التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
٥٦
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قرأ الجمهورُ: "نصليهم" بِضَمِّ النونِ مِنْ أصْلَى، وحُمَيْدٌ: بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَيْتُ ثُلاثِيَّا. قال القَرْطُبِيُّ: ونَصْبُ: "ناراً" على هذه القراءةِ، بِنَزْعِ الخَافِضِ تقديرهُ: بنارٍ. وقَرأ سَلاَّم، ويَعْقُوبُ: "نصليهُم" بضَمِّ الهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الحِجَازِ، وقد تَقَدَّمَ تَقْرِيرهُ.
وقال سِيبويْهِ: "سوف" [كَلِمَةٌ] تُذكَرُ لِلتَّهديدِ، والوَعِيدِ: يُقَالُ: سَوْفَ أفْعَلُ، وَينوبُ عَنْهَا حرفُ السين؛ كقوله:
{ { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر: 26] وقد يردُ "سوف" و "السِّينُ": في الوَعْدِ أيْضاً: قال تعالى: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5]، وقال: { { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } [مريم: 47]، وقال: { { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ } [يوسف: 98]، قِيلَ، أخَّرَهُ إلى وقْتِ السَّحر؛ تَحْقِيقاً للدعاءِ، وبالجملةِ، فالسَّينُ، وسَوْفَ: مَخْصُوصَتَانِ بالاسْتِقْبَالِ.
فصل في معنى قوله "بآياتنا"
يَدْخُلُ في الآيات كُلُّ مَا يَدُلُّ على ذاتِ اللَّهِ تعالى وصفاته، وأفْعالِهِ، [وأسْمَائِه]، والملائكةِ، والكُتُبِ، والرسُلِ؛ وكُفْرُهُم قدْ يكونُ بالجَحْدِ، وقد يكونُ بِعَدَمِ النَّظْرِ فيها، وقد يكونُ بإلقاءِ الشكُوكِ والشُّبُهَاتِ فيها، وقَدْ يكونُ بإنْكَارِهَا؛ عِنَاداً، أو حَسَدَاً.
وقوله: "نَصْلِيهم" أيْ: نُدْخِلُهم النارَ، لكن قولُه: { نُصْلِيهِمْ } فيه زِيَادَةٌ على ذلك، فإنَّهُ بمنزلَةِ شَوَيتُهُ بالنارِ، يُقالُ شَاةٌ مَصْليَّةٌ، أيْ: مَشْوِيَّةٌ.
قوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }، { كُلَّمَا }: ظَرْفُ زَمَانٍ، والعَامِلُ فيها { بَدَّلْنَاهُمْ }، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ، مِنَ الضميرِ المنْصُوبِ في { نُصْلِيهِمْ }، ويجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً لـ "ناراً" والعائِدُ محذوفٌ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ، و "ليذوقوا" مُتعلِّقٌ بـ "بدلناهم".
قال القُرْطُبِيُّ: يُقالُ: نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجاً ونَضجاً، وفلانٌ نَضِيجُ الرَّأي: أيْ: مُحْكَمُهُ.
فصل في معنى قوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ [جُلُودُهُمْ }أيْ:] كلما احْترقَتْ جُلودهم، بَدلنَاهُم جُلُوداً غيْرَ الجلودِ المُحْترقَةِ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ: يُبَدِّلُونَ جُلُوداً بِيضاً، كأمثالِ القَرَاطِيسِ. رُوي أنَّ هذه الآيةَ قُرِئَتْ عند عُمَرَ - رضي الله عنه - فقال عُمرُ للقارئ: أعِدْهَا، فأعَادَهَا، وكان عِنْدَهُ مُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ، فقال مُعَاذُ بنُ جَبَل - رضي الله عنه - عِندي تَفْسِيرُها: تُبدَّلُ في الساعَةِ مائةَ مرَّةٍ، فقال عمرُ: هكذا سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحَسَنُ: تأكُلُهمُ النارُ كُلَّ يومٍ سَبْعِينَ ألْفَ مرَّةٍ، كُلَّما أكَلَتْهُم، قِيلَ لَهُمْ: عُودُوا، فيعُودُونَ كَمَا كَانُوا.
رَوَى أبُو هُرَيرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما بَيْنَ مَنْكبي الكافِرِ مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ، للرّاكِبِ المُسْرِعِ" .
وعن أبي هُرَيْرة، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الكَافِر، أو نابُ الكَافر، مِثْلُ أحُدٍ وغِلَظُ [جِلْدِه] مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ" .
فَإنْ قِيل: إنَّهُ تعالى قادِرٌ على إبْقَائِهِمْ أحْياء في النَّارِ أبَدَ الآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أبْدانهمُ في النَّارِ مَصُونةً عن النضْجِ، مع إيصالٍ الألم الشديد إليها، مِنْ غيْرِ تَبْدِيلٍ لَهَا؟ فالجوابُ: أنَّهُ لا يُسْألُ عما يفعلُ، بل نقولُ: إنَّهُ قَادِرٌ على أنْ يُوصِلَ إلى أبْدانِهم آلاماً عظيمةً، من غيرِ إدْخَالِ النَّارِ، مع أنه تعالى أدْخلَهم النَّارِ، فإنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعَذِّبُ جُلُوداً لم تكنْ في الدنيا ولم تَعْصِهِ؟ فالجوابُ من وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنه يُعَادُ الأولُ في كُلِّ مَرَّةٍ، وإنَّما قال غيرَها، لتبدل صفتها، كما تقولُ: صَنَعْتُ مِن خَاتَمِي خَاتَماً غيرَهُ، فالخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الأولُ؛ إلاَّ أنَّ الصناعةَ، والصِّفَةَ تبدَّلتْ.
الثاني: المعذَّبُ هو الإنسانُ في الجِلْدِ، لا الْجِلْدُ، بل الجِلْدُ كالشَّيءِ الملتَصِقِ به، الزَّائِدِ على ذَاتِهِ، فإذا جُدِّدَ الجِلْدُ، صَارَ ذلك الجلدُ الجديدُ سَبَباً لوصولِ العذاب إلَيْهِ، فالمعذبُ لَيْسَ إلاَّ العَاصِي؛ يدلُّ عليه قولُه تعالى: { لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } ولَمْ يَقُلْ: ليَذُوقَ.
الثالثُ: قال السُّدِّيُّ: يُبَدَّلُ الجِلْدُ جِلْداً غَيرَهُ مِنْ لَحْمِ الكَافِرِ.
الرابعُ: قال عَبْدُ الْعَزِيز بنُ يَحْيَى: إنَّ اللَّهَ - تعالى - يُلبِسُ أهْلَ النَّارِ جُلُوداً لا تألَّمُ، بل هي تُؤلِمُهُم: وَهِيَ السَّرَابِيلُ فكُلَّمَا [احترق] جِلْدٌ بدّلَهُم جِلْدَاً غَيْرَهُ. طعن القَاضِي في هذا فقال: إنه تَرْكٌ للظَّاهِرِ، وأيضاً السَّرَابِيلُ مِنَ القَطرَانِ لا تُوصَفُ بالنُّضْجِ، وإنما تُوصَفُ بالاحْتِراقَ.
الخَامِسُ: يمكنُ أنْ يكونَ هذا استعارةً عن الدَّوَامِ، وعَدَمِ الانْقِطَاعِ؛ يُقالُ للموصوفِ بالدَّوام: كُلَّمَا انْتَهى فقد ابْتَدَأ، وكُلَّمَا وَصَلَ [إلى آخره] فقد ابتدَأ من أوله، فكذلك قوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } يَعْني: أنهم كُلّما ظَنُّوا أنهم نَضِجُوا واحْتَرقُوا وانتهوا إلى الهلاكِ، أعْطيناهُم قُوَّةً جَديدةً من الحياة؛ بحيثُ ظنُّوا أنَّهم الآنَ وجدُوا، فيكونُ المقصودُ بيانَ دَوَام العَذَابِ.
فإن قيل: قوله: "ليذوقوا العذاب" إنما يُقالُ: فلانٌ ذَاقَ الشَّيءَ، إذَا أدْرَكَ شَيْئاً قَلِيلاً منه، والله تعالى قَدْ وَصَفَهُمْ بأنهم كانوا في أشدِّ العذابِ، فكيْفَ يَحْسُنُ أن يذكرَ بعد ذلك أنَّهم ذَاقُوا العذابَ؟.
فالجوابُ: المقصودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ، الإخبارُ بأنَّ إحساسَهُم بذلك العذابِ، في كُلِّ حالٍ، يَكُونُ كإحْسَاسِ الذَّائِقِ بالمذُوق من حيثُ إنه لا يَدْخُلُ فيه نُقْصَانٌ، ولا زَوَالٌ، بِسَبَبِ ذلك الاحتراقِ.
ثُمَّ قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }، فالعزيزُ: القادِرُ الغَالِبُ، والحَكِيمُ: الذي لا يَفْعَلُ إلاَّ الصَّوابَ، وما تَقْتَضِيه الحكمةُ؛ لأنَّهُ قد يَقَعُ في القَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ كَوْنِ الكريمِ الرَّحيمِ يُعَذِّبُ هذا الشخص الضَّعِيفَ إلى هذا الحدِّ العَظيمِ أبَدَ الآبادِ.
فقيل: ليس هذا [بَعِجبٍ]؛ لأنه القادِرُ الغَالِبُ، فكما أنه رحيمٌ فهو أيضاً حَكِيمٌ، والحكمةُ تَقْتَضِي ذلك.