التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

وجه اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها: أنه - تعالى - لما قال: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } ذكر بعض الإيمان الصَّلاة التي هِيَ رأسُ العِبَادات، ولذلك يُقْتَل تارِكُها، ولا يَسْقُط فرضُهَا.
قال ابن عباس: نزلت في جَمَاعةٍ من أكابر الصَّحَابَة، قبل تَحْرِيم الخَمْرِ، كانوا يَشْرَبُونَها ثم يأتُون المَسْجِد للصَّلاة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم فنهوا لهذه الآية.
وقال جماعة من المفسِّرين: إن عبد الرَّحْمن بن عَوْف صنع طَعَاماً وشراباً - حين كانت الخَمْر مُبَاحَة - ودَعَا من أكَابِرِ الصَّحَابة، فأكَلُوا وشَرِبُوا، فلما ثَمِلُوا، جاء وقت صَلاَة المَغْرِب، فقدموا أحدهم لِيُصَلِّي بهم، فقرأ: { قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون } وحذف "لاَ" هكذا، إلى أخر السُّورة، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، فكَانُوا يَجْتَنِبُونَ السُّكْر أوْقات الصَّلوات، فإذا صَلُّوا العشاء، [شربوها]، فلا يُصْبِحُون إلا وقدْ ذَهَب عنهم السُّكْر، حتى نَزَل تَحْرِيم الخَمْرِ على الإطْلاَقِ في سورة المَائِدة.
وعن عمر [بن الخطاب - رضي الله عنه -]؛ أنه لما بلغَهُ ذلك قال: "اللهم إنَّ الخَمْر تضر بالعُقُولِ والأمْوَال، فأنزل فيها أمْرَكَ" قال: فَصَبَّحهم الوَحْي بآيَةِ المائِدَةِ.
قوله: { لا تقربوا الصلاة } فيه وجهان:
أحدهما: أن في الكَلاَمِ حذف مُضافٍ، تقديره: مواضع الصَّلاةِ والمراد بمواضعها المَسَاجد، ويؤيِّدُه قوله بعد ذلَك: { إلا عابري سبيل } في أحد التَّأويلَيْن.
والثاني: أنه لا حَذْف، والنَّهْي عن قُرْبَان نفس الصَّلاةِ في هذه الحالةِ.
فصل
قال بَعْضُهم: إن هذا يكون من باب إطْلاَق اسم الحَالِ على المَحَلِّ، وعلى الأوَّل: لمنع السَّكْرَان [والجُنْب] من المسْجِد إلا عابري سبيل، فيجوز للجُنُب العُبُور في المسْجِد.
وعلى الثاني: أنه نَهْي للجنب عن الصَّلاة، إلا إذا كان عَابِر سبيلٍ وهو المُسَافِر عند العَجْزِ عن المَاءِ.
ورجح أصْحَاب الشَّافعي الأول؛ بأن القُرْب والبعد حقيقةٌ في المسْجِد، مجَازٌ في الصَّلاة، والحقيقة أوْلَى من المجَاز؛ لأن الاسْتِثْنَاء يَصِحُّ عليه، ولا يَصِحُّ على الثَّاني؛ لأن غير العَابِري سبيل والعَاجِزَ عن المَاءِ، كالمريض يجوزُ له الصَّلاة بالتَّيَمُّم، ولأن الجُنُب المسافر لا يجوز له قُرْبان الصَّلاةِ إذا كانَ واجداً للمَاءِ، وإذا لم يَكُن وَاجداً للمَاء لم يَجُز له الصَّلاة إلا بشرط التَّيَمُّم، فيحتاج إلى إضْمَارها، وعلى الأوَّل لا يحتاج إلى إضْمَارٍ، ولأنه - تعالى - ذكر حكم السَّفَر وعدَم المَاءِ، والتَّيَمُّم عقيبها، وقد استحب القُرَّاءُ الوقُوفَ عند قوله - تعالى -: "حتى تغتسلوا" ثم يسْتأنف { وإن كنتم مرضى } لأنه حُكم آخر.
ورُجِّح الثَّاني: بأن قوله { حتى تعلموا ما تقولون } يُنَاسب نفس الصَّلاة، لأن المسْجِد ليس فيه قَوْل مَشْرُوع يمنع الشكْر، وأيْضاً سبب النُّزُول يرجِّحُه.
قوله: "وأنتم سكارى" مُبْتَدأ وخبر في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من فاعل "تقربوا"، وقرأ الجُمْهُور "سُكارى" بضم السّين وألف بعد الكَافِ، وفيه قولان:
أصحهما: أنه جَمْع تكسير نَصَّ عليه سيبويْه: قال: وقد يُكَسِّرُونَ بَعْضَ هذا "فُعَالَى"؛ وذَلِك كقول بعضهم سُكَارَى وعُجَالَى.
والثاني: أنه اسم جَمْعٍ، وزعم ابن البَاذش أنه مذْهب سيبويْه؛ قال: وهو القياس؛ لأنه لم يَأتِ من أبْنِيَة الجمع شَيْءٌ على هذا الوَزْنِ، وذكر السَِّيرَافِي الخِلاف، ورجَّحَ كونه تَكْسِيراً.
وقرأ الأعْمَش:"سُكْرَى" بضم السِّين وسكُون الكَافِ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على "فُعْلَى"؛ كحبلى، وقعت صِفَة لجماعَة، أي: وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى، وحكى جناح بن حبيش كُسْلَى وكَسْلَى، بضم الكَافِ وفتحها؛ قاله الزمخشري.
وقرأ النَّخْعي "سَكْرَى" بفتح السيِّن وسكون الكاَفِ، وهذه تَحْتَمِل وَجْهَيْن:
أحدهما: ما تقدَّم في القراءة قبلها، وهو أنَّها صِفَة مُفْرَدة على "فَعْلَى"؛ كامرأة سَكْرَى، وصف بها الجمَاعة.
والثَّاني: أنَّها جَمْع تكسير؛ كجَرْحى، ومَوْتى، وهَلْكى، وإنما جمع سَكْرَان على "فَعْلَى" حملاً على هذه؛ لما فيه من الآفَةِ اللاَّحِقَة للفِعْل، وقد تقدَّم شَيْء من هَذَا في قوله:
{ { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ } [البقرة: 85].
وقرئ: "سَكارى" بفتح السين والألف، وهذا جمع تكسير، نحو: نَدْمَان ونَدَامى، وعَطْشَان، وعَطَاشَى، والسُّكْر: لُغةً السَّدُّ، ومنه قيل لما يَعرض للمرءِ من شُرْبِ المُسْكِر، لأنَّه يسد ما بين المَرْء وعَقْلِه، وأكثر ما يُقَال ذلك لإزالَة العَقْل [بالمُسْكِرِ] وهو المراد بالآية في قول عَامَّة المُفسِّرين، وقد يقُال ذلك لإزالَتِه بغضب ونحوه، من عشق وغيره قال: [الكامل]

1800- سُكْرَانِ سُكْرُ هَوًى وسُكْرُ مُدَامَةٍ أنَّى يُفيقُ فَتًى به سُكْرَانِ

و "السكر" بالفتح وسكون الكَافِ: حبس الماءِ، وبكسر السِّين: نفس الموضع السْدُود، وأما "السَّكَر" بفتحهما فما يسكر به من المشروب، ومنه: { { سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [النحل: 67] وقيل السُّكْر: بضم السين وسكون الكاف [السّدّ] أي: الحَاجِز بين الشَّيْئَيْن، قال: [الهزج]

1801- فمَا زِلنَا عَلَى السُّكْرِ نُدَاوِي السُّكْر بالسُّكْرِ

والحاصل: أنَّ أصل المادة الدَّلالة على الانْسداد، ومنه: سَكرت عين البَازِي، إذا خَالَطَهَا نوم، وسكر النَّهر؛ إذا لم يَجْرِ، وسَكَرْتُه أنا، وقال - تعالى -: { { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [الحجر: 15]، أي: غُشيت، والسُّكْر من الشراب، وهو أن يَنْقَطِع عما عَلَيْهِ من النَّفَاذ حال الصَّحْو، فلا يَنْفُذ رأيه كنَفَاذِه حَال الصَّحْو، وقال الضحَّاك: أراد به سُكْر النّوم نهى عن الصَّلاة عند غَلَبَة النَّوْم، قال - عليه الصلاة والسلام -: "إذا نَعسَ أحدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلْيَرْقُد حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فإنَّ أحَدَكُم إذا صَلَّى وهو يَنْعَسُ، لَعَلهُ يَذْهَبُ يستَغْفِرُ فَيَسب نَفْسَه" .
والصحيح الأوَّل؛ لأن السكر حَقيقةً هو من شُرْب الخَمْرِ، فأمّا السّكر من الغَضَبِ أو العِشْقِ أو النَّوْمِ فَمَجَازٌ، إنما اسْتُعْمِل مقيّداً؛ قال - تعالى -: { { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ق: 9]، { { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } الحج: 2] قال الفرزْدَق: [الطويل]

1802- مِنَ السَّيْرِ وَالإسْآدِ حَتَّى كَأنَّمَا سَقَاهُ الكَرَى فِي مَنْزِلَةٍ خَمْرا

ولأن عند النَّوْم تمتلئ مَجَاري الرُّوح من الأبخرة الغلِيظة، فلا ينفذ الروح للبَاصِر.
قوله - تعالى -: "حتى تعلموا"حتى" جارَّة بمعنى إلى، فهي مُتعلِّقَةٌ بفعل النَّهْي، والفعل بَعْدَها مَنْصوب بإضمار "أن" وتقدّم تَحْقِيقُه، وقال بَعْضُهم: إن حَتَّى هنا بمعنى ["كَيْ"] فهي "تَعلِيلِيَّة"، والمَعْنَى: كي تَعْلَمُوا ما تَقُولُون.
و "مَا" يجوز فيها ثلاَثَة أوْجُه: أن تكون بِمَعْنَى الَّذِي، أو نكرة مَوْصُوفة، والعَائِد على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوف، أي: يَقُولُونَهُ، أو مصدرية، فلا حَذْف إلا عَلَى رأي ابن السَّرَّاج ومن تَبِعَهُ.
فصل قول البعض بنسخ الآية
قال بَعْضهم: هذه الآية مَنْسُوخة بآية المائدة.
قال ابن الخَطِيب: والَّذِي يمكن النَّسْخُ فيه، أنَّه - تعالى - نَهَى عن قُرْبَان الصَّلاةِ حَالَ السُّكْر مَمْدُوداً إلى غَايَة أن يَصير بِحَيْث يَعْلَم ما يَقُول، والحكم المَمْدُود إلى غاية، يَقْتَضِي انتهاء ذَلِك الحُكْم عند تلك الغَايَةِ، وهذا يَقْتَضِي جواز قُرْبَان الصَّلاة مع السُّكْر الذي يَعْلَمُ مِنْهُ ما يَقُول، ومعلوم أنَّ اللَّه - تعالى - لما حرَّم الخَمْر بآية المائدَة، فقد رَفَع هذا الجوازَ، فثبت أن آية المائِدَة ناسِخَةٌ مَدْلُولات هذه الآية.
والجواب: أن هَذَا نَهْي عن قُرْبَان الصَّلاة حَال السُّكْرِ، وتخصيصُ الشيء بالذِّكْرِ لا يَدُلُّ على نَفي الْحُكم عما عداه، إلا على سبيل الظَّنِّ الضَّعيف، ومثل هَذَا لا يَكُون نَسْخاً.
فصل: التكليف بما لا يطاق
قال بَعْضُهم: هذه الآية تَدُلُّ على جواز التَّكْليف بما لا يُطَاق؛ لأنه - تعالى - قال: { ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }، وهذه جملة حاليَّة، فكأنه - تعالى - قَالَ للسَّكْرَان: لا تُصَلِّ وأنْت سَكْرَان، وهذا خطاب للسكران.
والجواب عنه: بأن هذا لَيْس خِطَاباً للسَّكْرَان، بَلْ هو خِطَاب للَّذِين آمَنُوا؛ فكأنه قال: يأيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَسْكَرُوا، فقد نهى عن السُّكْر؛ ونظيره قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102] وهو ليس نَهْياً عن المَوْت، وإنما هو أمْر بالمُدَاوَمَةِ على الإسْلامِ، حتى يَأتيهُ المَوْت وهو في تِلْك الحَالِ.
قوله: "ولا جنباً" نصب على أنه مَعْطُوف على الحَالِ قبله، وهو قوله: "وأنتم سكارى" عطف المُفْرَد على الجُمْلَة لمّا كَانَتْ في تأويله، وأعاد معها "لا" تَنْبيهاً على أنَّ النَّهْي عن قُرْبَان الصَّلاة مع كل واحدٍ من هَذَيْن الحَالَيْن على انْفِرَادَهَما، فالنَّهي عنها مع اجْتِمَاعِ الحَالَيْنِ آكَد وأوْلى، والجُنُبُ مشتقٌّ من الجَنَابَة وهو البُعْدُ؛ قال: [الطويل]

1803- فَلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَريبُ

وسمي الرَّجُل جُنُباً: لبعده عن الطَّهَارةِ؛ أو لأنَّه ضَاجَع بِجَنْبِه وَمسَّ به، والمشْهُور أنه يستعمل بِلَفْظٍ واحدٍ كالمُفْرد والمُثَنَّى والمَجْمُوع، والمُذكَّر والمُؤنَّث، ومنه الآية الكَرِيمة.
قال الزمخشري: لجريانه مَجْرَى المصدَرِ الذي هو الإجْنَابُ، ومن العَرَب من يُثَنِّيه فيَقول جُنُبَان ويجمعه جمع سَلاَمة فيقول: جُنُبُون، وتكْسِيراً فيقول: أجْنَاب، ومثله في ذلك شُلُل، وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
قوله: { إلا عابري سبيل } فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَنْصُوب على الحَالِ فهو استثْنَاء مُفَرَّغ، والعامِل فيها فِعْل النَّهْي، والتَّقْدير: "لا تقربوا الصلاة في حالة [الجنابة إلا في حال السفر] أو عُبُور المَسْجِد على حَسَب القَوْلَيْن.
وقال الزَّمَخْشَريّ: { إلا عابري سبيل } استثنَاء من عامَّة أحوال المُخَاطبين، وانتصَابه على الحال.
فإن قُلْت" كيف جَمَع بين هذه الحَال، والحَالِ التي قَبْلَها.
قلت: كأنه قيل: لا تَقْربُوا الصَّلاة في حال الجَنابة: إلا ومَعَكُم حالٌ أخْرَى تَعْتَذِرون فيها: السَّفَر وعُبُور السَّبِيل عبارة عَنْه.
والثَّاني: أنه مَنْصُوب على أنه صِفَةٌ لقوله "جنباً" بـ "إلاَّ" بمعنى "غير"، فظهر الإعْرَاب فيما بَعْدَهَا، وسيأتي لهذا مزيد بَيَانٍ عند قوله - تعالى -:
{ { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] كأن قيل: "لا تقربوها جنباً غير عابري سبيل"، أي: جُنُباً مُقِيمين غير مَعْذُورين، وهذا معنى وَاضِحٌ على تَفْسير العُبُور بالسَّفر، وهذا قَوْل عَلِيّ وابن عبَّاس، وسَعيد بن جُبَيْرٍ، ومُجَاهِد قالوا: مَعْنَاه إلاَّ أن تكُونُوا مُسَافرين ولا تَجدُون المَاءَ فَتَيَمَّمُوا؛ مَنَع الجُنُب من الصَّلاة [حتى يَغْتَسِل، إلا أن يَكُونَ في سَفَر ولا يجدهَا فيصلّي بالتيمم وأمَّا من قدَّرَ مَوَاضِعَ الصَّلاة] فالمعنى عنده: لا تَقْرَبُوا المَساجِد جُنُباً إلا مُجْتَازين؛ لكونه لا مَمَرَّ سواه، وهو قول عبد الله بن مَسْعُود، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، وعِكْرِمَة، والنَّخعِي، والزُّهري، وذلك أن قَوْماً من الأنْصار، كانت أبوابُهم في المَسْجِد، فتُصِيبهم الجَنَابة، ولا مَاء عندهم، ولا مَمَرَّ لهم إلاَّ في المَسْجِد، فَرُخِّصَ لهم في العُبُور، قالوا: والمُراد من الصَّلاة هُنَا: موضع الصَّلاة؛ لقوله - تعالى -: { { وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } [الحج: 40] والمعنى: لا تَقْرَبُوا المسجد وأنتم جُنُب، إلا مُجْتازين فيه للخُرُوجِ منه، مثل أن يَنَام في المَسْجِد، فَيَجْنُبُ أو تُصِيبُه جَنَابة والماءُ في المَسْجِد، والعُبُور الجَوَاز؛ ومنه: "نَاقَةٌ عُبْرُ الهَوَاجِر" قال: [الكامل]

1804- عَيْرَانَةُ سُبُحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ عُبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفِّ الخَاضِبِ

وقوله: "حتى تغتسلوا"؛ كقوله: "حتى تعلموا" فهي مُتعلِّقة بفعل النَّهِي.
فصل: حكم عبور المسجد للجنب
اختلفوا في عُبُور المَسْجِد للجُنُب، فأبَاح الحَسَنُ ومَالِكٌ والشَّافِعِيُّ المُرور فيه على الإطلاقِ، وهو قَوْل أصْحَاب الرأي، وقال بَعْضُهم: يَتَيَمَّمُ للمرور فيه، وأما المُكْثُ فلا يجوز عند أكْثرِ العُلَمَاء؛ لقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم
"وَجِّهُوا [هذه البُيُوت عن المَسْجِد] فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ" وجوّز أحْمَدُ المُكْثَ فيه، وضعَّف الحديث؛ لأن رَاويه مَجْهُول.
قوله: { وإن كنتم مرضى } جمع مَريض، وأراد به مَرَضاً يَضُرُّه أساس الماء كالجُدَرِي والقُرُوح العَظيمَة، أو كان على مَوْضِع طَهَارته جِرَاح يخاف من اسْتِعْمَال الماء التَّلف، أو زيادة المَرَضِ، فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّمِ وإن كان مَوْجُوداً، وإن كان بَعْض أعضاء طهارته صحيحاً والبَعْض جَريحاً، غسل الصَّحيحَ، وتيَمَّم عن الجَرِيح؛
"لما رَوَى جَابر؛ قال: خَرَجْنَا في سَفَرٍ، فأصَابَ رَجُلاً منا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ في رَأسِهِ فاحْتَلَم، فسَأل أصْحَابَهُ هلْ تجدُون رُخْصَة في التَّيَمُّم؟ قَالُوا: ما نَجِدُ لك رُخْصَة في التَّيَمُّم، وأنت تَقْدِر على المَاءِ، فاغْتَسَل فمات، فَلَمَّا قَدِمْنَا على النَّبي صلى الله عليه وسلم أخبرناه بذلك، فقال: قتلُوهُ قَتلَهُم اللَّهُ إلا سَألُوا إذ لَمْ يَعْلَمُوا، فإنما شِفَاء العيِّ السُّؤالُ، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعْصِر أو يَعْصِب - شك الراوي - على جُرْحِهِ خِرْقَة، ثم يَمْسَح عليها ويَغْسِل سَائِر جَسَده" . ولم يجوِّز أصْحَاب الرَّأي الجمع بين التَّيَمُّم والغُسْل، وقالوا: إن كَانَ أكْثَر أعْضَائه وصَحِيحاً، غسل الصَّحيحَ وكَفَاهُ، وإن كان الأكْثَر جَريحاً، اقْتَصر على التَّيَمُّم، والحديث حُجَّةٌ عليهم.
قوله: { أو على سفر } في محلِّ نصبٍ عطفاً على خَبَر كان، وهو المَرْضَى؛ وكذلك قَولُه: { أو جاء أحد منكم } { أو لامستم النساء }، وفيه دليلٌ على مجيء [خبر] كان فِعْلاً مَاضياً من غَيْر "قَدْ"، وادِّعاء حَذْفها تكلُّفٌ لا حَاجَة إلَيْه؛ كذا استَدَلَّ به أبو حيان، ولا دليل فيه؛ لاحْتِمَال أن يَكُون "أو جاء" عَطْفاً على "كنتم" تَقْديره: وإن جَاءَ أحَدٌ، وإليه ذهَب أبُو البَقَاء، وهو أظْهَر من الأوَّل والله أعلم.
فصل
أراد مُطْلق السَّفَر طويلاً كان أو قَصِيراً، إذا عَدِمَ المَاءَ فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّم، ولا إعادة عَلَيه؛ لما روي عن أبِي ذرٍّ؛ قال:قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
" إنَّ الصَّعيد الطَّيِّبَ وضُوء المسْلِمِ، وإن لم يَجد المَاءَ عَشْرَ سِنِين، فإذا وَجَد المَاءَ، فَلْيَمُسَّهُ بَشَرتهُ فإن لم يَكُن مَرِيضاً ولا في سَفَرِ، ولكنه عَدِم المَاءَ في مَوْضِع لا يُعْدَم فيه المَاءُ غَالِباً: كقرية انقطع مَاؤُهَا فقال بَعْضُهم يصلِّي بالتَّيَمُّم، ويُعيدُ إذا قدر على المَاءِ" وقال آخَرُون: لا إعَادة [عَلَيْه] وهو قول الأوْزَاعِي ومَالِكٍ، وقال أبو حَنيفَة: يؤخِّر الصَّلاة حتى يجد المَاءَ. وقوله: { أو جاء أحد منكم من الغائط } أراد به: إذا أحْدَث، وقوله: "أو جاء أحد" يدل على الانتقال من مَكَان الغائِط والانتقَال عنه.
و"منكم" في مَحَلِّ رفع؛ لأنه صِفَة لأحد فَيَتعلَّق بمحذوف، و "من الغائط" متعلِّق بـ "جَاءَ" فهو مَفْعُوله، وقرأ الجُمْهُور: "الغائط" بزنة "فَاعِل" وهو المكان المُطْمَئِن من الأرْضِ [وجَمْعُه الغيطان ثم عَبَّر عَن الحَدَثِ كِناية؛ للاستحْيَاء من ذِكْره، وفرَّقت] العرب بين الفِعْلَيْن منه، فقالت: غَاطَ في الأرْض، أي: ذَهَب وأبْعَد إلى مَكَانِ لا يَراهُ فيه إلا من وَقَف عليه، وتَغَوَّط: إذا أحْدَث.
وقرأ ابن مَسْعُود: "من الغيط" وفيه قَوْلاَن:
أحدهما: وإليه ذهب ابن جني: أنه مُخَفَّف من "فَيْعِل"؛ كهَيْن، ومَيْت [في هَيِّن ومَيِّت].
والثاني: أنه مَصْدر على وَزْن "فَعَل" قالوا: غَاطَ يَغيطُ غَيْطاً، وغَاطَ يَغُوطُ غَوْطاً.
وقال أبو البَقَاء: هو مَصْدرَ "يغوط" فكان القياس "غوطاً" فقلبت الوَاوُ ياءً، و [إن] سُكِّنت وانْفتح ما قبلها لِخفَّتِها كأنه لم يطَّلِع على أنَّ فيه لُغَة أخْرَى من ذَوَات اليَاءِ حتى ادّعى ذَلِك.
قوله: { أو لامستم النساء } قرأ الأخوان هنا، وفي المَائِدَة: "لمستم"، والباقون: "لامستم" [فقيل] فَاعَلَ بمعنى فَعَل، وقيل لمس: جامع، ولامَس: لِما دُون الجِمَاع.
قال ابن عباس والحسن ومُجَاهِد وقتَادَة: كُنِّي باللَّمْس عن الجِماع؛ لأن اللَّمْسَ يُوصِل إلى الجِمَاع، ولأن اللَّمْس والمَسَّ وردَا في القُرْآن كِناية عن الجِماع [في] قوله:
{ { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة: 3]، و { { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237] ولأن الحَدَثَ الأصْغر مَذْكُور في قوله: { أو جاء أحد منكم من الغائط } فلو حُمَل اللمس على الأصْغر، لم يَبْق للحدث الأكْبر ذِكْرٌ، وقال ابن مَسْعُود، وابن عُمَر، والشعبي، والنَّخعِي، هما التقاء البَشَرتَيْن سواءٌ كان بِجِماع أو غير جِمَاع؛ لأن حُكْم الجَنَابَة تقدَّم في قوله: "ولا جنباً" فلو حَمَلْنَا اللَّمس على الجَنَابةِ، لزم التّكْرَار.
قوله: "فلم تجدوا" الفَاء عَطَفت ما بَعْدَها على الشَّرْط، وقال أبُو البَقَاءِ: على "جَاء" لأنه جَعَل "جَاء" عطفاً على "كنتم"، فهو شرْط عنده، والفاءُ في قَوْله: "فتيمموا" هي جَوَاب الشَّرْط، والضَّمِير في "تيمموا" لِكُلِّ من تَقَدَّم؛ من مريض ومُسَافرٍ ومُتغوِّط ومُلامِس أوْ لامسِ، وفيه تَغْليبٌ للخطاب على الغَيْبَة؛ وذلك أنَّهُ تقدَّم غَيْبَة في قوله: "أو جاء أحد" وخطاب في "كنتم"، و "لمستم" فغلَّب الخطاب، في قوله: "كنتم" وما بَعْده عليه، وما أحْسَن ما أتي هُنا بالغَيْبَة، لأنه كِناية عما يُسْتَحْيَا منه فَلَم يُخَاطِبْهم به، وهذا من مَحَاسِنِ الكَلامِ؛ ونحوه قوله:
{ { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء: 80] [و "وجَد" هنا بمعنى "لقِيَ"] فتعدت لِوَاحِدٍ و "صعيداً" مفعول به لقوله "تيمموا" أي: اقْصدُوا.
وقيل: هو على إسْقَاطِ حَرْفٍ، اي: بصعيدٍ، وليس بشيءٍ لعدم اقْتِيَاسه، والصَّعيد "فَعِيلٌ" بمعنى الصَّاعد، [قيل: الصَّعِيد]: وَجْه الأرْضِ تراباً كَانَ أوْ غيره.
فصل: الخلاف في وجوب تكرار طلب الماء في الصلاة الثانية
قَال الشَّافِعِي: إذا دخل وَقْتُ الصلاة فَطَلَب المَاءَ ولم يجد المَاءَ، وتيمم وصلَّى، ثم دَخَل وقْتُ الصَّلاةِ الثَّانية، يجب عليه الطلب ثانياً؛ لقوله "فلم تجدوا" وهذا يشعر بسَبْق الطَّلَب.
وقال أبو حنيفَة: لا يجب، واعْتَرض على الآيةِ بأن قوله: "فلم تجدوا" لا يُشْعر بسبق الطلب؛ قال - تعالى -:
{ { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [الأعراف: 102] { { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً } [الضحى: 7، 8]، { { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] وهذا لا يَسْبقُه طَلَبٌ؛ لاسْتِحَالته على اللَّه - تعالى -.
فصل
قال أبو حَنيفَة: التيمم هو القَصْد، والصَّعيد وهو ما يَصْعَد من الأرْض؛ فقوله { فتيمموا صعيداً طيِّباً } أي: اقْصُدوا أرْضاً، وقال الشَّافعي: هذه الآيةُ مطْلَقَة، وآية المائدة مُقيَّدة بقَوْله:
{ { مِّنْهُ } [المائدة: 6] وكلمة "مِنْ" للتَّبعيض، وهذا لا يَتَأتَّى في الصَّخْر الذي لا تُرَابَ علَيْه، فوجب حمل المُطْلَقِ على المُقَيَّد.
فإن قيل: إن كَلِمَة "مِنْ" لابْتداء الغَايَة، قال صَاحِب الكَشَّاف لا يَفْهَم أحدٌ من العرب من قَوْل القائِل: مَسَحْتُ برأسِهِ من الدُّهْن ومن المَاءِ ومن التُّراب، إلا مَعْنى التَّبْعيض.
ثم قال: والإذْعَان للحَقِّ أحقُّ من المِرَاء.
وقال الوَاحِدي: إنه - تعالى - قال: "صعيداً طيباً" والأرْض الطَّيِّبَة التي تُنْبِتُ؛ لقوله - تعالى -:
{ { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [الأعراف: 58]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "التُّرابُ طَهُور المُسْلمِ إذَا لَمْ يجدِ المَاءَ" .
قوله: { فامحسوا بوجوهكم } هذا الجَارُّ متعلِّق بـ "امسحوا" وهذه الباء يُحْتَمَل أن تكون زَائِدة، وبه قال أبُو البَقِاء، ويحتمل أن تكُون مُتعدِّية؛ لأن سيبويْه حكى: مَسَحْتُ رَأسه وبِرأسه، فيكون من بَابِ نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له، وحذف المَمْسُوح به، وقد ظَهَر في آية المَائِدة، في قوله: { { مِّنْهُ } [المائدة: 6] فحُمِلَ عَلَيْه هذا.
ثم قال - تعالى -: { إن الله كان غفوراً رحيماً } وهو كِناية عن التَّرْخيص والتَّيْسِير لأن من غَفَر للمذْنِبين، فبِأن يُرَخّص للعَاجِزين أوْلَى.
فصل
قال القرطبي: أجْمَع العلماءُ على أن التَّيَمُّم لا يَرْفعَ الجَنَابَة، ولا الحَدَث، وأن المُتَيِّمم لَهُما إذا وجد المَاءَ، عاد جُنُباً أو مُحْدِثاً كما كان؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر:
"إذَا وَجَدْتَ المَاءَ، فأمِسَّهُ جِلْدَكَ" .
فصل
قال القرطبي: والمَسْحُ لفظ مُشْتَرك يكون بمعنى الجماع، يقال: مَسَح الرَّجُل المَرْأة، إذا جَامَعهَا، والمَسْحُ: مسْح الشيء بالسَّيْف وقَطْعه به، ومَسَحَت الإبل يَوْمَها إذا سَارَت، والمسْحَاءُ المرأة الرسماء التي لا اسْت لها، ولِفُلان مَسْحة من جمالٍ، والمُرَاد هنا بالمَسْحِ: عبارةٌ عن مَرِّ اليد على المَمْسُوح.