:
أحَدُهَا: أنَّ عموم الكتاب مقطوع وخبر الواحد مظنون المتن، فَكَانَ أضعف فترجيحُهُ يقتضي تقديم الأضعف على الأقوى، وهو لا يجوز.
وثانيها: حديث معاذٍ حين قال عليه السَّلام:
"بِمَ تَحْكُم؟ قال: بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَإنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ" فقدَّمَ التَّمَسُّكَ بالكتاب على التَّمَسُّكِ بالسُّنَّةِ [وعلق جواز التمسك بالسُّنَّة على عدم الكتاب بكلمة "إن" والمتعلّق على شرط عدم عند عدم الشِّرط.
وثالثها: قوله عليه السَّلام:
"إذَا رُوِيَ لَكُم عَنِّي حَدِيثٌ فاعْرِضُوهُ عَلَى كتابِ اللَّهِ فَإنْ وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ وَإلاَّ فَرُدُّوهُ" .
هذا يقتضي ألاَّ يقبل خبر الواحد إلا عمد موافقة الكِتَابِ.
ورابعها: أنَّ قوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } مع قوله عليه السلام
"لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا" لا يخلو من ثَلاثَةِ أوجه: إمَّا أن تكون الآية نزلت بَعْدَ الخبر فتكون الآية ناسخة له؛ لأنَّ العام إذَا ورد بعد الخاصّ ينسخ الخاصّ، وَإما أنْ يكون الخبر ورد بعد الكِتَابِ فيقتضي نسخَ القرآن بخبر الوَاحِدِ، وإنه لا يجوز وإمَّا أنْ يردا معاً، وهذا أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّ [على] هذا التَّقْدِيرِ تكون الآية وَحْدَهَا غير مَبْنِيَِّةٍ، وتكونُ الحجَّةُ مجموع الآية والخبر. ولا يجوزُ للِرَّسُولِ أنْ يسعى في تشهير الشُّبْهَةِ، ولا يسعى في تشهير الحجَّة، فكان يجب عليه ألاَّ يسمع أحَدٌ هذه الآية إلاّ مع [هذا] الخبر، ويوجب على الأمَّةِ ألاَّ يبلغوا هذه الآية أحداً إلا مع هذا الخبر، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساوياً لاشتهار هذه الآية، ولما لم يكن كذلك عُلِمَ فساد هَذَا القسم.
وخامسُهَا: أنَّ بتقدير صحَّةِ هذا الخبر قطعاً إلا أنْ التَّمسُّكَ بالآية راجحٌ عليه لوجهين:
الأوَّلُ: أنَّ قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } نص صريح في التحليل كما أن قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } نص صريح في التحريم.
وأما قوله:
"لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا [وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا]" فليس نصاً صريحاً؛ لأنَّ ظاهره إخبار، وحمل الإخبار على النَّهي مجاز، وإن سلّمنا كونه نهياً فدلالة النَّهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ [الإحْلاَلِ] على معنى الإبَاحَةِ.
الثَّانِي: أنَّ الآية صريحة في تحليل كُلِّ ما سوى المذكورات والحديثُ ليس صريحاً في العموم بل احتماله للمعهود السَّابق أظهر.
وسادسها: أنَّهُ تعالى اسْتَقْصَى في هذه الآيةَ شرح أصْنَافِ المحرَّمات فعدَّ منها خَمْسَةَ عَشرَ صنفاً، ثُمَّ بعد هذا التّفصيل التَّام والاستقصاء الشّديد قال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } فلو لم يَثْبُت الحلُّ في كُلِّ من سوى هذه الأصناف المذكورة، لكانَ هذا الاستقصاء عبثاً، ولغواً، وذلك لا يليق بالحكيم. والجوابُ من وُجُوهٍ:
الأول: قال الحَسَنُ وأبو بَكْرٍ الأصَمُّ إنَّ قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } لا يقتضي إثبات الحل على التأبيد؛ لأنَّهُ يصحُّ [تقسيم] هذا المفهوم إلى المؤبد، وإلى غير المؤبَّد، فيقال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } أبداً، ويقال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } إلى الوقت الفلانِيِّ، ولو كان صريحاً في التَّأبيد لما كان هذا التقسيم ممكناً في الآية، فالآية لا تُفِيدُ [إلاَّ] إحلال من سوى المذكورات، والعقلُ يشهد بأنَّ الإحلال أعمّ من الإحلال المؤبّد، ومن الإحلال المؤقّت، فالآيةُ لا تفيد إلا حلّ مَنْ عدا المذكورات في ذلك الوقت، فأمَّا ثبوتُ حكمهم في سائر الأوقات فَمَسْكُوتٌ عنه، وقد كان حِلُّ من سوى المَذْكُوراتِ ثَابِتاً في ذَلِكَ الوقت، وطريان حرمة بعضهم بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ تَخْصِيصاً لذلك النَّصِّ ولا نسخاً له، وبهذا الطَّرِيق يظهر أنَّ قوله
{ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: 23] ليس نصّاً في تأبيد هذا التَّحريمِ، وَإنَّمَا عرفنا ذلك التَّأبيد بالتَّواتر من دين محمد - عليه الصلاة والسلام -.
الثَّانِي: أنَّ حرمة الجمع بَيْنَ الأخْتَيْنِ لِكَوْنِهِما أخْتَيْنِ يناسبُ هذه الحرمة؛ لأنَّ الأخْتيَّة قَريبَةٌ فناسبت مزيد الوصلة والشّفقة والكرامة، فكون إحداهما ضرَّة الأخْرَى موجبٌ الوَحْشَةَ العظيمةَ والنُّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ كالأختية تناسب حرمة الجمع بينهما في النِّكَاحِ لما ثبتَ في أصُول الْفِقْهِ: أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ مع الوَصْفِ المُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بالعِلّيةِ، وهذا المعنى مَوْجُودٌ فِي المْرأةِ وعمَّتِهَا، وخالَتِهَا، بل أولى؛ لأنَّ العمّة [والخَالَة] تشبهان الأمِّ.
والثَّالِثُ: أنَّهُ تعالى نَصَّ على تَحْرِيمِ أمَّهَاتِ النِّسَاءِ، ولفظُ الأمِّ قد ينطلقُ على العَمَّةِ والخَالَةِ، أمَّا العمَّةُ فلقوله تعالى مخبراً عن أوْلاَدِ يعقوب عليه السَّلامُ
{ { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة: 133] فأطلق لفظ الأبِ على "إسماعيل" مع أنَّهُ كان عَمّاً وإذا كان العَمُّ أباً لزم أن تكون العَمَّة أمًّا، وأمَّا إطلاق لفظ "الأمِّ" على الخالة فقوله تعالى { { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [يوسف: 100] والمراد أبوه وخالته، فإنَّ أمَّه كانت مُتَوَفَّاة في ذلك الوقتِ فثبت أن قوله { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } يتناولُ العمَّةَ والخَالَةَ من بعض الوُجُوهِ وإذا كان كذلك فلم يكن قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } متناولاً له، وَإنَّمَا تناولتهم آية التحريم في قوله { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } إمَّا بالدلالة الصَّريحة، أو الجليّة، أو الخفية.
الرَّابعُ: أنْ تقولَ: يجوز تخصيصُ عموم الكِتَاب بخبر الوَاحِدِ الصّنف الثَّاني من المحرَّمات، والخارجة من هذا العموم: المطلقة ثلاثاً، ونكاح المُعْتَدَّة، ومن كان متزوّجاً بحرّة لم يجز له أن يَتَزَوَّج أمَةً، وتحريم الخامسة، وتحريم الملاعنة لقوله عليه الصلاة والسلام:
"المُتَلاَعِنَانِ لا يَجْتَمِعَان أبَداً" .
قوله { أَن تَبْتَغُواْ } في محلّه ثلاثة أوْجُهٍ:
الرَّفُعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ فالرَّفْعُ على أنَّهُ بدل من { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } على قراءة أحِلَّ مبْنِياً للمفعول [لأنّ "ما" حينئذٍ قائِمَة مقامَ الفَاعلِ؛ وهذا بدل منها بدل اشتمال، وَأمَّا النَّصْبُ فالأجود أن يكون على أنَّهُ بدل من "مَا" المتقدّمة على قراءة "أَحَلَّ" مبنيّاً للفاعل] كأنه قال: وأحل لكم ابتغاء أموالكم من تزويج أو ملك يمين، وأجاز الزَّمَخْشَرِيُّ أن يكونَ نصبه على المفعول من أجْلِهِ، قال: بمعنى بَيَّنَ لكم [ما يَحِلُّ مما] يحرم إرادة أنْ يَكُونَ ابتغاؤكم بأموالكم الَّتي جعل اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً في حال كونكم مُحْصِنِينَ، وأنحى عليه أبُو حَيَّانَ وجعله إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دسيسة الاعتزال ثم قال: فَظَاهِرُ الآية غير ما فَهِمَهُ إذ الظِّاهِرُ أنَّهُ تعالى أحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المُحَرَّماتِ السَّابق ذكرها بأمْوَالِنَا حَالَةَ الإحْصَانِ؛ لا حالةَ السِّفَاح، وعلى هذا الظَّاهِرِ لا يجوز أن يعرب { أَن تَبْتَغُواْ } مفعولاً له، لأنَّهُ فات شرط من شُرُوطِ المفعول له، وهو اتِّحاد الفاعِلِ في العامل والمفعول له؛ لأنَّ الفاعِلَ بـ "أحل" هو اللَّهُ - تعالى -، والفاعل في { تَبْتَغُواْ } ضمير المخاطبين، فقد اخْتَلَفَا ولما أحسّ الزمخشريُّ إن كان أحس جعل "أن تبتغوا" على حذف إرادة حتّى يتحد الفاعل في قوله { وَأُحِلَّ } في المفعول له، ولم يجعل { أَن تَبْتَغُواْ } مفعولاً له إلاّ على حذف مضاف، وَإقامتهِ مُقَامهُ، وهذا كلُّهُ خروجٌ عن الظَّاهِر انتهى.
قال شهابُ الدِّينِ: ولا أدْرِي ما هَذَا التَّحمل، ولا كيف يخفى عَلَى أبي القاسم شرط اتحاد الفاعلِ في المفعولِ لَهُ حتّى يقول: إنْ كان أحسّ، وأجاز أبُو البقاءِ فيه النَّصْبَ على حذف حَرْفِ الْجَرِّ. قال أبُو البَقَاءِ: في "ما" من قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وجهان:
أحدُهمَا: هي بمعنى "مِنْ" فعلى هذا يكون قوله { أَن تَبْتَغُواْ [بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ }] في موضع جرٍّ أو نصبٍ على تقديرِ بأن تبتغوا؛ أو لأنْ تبتغوا، أي أبيح لكم غير ما ذكرنا من النِّساء بالمُهُورِ.
والثَّاني: أنَّ "ما" بمعنى الذي، والذي كناية عن الفعلِ، أي: وأحلّ لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم، و { أَن تَبْتَغُواْ } بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكون "أن تبتغوا" في هذا الوَجْهِ مثله في الوجه الأوَّلِ، يعني: فيكونُ أصله بأن تَبْتَغُوا، أو لأن تبتغوا، وفيما قاله نظرٌ لا يخفى، وأمَّا الجرُّ فعلى ما قاله أبُو البَقَاءِ، وقد تَقَدَّم ما فيه.
و { مُّحْصِنِينَ } حال من فاعل تبتغوا، و { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حال ثانية، ويجوزُ أن يكون حالاً من الضَّمَيرٍ في { مُّحْصِنِينَ }، ومفعول مُحصنينَ ومُسافحينَ محذوف، أي: محصنين فُرُوجَكُمْ غير مسافحين الزَّوَانِي، وكأنَّها في الحقيقةِ حال مؤكدة؛ لأنَّ المحصن غير مسافح، ولم يقرأ أحدٌ بفتح الصَّادِ من محصنين فيما نعلم. والسَّفَاحُ الزِّنَا.
قال اللَّيث: السَّفَاحُ والمُسَافحةُ: الفجور، وأصله الصَّبُّ، يقال: دموع سَوَافِحُ ومسْفُوحةٌ.
قال تعالى:
{ { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [الأنعام: 145] وفلان سَفَّاحٌ للدِّماءِ، وسمي الزِّنَا سفاحاً؛ لأنَّهُ لا غرض للزَّاني إلا صب منيه، وكانوا يَقُولُونَ صافحني ومَا ذَمَّنِي والمسافحُ من يظاهر بالزِّنَا، ومتّخذ الأخْدَان من تستر فاتَّخَذَ واحدة خفية.
فصل [الخلاف في قدر المهر]
قال أبُو حنيفة: لا مهر أقلَّ من عشرة دراهم، وقال غيره: يجوزُ بالقليل والكثير، واحتج أبُو حنيفة بهذه الآية؛ لأنَّهُ تعالى قَيَّد التحليل بالابتغاء بالأموال و [الدِّرهم] والدرهمان لا يسمّى أموالاً، فلا يصحُّ جعلها مهراً.
فإن قيل: ومَنْ عنده عشرة دراهم، لا يقال عنده أموال مع أنَّكُم تجوزونها مَهْراً قلنا: ظاهر الآيةِ يقتضي ألاَّ يكون العشرة كافية، إلا أنَّا أنزلنا العملَ بظاهر هذه الآية للإجْمَاعِ على جوازه، ويتمسَّك في الأقل من العشرة بِظَاهِرِ الآية وهذا استدلال ضعيف؛ لأنَّ الآية دَلَّت على أنَّ الابتغاء بالأموال غير جائز، وليس فيها دلالة على أنَّ الابتغاء بغير الأموال غير جائز، إلاّ على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولُونَ به، واستدلّ المخالف بوجوه:
أحدها: قوله { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ } فقابل الجَمْعُ بالجَمْعِ فيقتضي توزع الفَرْد على الفَرْدِ، وهذا يقتضي أنْ يتمكَّن كلُّ واحدٍ من ابتغاء النِّكَاح بما يسمى مالاً، والقليل والكثير في هذه الحقيقةِ، وفي هذا الاسم سواء.
وثانيها: قوله تعالى
{ { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] فَدَلَّتْ الآية على سقوط النصف من المذكور، وهذا يقتضي أنَّهُ لو وقع العقدُ في أوَّلِ الأمْرِ بِدرْهمٍ: لم يجب إلا نصفُ درهمٍ، وأنْتُمْ لا تقُولُونَ به.
وثالثها:
"ما رُوِيَ أنَّ امْرَأةً جيء بها إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد تزوّج بها رجل على نعلين فقال عليه السَّلامرَضِيت مِنْ نَفْسِكَ بِنَعْلَين، فقالت: نعم؛ فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم" والظاهرُ أنَّ قيمة النَّعلين أقلُّ من عشرةِ دراهم، فإنَّ مثل هذا الرَّجُل والمرأةِ اللذين تزوَّجَا على نعلين يكونان في غَايَةِ الفَقْرِ فنعلهما تكون قليلة القِيمَةِ جدّاً.
وروى جَابِر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:
"مَنْ أعْطَى امْرأةً من نِكَاح كَفَّ دقيق، أو سويق، أو طعاماً فقد استحلّ" وحديث الواهبة نفسها أنَّهُ -عليه السَّلامُ- "قال لِلَّذي أرَادَ أن يتزوَّجَهَا الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتماً مِنْ حَدِيدٍ" وذلك لا يساوي عشرة دراهم.
فصل [في الخلاف في المهر بالمنافع]
قال أبُو حنيفةَ: لو تزوَّجَهَا على تعْليمِ سورة من القُرْآنِ لم يكن ذلك مهراً، ولها مهر مثلها ولو تزوَّجَهَا على خدمة سَنَةٍ، فإنْ كان حرّاً فلها مَهْرُ مثلها، وإنْ كان عبداً فلها خدمة سنة وقال غيره: يجوزُ جعل ذلك مهراً، واحتجَّ أبُو حنيفةَ بهذه الآية.
قال: لأنَّهُ تعالى شرط في حصول الحل ذلك الابتغاء بالمال، والمال اسمٌ للأعيان لا للمنافع وأيضاً قال: { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وذلك صفة للأعيان لا للمنَافِعِ، وأيضاً قال
{ { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء: 4].
وأجيب عن الأوَّل بأن الآية دَلَّت على أنَّ الابتغاء بالمال جائز، وليس فيه بيان أنَّ الابتغاء بغير المال جَائِزٌ أم لا.
وعن الثاني: بأنَّ لَفْظَ الايتاء كما يتناولُ الأعيان يتناول المنافِعَ الملتزمة.
وعن الثَّالث: أنَّهُ خرج الخطاب على الأعمِّ الأغلب.
واستدلَّ المُخالفُ بوجهين:
أحدهما: قصة شعيب في قوله لموسى
{ { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [القصص: 27] وشرعهم شرع لَنا ما لم يرد نَاسِخٌ.
وثانيهما: قوله عليه السلام
"زَوَّجْتُكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" .
فصل [في تفسير قوله { مُّحْصِنِينَ }]
في قوله مُحصنينَ وجهان:
أحدُهُمَا:- أنَّ المراد أنْ يصيروا مُحْصنينَ بسبب عَقْدِ النِّكَاحِ.
الثَّاني:- أنْ يكون الاحصانُ شَرْطاً في الإحْلالِ المذكور في قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } والأوَّلُ أولى؛ لأنَّ الآية تَبْقى عامَّةً معلومة المعنى.
وعلى الثَّاني: تكونُ الآيةُ مجملةً؛ لأنَّ الإحْصانَ المذكور فيها غير مُبَيّن، والمعلَّق على المجمل يكون مجملاً، وحمل الآية على وَجْهٍ معلوم أوْلَى من حملها على وجه مجمل.
قوله: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ } يجوزُ في "ما" وجهان أحدهُمَا: أنْ تكون شرطيّة.
والثَّاني: أن تكونَ مَوْصولةً، وعلى كلا التقديرين فيجوزُ أن يكون المراد بها النساء المُسْتمتعَ بِهِنَّ، أي النَّوع المستمتع به، وأن يراد بها الاستمتاع الَّذي هو الحدث، وعلى جميع الأوجهِ المُتقدِّمَةِ، فهي في محلِّ رفع بالابتداء، فإنْ كانت شرطيَّة ففي خبرها الخِلافُ المشهور هل هو فعل الشّرط وجوابه، أو كلاهما وقد تقدَّمَ تحقيقهُ في البقرة، وإن كانت موصولة؛ فالخبَرُ قوله "فآتوهن" ودخلت الفاءُ لشبه الموصول باسم الشرط كما تقدَّمَ، ثم إنْ أريد بها النَّوع المستمتعُ به فالعَائِدُ على المبتد سواء كانت ما شرطية أو موصولة الضمير [المنصوب] في "فآتوهن" ويكون قد راعى لفظ "مَا" تارة فأفرد في قوله "بِهِ"، ومعناها أخرى، فجمع في قوله "منهن"فآتوهن" فيصيرُ المعنى: أي نوع من النّساء استمتعم به فآتوهن، أو النَّوع الذي استمتعم به من النِّسَاء، فآتوهُنّ، وإن أُرِيدَ بها الاستمتاع، فالعائِدُ حينئذٍ محذوف، تقديره: فأيُّ نوع من الاستمتاعِ استمتعم به من النساء فآتوهنّ أجورهن لأجله. و"من" في "منهن" تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للبيان.
والثاني: أنْ تكون للتّبعيض، ومحلها النّص على الحال، من الهاء في "به"، ولا يجوزُ في "ما" أنْ تكون مصدريّة لفساد المعنى ولعود الضَّميرِ في "بِهِ" عليها.
فصل [في تفسير الاستمتاع]
الاستمتاعُ في اللُّغَةِ: الانْتِفَاعُ، وكلُّ مَا انتفعَ به فهو مَتَاعٌ، يقالُ: استمتع الرَّجُلُ بولده، ويقال فيمنْ مَاتَ شابّاً: لم يَتمتَّع بشَبَابِهِ، قال تعالى
{ { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } [الأنعام: 128] وقال { { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } [التوبة: 69] يعني: بحظِّكُمْ عليهنّ؛ فآتُوهنّ أجورهنّ عليه، أو مهورهن عليه، وإنَّما سُمِّيَ المهرُ أجراً؛ لأنَّهُ بَدَلُ المَنَافِعِ كما سُمِّي بَدَلُ منافع الدَّارِ والدَّابَّةِ أجْراً.
فصل [في الخلاف في تقرير المهر بالخلوة]
قال الشَّافعيُّ: الخلوةُ الصَّحيحةُ لا تُقرِّرُ المَهْرَ.
وقال أبُو حنيفةَ وأحْمَدُ: تقرره، واحتجَّ الشَّافِعِيُّ بقوله تعالى { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فجعل وُجُوبَ إتيانهنّ لأجل الاستمتاع بهنَّ، فلوْ تقرَّر بالخُلْوَةِ قبلَ الاستمتَاعِ لمنع من تَعَلُّقِ النُّقُودِ بالاسْتِمتَاعِ وهو خلاف الآية.
فصل
قال الحَسَنُ ومُجاهدٌ وأكثرُ العلماءِ: والمراد بهذه الآية ابتغاء النِّساء بالأمْوَالِ على طريق النِّكاحِ الصحيح.
وقوله { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فجعل وُجُوبَ إتيانهنّ بالدُّخُول أي { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن بالتَّمام.
قال القُرْطُبِيُّ: اختلف النَّاس في المعقود عليه في النِّكَاحِ هل هو بَدَنُ المرأة، أو منفعة البُضْعِ، أو الحِلّ على ثلاثة أقوال، قال: والظَّاهِرُ المجموع؛ لأنَّ العَقْدَ يقتضي كُلَّ ذلك فإن عقد النِّكاح آتاها نصف المهر، وقال آخرونَ: هو نِكَاحُ المُتْعَةِ، وهو أن يستأجر امرأةً بمالٍ مَعْلوم إلى أجل معينٍ، فإذا انقضت تلك المدَّة باتت منه بلا طلاق وتستبرئ رحمها، وليس بينهما ميراث، وكان ذلك مباحاً في ابتداء الإسْلامِ ثم نَهَى عنه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، روى الرّبيع بن سبرة الجهني أنَّ أباه حدَّثه أنَّهُ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء فإنَّ اللَّهَ قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة فَمَنْ كان عنده منهن شيء فَلْيُخَلِّ سبيله، ولا تأخُذُوا مما آتيتموهن شيئاً" . وروى علي بن أبي طالب "أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام نهى عن متعة النِّسَاءِ يَوْمَ خيبر وعن أكل لُحُومِ الحُمُرِ الإنسيّة" وعامّة أهل العلم على أنَّ نكاح المتعة حرام منسوخ وذهب ابن عباس إلى أنَّ الآية محكمة، ويرخّص في نكاح [المُتْعَةِ].
روى أبو نَضْرَةَ قال: سألتُ ابْن عَبَّاسٍ عن متعة النّساءِ فقال: أما تقرأ سورة النِّساء: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } إلى أجل مسمى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } قلت: لا أقرؤها هكذا، فقال ابن عبَّاس: هكذا أنزل اللَّهُ ثلاث مرات، وروي
"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه لما قدم مكّة في عمرته تزين نساء أهل مكة فشكى أصحابُ النَّبي صلى الله عليه وسلم طول العزوبة فقال اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِه النِّسَاءِ" وهذا القول مروي عن ابن عبَّاسٍ وعمران بن الحُصَيْنِ، أمَّا ابن عبَّاسٍ فعنه ثلاث روايات أحدها أنَّهَا مباحة مطلقاً، وقال عِمَارة سألت ابن عباس عن المتعة أسِفَاحٌ هي أم نِكَاحٌ قال: لا سِفَاحَ ولا نِكَاحَ، قلتُ: فما هي قال: مُتْعَةٌ كما قال اللَّهُ تعالى قلت: هل لها عِدَّةٌ؟ قال: نعم حيضةٌ، قلت: هل يتوارثان، قال: لا. الثانية أنَّ النَّاسَ لما ذكرُوا الأسفار في المتعة، قال ابن عبَّاس: قَاتَلهُمُ اللَّهُ ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق، لكني قلت إنَّها تحلُّ للمضطر كما تحلُّ الميتةُ، والدَّم، ولحمُ الخنزير له.
الثَّالِثَةُ: أنَّهُ أقرَّ بأنَّهَا صارت مَنْسُوخَةً.
روى عَطَاءٌ الخُراسَانِيُّ: عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } قال صارت هذه الآيةُ منسوخة بقوله تعالى
{ { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1] وروى أيضاً أنَّهُ قال عند موته: اللَّهُمَّ إني أتوبُ إليك من قولي في المتعة والصرف، وأمَّا عمرانُ بْنُ الحُصَيْنِ فإنَّهُ قال نزلت هذه المتعة في كتاب اللَّهِ ولم ينزل بعدها آية تنسخها، وأمرنا بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وتمتعنا بها، ومات ولم ينهنا عنه، ثمَّ قال رجلٌ برأيه ما شاء، وروى مُحَمِّدُ بْنُ جريرٍ الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنَّهُ قال: لولا أنَّ عمر نهى عن المتعة [ما زنا إلا شقي. والجمهور على تحريم نكاح المتعة لما روى سالم بن عبد الله بن عمر أنَّ عمرُ بْنُ الخَطَّاب - رضي الله عنه - قال في خطبته ما بال رجال ينكحون هذه المتعة] وقد نهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنها لا أجِدُ أحداً نكحها إلاَّ رجمتُهُ بالحجارة، وقال: هذه المُتْعة النِّكَاحُ والطَّلاق والعدّةُ والميراث فذكر هذا الكلام في مَجْمَعٍ من الصَّحَابَةِ، ولم ينكروا عليه، فالحالُ لا يخلو من أن يكونُوا عالمين بحرمة المُتْعةِ فَسَكتُوا، أو كانوا عالمين بإباحتها فسكتوا مداهنة، أو ما عرفوا حكمها فسكتوا تَوَقُّفاً.
والأوَّلُ: هو المطلوب.
والثَّاني: يُوجبُ تكفيرَ عُمَرَ وتكفيرَ الصَّحابةِ، لأنَّ من علم أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المُتْعَةِ ثمَّ قال: إنَّهَا محرَّمة من غير نسخ لها فهو كافر، ومن صدقه مع علمه بكونه مخطئاً كافر، وهذا يقتضي تَكْفِير الأمَّةِ. وإن لم يكونوا عالمين بالإباحَةِ ولا بالحرمة، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ كون المتعة مباحة يقتضي كونها كالنِّكَاح، واحتياج النَّاس إلى معرفة حكمها عام في حقِّ الكُلِّ، ومثل هذا يمتنع خفاؤه بل يجبُ أن يُشْتَهَر العلم بحكمه كاشتهار علمهم بحلِّ النِّكاح، ولما بطل هذان القسمان ثَبَتَ أنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا سَكَتُوا عن الإنكار على عُمَرَ لعلمهم بأنَّ المتعة صارت منسوخَةً في الإسْلاَمِ.
فإن قيل: الرَّجْمُ غير جائز مع أنَّ الصَّحابةَ ما أنكروا عليه حين ذكر ذلك، ولما سكتَ ابْنُ عباسٍ عنه في مسألة المُبَاهَلَة ثم ذكرها بعد موت عمر وقال: من شاء باهلته فقيل له: هلاّ قلت هذا في زمن عُمَرَ، فقال: هِبْتُه، وكان أمْرَأً مُهاباً.
فالجوابُ لعلَّهُ ذكر ذلك على سبيل الزَّجْرِ والتهديدِ والسِّيَاسة، ومثلُ هذا جائز [للإمام] عند المصلحةَ كقوله عليه السَّلامُ
"مَنْ مَنَعَ الزَّكاةَ فإنَّا نَأخُذُهَا مِنْهُ وَشَطْر مالِهِ" وأخذ شَطْرِ المالِ غير جائز لكنَّه قال ذلك للزَّجر فكذا ههنا، وأمَّا سكوت ابن عباس، فكَانَ سكوت رجل واحد في خلائق عظيمة، فلا يُشْبِهُ سكوت الخَلاَئِقِ العظيمة عند رجل واحد، ويدلُّ على التَّحريم حديثُ الربيعِ بْنِ سبرة، وحديث عَلِيٍّ المذكوران أوَّل الفَصْلِ قال الرَّبيعُ بْنُ سُليْمَانَ: سمعت الشَّافِعِيِّ يقول: لا أعلم في الإسْلاَمِ شيئاً أحِلَّ ثم حرم غير المُتْعَةِ.
واحتجَّ من قال بإباحَةِ المتعة بوجوهٍ:
أحدُهَا قراءة أبيِّ بنِ كَعْبٍ وابن عباس "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن" ولم ينكر عليهما هذه القراءة فكان إجماعاً، فيقابل الإجماع الَّذي كان حاضراً عند خطبة عُمَرَ.
الثَّاني: أنَّ المذكور في الآية إنَّمَا هو مُجَرَّدُ الابتغاء بالمالِ، ثُمَّ إنَّهُ تعالى أمر بإتيانهنَّ أجورهنَّ بعد الاستمتاع بهنَّ، وذلك يدُلُّ على أنَّ مجرَّدَ الابتغاءِ بالمال يجوزُ الوطء، ومجرَّد الابتغاء بالمالِ لا يكونُ إلاَّ في نِكَاحِ المُتْعَةِ، فأمَّا في النِّكَاحِ المطلق، فالحل إنَّمَا يحصل بالعَقْدِ والولي والشُّهود، ولا يفيد فيه مُجرَّدُ الابتغاء بالمال.
الثَّالِثُ: أنَّهُ وَاجِبٌ إيتاء الأجور بمجرَّدِ الاستمتاع، والاستمتاعُ عبارةٌ عن التَّلذُّذِ والانتفاع، وأمَّا في النِّكَاحِ المطلق فإيتاء الأجور لا يتوقَّفُ على الاستمتاع ألْبَتَّةَ بل على العقد. ألا تَرَى أنَّ بمجرد النِّكَاحِ يلزم نصفُ المهر.
الرَّابعُ: أن الأمَّةَ مجمعة على أنَّ نِكَاحَ المتعة كَانَ جَائِزاً في الإسْلامِ، وإنَّمَا الخلافُ في النَّسْخِ، فَنَقُولُ لو كان النَّاسِخُ موجوداً، لكان إمَّا معلوماً بالتَّواتُرِ أو الآحاد، ولم يعلم بالتَّواتُرِ؛ لأنَّه كان يلزمُ منه كونُ عليٍّ، وابن عباس، وعمران بن الحُصَيْنِ منكرين لما عرف ثبوته بالتَّواتُرِ في دين محمَّدٍ عليه السلامُ، وذلك يوجب تكفيرهم، ويكون باطلاً قطعاً، وإنْ كان ثابتاً بالآحاد لزم نسخ الثابت المتواتر المقطوع به بخبر الوَاحِدِ المظنون، وهذا أيضاً باطل، ومما يدلُّ على بطلان هذا النَّسخ أيضاً أنَّ أكثر الرِّوايات أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة يوم خيبر، وأكثر الرِّوايات أنَّهُ عليه السلامُ أباح المتعةَ في حجَّة الوداع وفي يومَ الفَتْحِ، وهذان اليومان متأخرانِ عن يوم خيبر، وذلك يدلُّ على فساد ما روي أنَّهُ عليه السلامُ نسخ المتعة يوم خيبر، لأنَّ النَّاسِخَ يمتنع تقدُّمهُ على المنسوخ، [وقول] من قال إنَّهُ حصل التحليل مراراً [والنسخ مراراً] قول ضعيف لم يقل به أحدٌ من [المُتقدِّمينَ] المعتبرين، إلا الذين أرادوا إزالة التَّناقُضِ عن هذه الرِّوايات.
الخامس: أنَّ عمر - رضي الله عنه - قال على المنبر متعتان كانتا مشروعتين في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنهما: مُتْعَةُ الحَجِّ، ومتعةُ النِّكَاحِ وهذا تنصيص منه على أنَّ متعة النِّكاحِ كانت موجودةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله
"وأنَا أنْهى" يدلُّ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نسخة، وَإنَّما عمر هو الذي نَسَخَهُ وإذَا كانت كذلك؛ وجب أن لا يصير منسوخاً بنسخ عُمرَ، وهذا هو الحجةُ التي احتجَّ بها عمران بن الحصين حيث قال: ولم تنزل آية بنسخ آية المتعة، ولم يَنْهَنَا عنها حتى مات، ثم قال رجلٌ برأيه ما شاء، يريد أنَّ عمر نهى عنها.
والجوابُ أنْ يقال: إن هذه الآيةَ مشتملة على أنَّ المراد منها تحريم نكاح المتعة من ثلاثة أوجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تعالى ذكر المحرمات بالنِّكاح أولاً في قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ثم قال في آخر الآية { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فكانَ المرادُ بهذا التحليل ههنا ما هو المراد هناك بالتَّحريم هو النِّكاح، فالمرادُ بالتحليل هنا أيضاً يجب أنْ يكون هو النِّكاح.
الثّاني: قوله تعالى { مُّحْصِنِينَ } والإحْصَانُ لا يكون إلاَّ في نكاحٍ صحيح.
الثالثُ: قوله { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } سمَّى الزِّنَا سِفَاحاً؛ لأنَّهُ لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النِّكاح، والمتعة لا يراد منها إلاَّ سفح الماء فكان سفاحاً، هذا قول أبِي بكر الرَّازي، وفيه مناقشة.
أمَّا الأولُ: فإنَّهُ تعالى ذكر أصْنافاً مِمَّنْ يَحْرُمُ وَطْؤهُنَّ ثم قال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي وأحل لكم وَطْءُ ما وراء هذه الأصناف، فأيُّ فساد في هذا الكلام.
وأمَّا الثَّاني: وهو أنَّ الإحْصَانَ لا يكون إلا في نِكَاحٍ صحيح فالمخالف يقول بصحَّةِ هذا النِّكَاحِ.
وأما الثَّالِثُ: وهو أنَّ الزِّنَا إنَّمَا سمي سفاحاً؛ لأنَّهُ لا يراد منه إلا سفح الماء فالمتعةُ ليست كذلك فإنَّ المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل اللَّه، فلم قلتم إنَّ المتعة محرمة.
قال ابْنُ الخطيبِ: وَإنَّمَا الجواب المعتمدُ أن نقول: إنَّا لا نُنْكِرُ أنَّ المتعةَ كانت مباحة إنَّمَا الذي نقوله: إنَّها صارت منسوخَةً، وعلى هذا التقدير، فلو كانت [هذه الآية دالة على أنها مشروعة] [لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أبيّ وابن عباس، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع] لكن نقول: إنَّ النسْخَ طرأ عليه، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا، وقولهم إنَّ النَّاسخَ إمَّا أن يكون متواتراً، أو آحاداً قلنا: لعلَّ بعضهم سمعه ثم نسيه [ثم إن عمر - رضي لله عنه - لمّا ذكر في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه وسلموا الأمر له.
وقولهم:] إنَّ عمر أضاف النّهي عن المتعة إلى نفسه.
قلنا: قد بَيَّنَا أنَّهُ لو كان مراده أنَّ المتعة كانت مباحة في شرع محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنه؛ لزمَ تكفيره، وتكفير كلّ مَنْ لا يحاربه وينازعه، ويفْضِي ذلك إلى تكفير جميع المؤمنين، وكلُّ ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال: كان مراده أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنها لما ثبت أنَّهُ صلى الله عليه وسلم نسخها، فهو ناقل للنَّسْخِ، لا أنَّهُ نسخ من عنده.
فصل
قال القرطبيُّ: اختلف العلماءُ كم مرة أبيحت ونسخت؛ ففي "صحيح مسلم" عن [عبد] الله قال:
"كُنَّا نَغْزُو مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليس لنا نِسَاء، فقلنا: ألا نَسْتَخْصِي؟ فنهانا عن ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّص لنا أنْ نَنْكِحَ المَرْأةَ بالثَّوْبِ إلى أجَلٍ" قال أبُو حَاتِم البُسْتِيُّ في صحيحه: قولهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم "ألا نَسْتَخْصِي" دليل على أنَّ المتعة كانتَ مَحْظُورَةً قبل أنْ يبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنىً، ثم رَخَّص لهم في الغَزْوِ أن ينكحوا المرأة بالثَّوب إلى أجَلٍ ثمَّ نهى عنها عام خيبر ثم أذن فيها عام الفتح ثم حرمها بعد ثلاث فهي محرّمةٌ إلى يوم القيامة.
وقال ابن العَرَبِيّ: وأمَّا متعة النّساء فهي من غرائب الشَّريعة؛ لأنَّهَا أبيحت في صدر الإسْلامِ ثمَّ حرمت يَوْمَ خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوْطَاسٍ ثُمَّ حرِّمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التَّحريم، وليس لها أختٌ في الشَّريعة إلاَّ مسألة القبلة، فإنَّ النَّسْخَ طرأ عليها [مرتين] ثم استقرَّتْ بعد ذلك. وقال غيره مِمَّنْ جمع طرق الأحاديث فيها: إنَّها تقتضي التَّحليلَ والتَّحْرِيمَ سبع مرات فروى ابن أبي عمرة: أنَّها كانت في صدر الإسلام.
وروى سلمةُ بْنُ الأكوع: أنَّها كانت عام أوْطَاسٍ، ومن رواية عليٍّ تحريمها يومَ خيبر، ومن رواية الرَّبِيعِ بْنِ سبرة إباحتها يَوْمَ الفَتْحِ.
قال القرطبيُّ وهذه الطرق كُلُّهَا في "صحيح مسلم" وغيره عن علي نَهْيُهُ عنها في غزوة تَبُوكَ وفي مصنف أبي داود من حديث الرَّبيعِ بْنِ سبرةَ النَّهي عنها في حجَّةِ الوَدَاعِ.
وروى الحسن عن [ابن] سبرة أيضاً: ما حلَّتِ المتعةُ قطُّ إلاّ ثلاثاً في عمرة القَضَاءِ ما حلَّت قبلها، ولا بعدها.
فهذه سبعةُ مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت.
قوله "فريضة" حال من أجورهن، أو مصدر مؤكد أي فرض اللَّهُ ذلك فريضة [أو فرضاً] أو مصدر على غير المصدر؛ لأنَّ الإيتاء مفروض فَكَأنَّهُ قال "فآتوهن أجورهن إيتاء مفروضاً". قوله { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } من حمل الآية على النِّكاح الصّحيح قال المراد منه الإبراء من المهر، أو الحط عنه، أو الافتداء، أو الاعتياض وهو كقوله تعالى
{ { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء: 4] [فإن قبضها ملكت بالقبض] وقوله { { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } [البقرة: 237] من حمل الآية على نِكَاحِ المتعة قال: أراد إذا انْقَطَعَ زمانُ المتعَةِ لم يبق للرَّجُلِ على المرأة سبيل، فإنْ شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر وإن لم يتراضيا تفارقا.
فصل [حكم إلحاق الزيادة بالصداق]
قال أبُو حنيفة: إلحاق الزِّيَادَةِ بالصَّدَاقِ جائز، وهي ثابتة إن دَخَلَ بها، أو مات عنها وإن طلقها قبل الدُّخولِ بطلت الزِّيَادة، وكانت بمنزلة الهبة فإن قبضتها ملكتها بالقبض، وإن لم تقبضها بطلت، واحتَجُّوا بقوله { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } وهذا بعمومه يدلُّ على جواز إلحاق الزِّيَادة [بالصداق، قال: بل هذه بالزيادة أخص منها بالنقصان؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج، والزيادة لا تصح إلا بقبوله، فإذا علق ذلك بتراضيهما جميعاً، دل على أن المراد هو الزيادة. الجواب أنه لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة] عما ذكره الزَّجَّاجُ، وهو أنَّهُ إذا طلقها قبل الدُّخول، فإن شاءت أبرأته من النَّصف، وإن شاء الزَّوج سلّم إليها كلَّ المال، فيكون قد زادها على ما وَجَبَ عليه؛ ولأنَّ هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إمَّا مع العقد الأوَّلِ، أوْ بعد زواله، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ العقد لما انعقد على القدر الأوَّلِ، فلو انعقد مرَّةً أخرى على القدر الثَّاني؛ لكان ذلك تكويناً لذلك العقد بعد ثبوته، وهو تحصيلُ الحاصلِ.
والثَّاني باطل؛ لانعقادِ الإجماع على أنَّ عند إلحاق الزَّيادَةِ لا يرتفعُ العقدُ الأوَّلُ، ففسد قولهم.
فصل [في استحباب قلة المهر]
اعلم أنَّهُ لا تقدير لأكثر الصّداق لقوله تعالى
{ { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [النساء: 20] والمستحبّ أن لا يغالي فيه. قال عُمَرُ بْنُ الخطَّاب: "ألاَ لاَ تغالوا في صدقة النِّساء، فإنَّهَا لو كانت مُكرمَةً في الدُّنْيَا وتقوى عند اللَّهِ، لكان أولاكم بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نَكَحَ شيئاً من نسَائِهِ، ولا أنكح شيئاً من بناته بأكثر من اثْنَي عشر أوقية.
وعن أبِي سَلَمَةَ قال: سألتُ عَائِشَة كم كان صداق النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: كَانَ صَدَاقُهُ لأزْوَاجِهِ اثْنَتي عَشْرَةَ أوقِيةً وَنشاً وقالت: أتدري ما النشُّ؟ قلتُ: لا قالت: نصف أوقية فتلك خَمسمائة دِرهم، وَأمَّا أقل الصَّداق فذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا تقدير فيه، بل ما جاز أنْ يكونَ مبيعاً أو ثمناً جاز أن يكون صداقاً، وهو قول ربيعةَ، وسفيانَ الثَّوريّ، والشَّافعيِّ، وأحمد وإسحاقَ.
وقال عمرُ بْنُ الخَطَّابِ: "في ثلاث قبضات مهر زينب"، وقال سعيدُ بن المسيِّبِ: "لو أصدقها سوطاً جاز"، وقال قوم: تقدر بنصاب السّرقة، وهو قول مَالِكٍ، وأبي حنيفَةَ، غير أنَّ نصاب السَّرقةِ عند مالك ثَلاثَةُ دراهِمَ، وحجَّةُ الشافعي وأحمد قوله عليه السلام
"الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدِ، زوجتك بما معك من القرآن" وزوّج امْرَأةً على نَعْلَيْن.
فصل [في حكم جعل القرآن ونحوه صداقاً]
قال الشافعيُّ، وأحمدُ: "يجوزُ أن يجعل تعليم القرآن صَدَاقاً للحديث"، وقال أصحابُ الرَّأي لا يجوزُ، وكذلك كلُّ عَمَلٍ يجوزُ الاستئجار عليه مثل البِنَاءِ، والخياطة وغيرهما يجوز أن يجعل صداقاً للحديث، ولقول شُعيب لموسى عليه السَّلامُ
{ { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [القصص: 27]. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يجعل منفعة الحرّ صداقاً.