التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ، وشرحَ وعِيدَهُم؛ عاد إلى التَّكْلِيف، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتَابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا { { هَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [النساء: 51] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ، أو دُنْيَويَّة.
قوله: { أَن تُؤدُّواْ } مَنْصُوبُ المحلّ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع "أنْ"، إذَا أمِنَ اللَّبْس؛ لطولهما بالصِّلَةِ، وإما لأنَّ "أمر" يتعدى إلى الثَّاني بنفسه، نحو: أمَرْتُكَ الخَيْرَ، فعلى الأوَّل يَجْري [الخلاف في مَحَلِّها، أهي في مَحَلّ نصب، أم جر، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط، وقرئ "الأمانة"].
فصل: فيمن نزلت الآية؟
نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ، فلمَّا دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ، وصَعَدَ السَّطْحَ، فطلبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيلَ: إنَّه مع عثمان، فَطَلَبَهُ منه فأبى، وقال: لو عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده، وأخذ منه المفتاح، وفَتَح البَابَ، ودخل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البيت، وصلّى فيه ركعتين، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [المفتاحَ] أن يعطيه، ويجمع له بين السِّقَايَةِ، والسِّدَانة، فأنزل اللَّهُ - تعالى - هذه الآية، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ، وَيَعْتَذِرَ إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال عثمان: أكْرَهْتَ، وآذَيْتَ، ثم جئْتَ تَرْفُق، فقال: لقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في شأنِكَ، وَقَرَأ عليه الآية، فقال عُثْمَانُ: "أشْهَدُ [ألا إله إلاّ اللَّه و] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللَّهِ، وأسْلَمَ، وكانَ المِفْتَاحُ معه، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.
وقيل: المرادُ من الآية جميعُ الأمَانَاتِ.
واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسَانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه، أو مع العِبَادِ، أوْ مع نفسه. فمعاملة الرَّبِّ فهو: فعل المأمُورَات، وترك المَنْهيَّاتِ.
قال ابْنُ مَسْعُودٍ: الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ؛ في الوُضُوءِ، والجَنَابَةِ، والصَّلاةِ، والزَّكَاةِ، والصَّوْم.
[قال أبُو نُعَيْم الحَافِظُ في "الحِلْيَةِ": ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع: البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ.
قالوا: الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ، في الوضوء، والجنابة، والصّلاة، والزكاةِ، والصّوم، والكيل، والوزن، والودائع.
قال ابْنُ عبَّاسٍ: لم يرخص اللَّهُ لمُعْسِرِ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة].
وقال ابْنُ عُمَرَ: "إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان، قال: "هذَا أمانةٌ [خَبَّأتُهَا] عِنْدَكَ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا".
فأمانة اللِّسَانِ ألاّ يستعمله في الكذِبِ، والغيبةِ، والنَّميمَةِ، والكُفْرِ، والبدعةِ، والفُحْشِ، وغيرها.
وأمانة العَيْنِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهَا في النَّظَرِ الحَرَامِ، وأمَانَةَ السَّمْعِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهُ في سَمَاعِ المَلاَهِي، والمَنَاهِي، وسماع الفُحْشِ، والأكاذيبِ، وغيرها.
وكذا جميع الأعْضَاءِ، وأمَّا الأمَانَةُ مع سَائِرِ الخَلْقِ فلردِّ الوَدَائِعِ، وتركِ التَّطفيفِ في الكَيْلِ، والوزْنِ، وعدْلِ الأمرَاءِ في الرَّعِيَّةِ، وعدلِ العُلَمَاءِ في العَوَامِ: بأن يُرْشِدُوهم إلى الاعتِقَاداتِ، والأعْمَالِ الَّتي تنفعهم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم، ولا يحملوهم عَلَى التَّعصُّبَات البَاطِلَةِ، وأمَانَةُ الزَّوْجَةِ للزَّوْجِ في حفظ فَرْجِهَا، وألا تُلْحِقَ به وَلَداً من غَيْرِهِ، وفي إخبارِها عن انْقِضَاءِ عدَّتها، ونهي اليهود عن كِتْمَانِ أمر محمد - عليه الصَّلاة والسلام - وأما أمَانته مع نفسه، فهو ألا يَخْتَارُ [لِنَفْسِهِ] إلاّ الأنْفَعَ، والأصْلَحَ، في الدِّين والدُّنْيَا، وألا يقدم بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ، والغَضَبِ على مَا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ قال أنَسٌ - رضي الله عنه -: قلَّ ما خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال
"لا إيْمَانَ لَمنْ لا أمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لمَنْ لا عَهْدَ لَهُ" وقال تعالى { { لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ } [الأنفال: 27]، وقد عظَّم الله أمْرَ الأمَانَةِ فقال: { { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب: 72].
[ويروي أنَّ اللَّه - تعالى - خَلَقَ الدُّنْيَا كالبُسْتَانِ، وزينها بخمسة أشْيَاء:
عِلْمَ العُلمَاءِ، وعَدْلِ الأمَرَاءِ، وعِبَادَةِ العُلَمَاءِ، ونَصِيحَةِ المُسْتَشَارِ، ودفع الخيانة].
فصل في الخلاف في ضمان الوديعة
الأكْثَرُونَ على أنَّ الوديعةَ غير مضمونةٍ عند عَدَمِ التَّفْرِيطِ، وعن بعض السَّلَفِ أنَّهَا مَضْمُونَةٌ.
روى الشَّعْبِيُّ عن أنَسٍ قال: اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بضاعةً، فضاعت من بين ثيابي. فضمنني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وعن أنسٍ قال: كان لإنسان عندي وديعَةٌ سِتَّةُ ألاف درهَمٍ، فذهبت فقال عُمَرُ: "ذهب لك معها شيء"؟ [قلت: لاَ] فألزمني الضَّمَان.
وحجة الجُمْهُورِ ما رَوَى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"لا ضَمَانَ عَلَى دَاع، ولا [على] مُؤتمَنٍ" وأما فِعْلُ عمر - رضي الله عنه - [فهو] محمولٌ على أنَّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان.
فصل في الخلاف في ضمان العارية
قال الشافعيُّ وأحمدُ: العاريةُ مَضْمُونَةٌ بعد الهَلاَكِ لقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ [إِلَىۤ أَهْلِهَا }] والأمر لِلوُجُوبِ، وقوله - عليه الصلاة والسلام:
"على اليَد مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤديهُ" وخصت منه الوديعَةُ، فيبقى العامُّ بَعْدَ التَّخْصيصِ حجة، وأيضاً فإنَّا أجمعْنَا على أنَّ المستام مَضْمُونٌ، وأنَّ المودع غيره مَضْمُونٍ والعَارِيَة وقعت في البين، ومشابهتها لِلْمُسْتَام أكثر؛ لأنَّ كلاّ منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه، والوديعة أخذها لِغَرَضِ المالِكِ، فظهر الفَرْقُ بيْنَ العاريَةِ والوديعة.
وقال أبُو حنيفَة: [العارية] ليست مضمونة كقوله عليه السلامُ
"لاَ ضَمَانَ عَلَى مُؤتَمنٍ" وجوابه أنَّهُ مَخصوصٌ بالمستام، فكذا في العَارِيَةِ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ.
قوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [فيكون] قوله { أَن تَحْكُمُواْ } معطوف على { أَن تُؤدُّواْ } أي: يأمرُكُمْ بتَأديَةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ، والمعطوف بالظَّرْفِ. وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها إلاّ في الشِّعْرِ.
وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً، ولنصحّح مَحَلّ الخلافِ أولاً: فنقولُ: إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو، والفاء هل يجوزُ أن يفصل بينه، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا؟
فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ، فقد ضَعُفَ، فلا يتوسّط بينه، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله: [المنسرح]

1810- يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الـْ ـعَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ

تقديره: وترى أديمها نغلاً يوماً، [ففَصَل بـ "يَوْماً"]، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازِهِ مُسْتَدِلاً بقوله: { { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]، { { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71]، { { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ } [يس: 9] { { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12]. { أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ } [الآية]، وقالَ صَاحِبُ هذا القول: إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرفٍ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو: امرر بزيدٍ وغداً بِعَمْرو، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها.
أمَّا
{ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]، وقوله { { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [يس: 9]، فلأنه عطف شيئين على شَيْئَيْنِ: عطف الآخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى، وكذلك عطف "من خلفهم" على { من بين أيديهم } و "سدَّا" على "سدَّا"، وكذلك البيت عطف فيه "أديمها" على المفعول الأوَّل لـ "تَرَاها"، و "نَغلاً" على الثاني وهو كشبه و "يوماً" الثَّاني على "يَوْماً" الأوَّلِ، فلا فصل فيه حينئذٍ، [وحينئذ] يقال: [ينبغي] لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ، فإن ما استشهده به مُؤوَّل على ما ذكرناه.
فإن قيل: إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني؛ لأنَّ حُكْمَ [المعطُوف حكم] المعطوف عليه، فهو نَظِيرُ قولك: ضَرَبْتُ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ، ويوم السَّبْت، فـ "يَوْمَ" السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجُمعة، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر] وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً.
فالجوابُ: أنه لو تركنا [و] الظَّاهر من غير تَقْييدِ الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [لأن الظاهر كما ذكرت] في مثالك: ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [وعَمراً] يَوْمَ السَّبْتِ [أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص، ألا تَرَاكَ تَقُولُ: ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة، وعمراً يوم السَّبت]، فكذلك هَذَا، وهو مَوْضعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ.
وأما "فبشرناها بإسحاق"، فيعقوب ليس مجروراً عَطْفاً على إسْحَاق، بل منصوباً بإضْمَارِ فعل أي: ووهبنا لها يعقوبَ، وَيَدُلُّ عليه قراءةُ الرَّفْع، فإنَّهَا مؤذنة بانْقطَاعِهِ من البِشَارَة [به]، كيف وقد تَقدَّم أنَّ هذا القائل يَقُولُ: إنَّهُ متى كان المَعْطُوفُ عليه مجروراً، أُعيدَ مع المَعْطُوفِ الجار. [و] أما { أن يؤدوا الأمانات }، فلا دلالة فيها أيضاً؛ لأن "إذَا" ظرف لا بُدَّ من عامل، وعامله إما { أَن تَحْكُمُواْ } وهو الظَّاهِرُ من حيث المعنى، وإما { يَأْمُرُكُمْ } فالأوَّلُ ممتنع، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حيز الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين، وأمّا الكُوفِيُّون فيجوِّزونَ ذلك، ومنه الآية عِنْدَهُم، واستَدَلُّوا بقوله: [الرجز]

1811-............................ كَانَ جَزَائِي بالْعَصَا أنْ أجْلَدَا

وقد جاء ذلِكَ في المفعول الصَّريح في قوله: [الكامل]

1812-............................ وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي

فكيف بالظرف وشبهه.
والثاني ممتنعٌ أيضاً؛ لأنَّ الأمْرَ ليس واقعاً وَقْتَ الحكم، كذا قاله أبُو حَيَّان وفيه نَظَرٌ وإذا بَطَلَ هذا فالعامِلُ فيه مُقَدَّرٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ تَقْدِيره: "وأن تحكموا إذا حكمتم"، و "أن تحكموا" الأخيرة دالة على الأولى.
قوله "بالعدل" يجوزُ فيه وجهان:
أحَدُهُمَا: أنْ يتعلَّقَ بـ "تحكموا"، فتكونُ البَاء للتَّعدية، والثانية: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من فاعل تحكموا، فتكونُ الباء للمصاحبة، أي: ملتبسين بالعَدْلِ مصاحبين له.
والمعنيان مُتَقَارِبَان.
فصل
اعْلَمْ أن الأمانة عبارة عن أداء ما وَجَبَ عليك لِغَيْرِكَ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنْسَانٍ على غيره حق، فأمر من وَجَبَ عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى مَنْ له ذلك الحق.
ولما كان التَّرْتيبُ الصَّحيحُ أن يبدأ الإنسان بِنَفْسِهِ في جلب المَنَافِعِ، ودفع المضار، ثم يشتغل بغيره، لا جَرَمَ أمر تعالى بِأدَاءِ الأمَانَةِ أوّلاً، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحَقّ، وهذا من اللَّطَائِف المودعة في ترتيب القرآن.
فصل في وجوب حكم الإمام بالعدل
أجّمعُوا على أنَّهُ يَجِبُ على الحَاكِمِ أنْ يَحْكُم بالعَدْلِ، لهذه الآية، ولقوله تعالى
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [النحل: 90] وقوله { { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ } [الأنعام: 152] وقوله { { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ص: 26]، وقال - عليه الصلاة والسلام: "لا تَزَالُ هذه الأمَّةُ بخَيْرٍ ما إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ، وإذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذَا اسْترْحَمتْ رَحِمَتْ" وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ "المُقْسِطُونَ عِند اللَّهِ علَى منابر مِنْ نُورٍ عن يمينِ الرَّحْمان، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ هُمُ الذين يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأهْلِيهِمْ ما وُلُّوا" . وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ "إنَّ أحَبَّ النَّاس إلى اللَّهِ يومَ الْقِيَامَةِ، وأقْرَبَهَمْ مِنْهُ مَجْلِساً إمامٌ عادِلٌ وإنَّ أبْغَضَ النَّاسِ إلى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأشَدّهُمْ عَذَاباً إمامٌ جَائِرٌ" . وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ "يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ، فَيُجْمَعُونَ عَلَيْهِ فَيُلْقَونَ في النَّارِ" .
يحقق ذلك قوله تعالى { { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22] وقوله { { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } [إبراهيم: 42].
فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين
يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عليه، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ، والإقبال عَلَيْهِمَا، والاستماعِ منهما، والحكم بَيْنهُمَا، وينبغي إلا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً، ولا شاهداً شهادته، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى، والاستخلافَ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ، ولا الإنْكَارَ، ولا يُضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الآخر، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه.
قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة بـ "نعم"، و "بئس" إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ!. قال: و "ما" المُرْدَفَةُ على نعم، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا، ومما في قوله: وكان رَسُولُ اللَّه مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر: [الطويل]

1813- وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ

وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئةَ، فهي بمعنى الَّذي، وما وَطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ. ولكن المقصد إنما هو لا يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل.
قال أبُو حَيَّان وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً، لا تكونُ أسماء، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً، فتدافعا.
فصل: في معنى قوله "نعما يعظكم"
المعنى: نِعْمَ شَيئاً يعظكم به، أو نِعْمَ الشَّيْء الذي يعظكُم بِه.
والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ، أي: نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك، وهو المأمور به: من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ، أي: بالقسط، ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }، أي: إذا حكمت بالعدل، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ، فهو بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي. وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ -
"اعْبُد اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ" .