التفاسير

< >
عرض

وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٦
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما أمر بدفع مال اليتيم إليه، بيَّن هنا متى يؤتيهم أموالهم، وشرَطَ في دفع أموالهم إليهم شرطين:
أحدهما: بلوغ النكاح.
والثَّاني: إينَاسِ الرُّشد.
في "حتى" هذه وما أشبهها أعني الداخلة على "إذا" قولان:
أشهرهما: أنَّها حرف غاية، دخلت على الجملة الشَّرطيَّة وجوابها، والمعنى: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم، بشرط إيناس الرُّشد، فهي حرف ابتداء كالدَّاخلة على سائِرِ الجمل كقوله: [الطويل]

1754- فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا بِدجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أشْكَلُ

وقول امرئ القيس: [الطويل]

1755- سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ

والثاني: وهو قول جماعة منهم الزَّجَّاجُ وابن درُسْتَويه: أنَّها حرف جر، وما بعدها مجرور بها، وعلى هذا فـ "إذا" تتمحَّضَ للظَّرْفِيَّةِ، ولا يكون فيه معنى الشَّرط، وعلى القول الأوَّلِ يكون العامل في "إذَا" ما تَخَلَّص من معنى جوابها تقديره: إذا بلغوا النِّكاح راشدين فادفعوا. وظاهرُ العبارة لبعضهم أنَّ "إذا" ليست بشرطيَّة، لحُصُولِ ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازي بها في الشِّعر، وقال: "فعلوا ذلك مضطرين"، وإنما جُوزي بها لأنَّها تحتاج إلى جواب، وبأنَّه يليها الفعلُ ظاهراً، أو مضمراً، واحتجَّ الخليلُ على عدم شَرطيَّتِها بحصولِ ما بعدِها، ألا ترى أنك تقول: أجيئك إذا احمر البُسر، ولا تقول: إن احمر.
قال أبُو حيان: وكلامُه يُدلُّ على أنها تكون ظرفاً مجرداً، ليس فيها معنى الشَّرط، وهو مخالف للنَّحويين، فإنَّهم كالمجمعين على أنها [ظرف] فيها معنى الشِّرط غالباً، وإن وُجِدَ في عبارةِ بعضهم ما يَنْفَى كونها أداة شرطٍ، فإنَّما أنها لا يجزم بها، إلاَّ أنها لا تكون شرطاً، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً قال: تقديره يبلغوا حَدَّ النكاحِ أو وقته، والظَّاهرُ أنها لا تحتاج إليه، والمعنى: صَلَحوا للنكاح.
فصل في معنى الابتلاء وكيفيته
والابتلاءُ: الاختيارُ، أي اختبروهم في عقولهم وإدراكهم، وحفظهم أموالهم. نزلت في ثابت بن رفاعة، مات أبُوهُ رفاعةُ وتركه صغيراً عند عمه، فجاء عمُّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يَحِلُّ لي مِنْ ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية.
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشَّعبيُّ: "لا يدفع إليه ماله، وإنْ كان شيخاً حتى يؤنس رشده"، فالابتلاءُ يختلف باختلاف أحوالهم، فإن كان مِمَّنْ يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئاً كبيراً من المال، وينظر في تَصَرُّفه، وإن كان ممَّن لا يتصرف فيختبره في نفقة داره، والإنفاق على عبيده وأجرائه وتُخْتبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذَا رأى حسن تصرُّفه وتدبيره مراراً حيث يغلب على الظن رشده دفع إليه المال.
فصل فيما إذا عاد إلى السَّفه بعد أخذ المال
قال القرطبيُّ: "إذا سُلِّم إليه المال لوجود الرشد، ثم عاد إلى السَّفه عاد الحجرُ عليه".
وقال أبو حنيفة: لا يعود عليه الحجر؛ لأنَّه بالغ عاقل، يجوز إقراره في الحدود والقصاص. دليلنا قوله تعالى:
{ { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } [النساء: 5].
ويجوز للوصيّ أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارةٍ وإبضاع وشراء وبيع، وعليه أنْ يؤدّى الزَّكاة من سائر أمواله عينٍ وحرث وماشية وفطرة، ويؤدّي عنه أرُوش الجنايات، وقيم المُتْلَفَاتِ، ونفقةِ الوالدين، وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز أن يزوجه، ويؤدّي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسرّى بها، ويصالح له وعليه على وجه النَّظر.
فصل المراد من بلوغ النكاح
والمراد من بلوغ النِّكاح هو الاحتلام، لقوله تعالى:
{ { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ } [النور: 59] وعند هذا الحدّ يجري على صاحبه قلم التَّكليف، وإنَّما سمي الاحتلام بلوغ النَّكاح، لأنَّه إنزال الماء الدَّافق الذي يكون في الجماع، وهذه الآية دالّة على ورود لفظ النِّكاح بمعنى الجماع.
واعلم أن للبلوغ خمس علامات ثَلاثَةٌ منها مُشْتَرَكةٌ بين الذكور والإناث وهي: الاحتلامُ، والسنُّ المخصوص، ونَبَاتُ الشّعر الخشن على العانَةِ.
وقيل: إنبات الشَّعر الخشن بلوغ في أولاد المشركين، ولا يكون لأولاد المسلمين؛ لأن أولاد المسلمين يمكن الوقوف على مواليدهم بالرُّجوع إلى آبائهم، وأولاد الكفار لا يوقف على مواليدهم، ولا يُقْبَلُ قول آبائهم فيه لكفرهم، فجعل الإنبات الذي هو أمَارَةُ البلوغ بلوغاً في حقِّهم.
واثنان منها تختّص بالنّساء وهما: الْحَيْضُ والْحَبَلُ.
فصل
قال أبُو حنيفةَ: "تصرفات [الصَّبي] العاقل المميز بإذن الوليّ صحيحة لهذه الآية، ولأنه يصحّ الاستثناء فيه فيقال: ابتلوا اليتامى إلاَّ في البَيْع والشِّراء".
قال الشَّافعيُّ: لا تصحُّ تصرفاته؛ لأنه إنَّما أمر بدفع ماله إليه بعد البلوغ وإيناس الرُّشْدِ، وإذا كان لا يجوز دفع المال حال الصغر، فلا يجوز تصرفه حال الصغر؛ لأنه لا قائل بالفرق.
والمرادُ بالابتلاء: اختبار عقله في أنه هل له فَهْم وعَقْلٌ في معرفة المصالح والمفاسد؟ بأن يبيع الوليُّ ويشتري له بحضوره، ثم يستكشفُ من الصبيِّ أحوال ذلك البيع والشِّراء، وما فيها من المصالح والمفاسد، وبهذا القَدْر يحصل الابتلاء والاختبار، وأيضاً هَبْ أنَّا سَلَّمْنَا أنه يدفع إليه شيئاً ليبيع أو يشتري، فَلِمَ قلتَ: إنَّ هذا القدر يدل على صحَّةِ ذلك البيع والشِّراء؟ بل إذا باع واشترى، وحصَلَ به اختبار عقله فالوليُّ بعد ذلك يتمم ذلك البيع والشراء.
قوله: { فَإِنْ آنَسْتُمْ }.
والفاءُ جواب "إذا" وفي قوله: { فَٱدْفَعُواْ } جواب "إن".
وقرأ ابن مسعود "فإن أحستم" والأصْلُ أحسسْتُم فحذف إحدى السِّينين، ويحتمل أن تكون العينَ أو اللام، ومثله قول أبي زبيد: [الوافر]

1756- سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا حَسِينَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ

وهذا خلاف لا ينقاسُ، ونقل بعضهم أنَّها لغةُ سُلَيم، وَأنَّها مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضَّمير أو نونه ونَكَّر "رُشْداً" دلالةً على التنويعِ، والمعنى أيّ نوعٍ حَصَلَ من الرُّشدِ كان كافياً.
وقرأ الجمهور "رُشْداً" بضمة وسكون، وابن مسعود والسُّلميُّ بفتحتين، وبعضهم بضمتين، وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى. وآنس كذا أحسَّ به وشَعَرَ، قال: [الخفيف]

1757- آنسَنْ نَبْأةً وَأفْزَعَهَا القُنْـ ـنَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ

وقد قيل: "وجد" عن الفراء.
وقيل: أبصر.
وقيل: رأيتم.
وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحدٍ.
وقال القرطبي: وأصْلُ الإيناس في اللُّغة الإبصار، ومنه قوله
{ { آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } [القصص: 29].
قال أهل اللُّغة: هو إصابة الخير، قال تعالى:
{ { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } [البقرة: 256]، والغيُّ: هو العصيان: قال تعالى: { { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] فيكون نقيضه هو الرشد، وقال تعالى: { { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود: 97].
وقال أبو حنيفة: "لا يعتبر هنا الصَّلاح في المال فقط"، وينبني على هذا أن أبا حنيفة لا يرى الحجر على الفاسق، والشافعي يراه.
فصل
إذا بلغ الرُّشْد زال عنه الحجر، ودفع إليه، رجلاً كان أو امرأة، تزوج أو لم يتزوج.
وعند مالك إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج، فإذا تزوّجتْ دفع المال إليها، ولكن لا ينفذ تصرفها إلاَّ بإذن الزَّوج ما لم تكبر وَتُجَرَّبْ، فإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاً [نُظِرَ] إنْ عاد مبذراً لماله حُجِرَ عليه، وإن عاد مفسداً في دينه فقيل: يُعاد الحجْرُ عليه، كما يستدام الحجر عَلَيْهِ إذا بلغ بهذه الصفة، وقيل: لا يُعَادُ؛ لأن حكم الدوام أقْوَى من حكم الابتداء، وعند أبي حنيفة لا حَجْرَ على البَالِغِ العاقِلِ بحال.
قوله: { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً }.
في نصبهما وجهان:
أحدهما: أنهما منصوبان على المفعولِ من أجْلِهِ أي: لأجل الإسراف والبِدَارِ.
ونقل عن ابن عباس أنه قال: "كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم، لئلا يكبر فينزع المال منهم".
والثَّاني: أنَّهما مصدران في موضع الحالِ أي: مُسْرِفينَ وَمُبادِرِينَ.
وبداراً مصدرُ بادرَ والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها، بمعنى أن الوليَّ يبادرُ اليتيم إلى أخْذِ مالهِ، واليتيمُ يُبَادِرُ إلى الكبر، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى: أنَّ فاعل بمعنى فعل نحو: سافر وطارق.
قوله: "أن تكبروا". فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول بالمصدر أي: وبداراً كبرهم، كقوله:
{ { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [البلد: 14،15] وفي إعمال المصدر المُنَوِّنِ الخلاف المشهور.
والثَّاني: أنَّه مفعول من أجله على حذف أي: مخافة أن يكبروا، وعلى هذا فمفعولُ "بِدَاراً" محذوف، وهذه الجملة النَّهْييَّةُ فيها وجهان:
أصحهما: أنها استئنافية، وليست معطوفةً على ما قبلها.
والثَّاني: أنَّها عطف على ما قبلها، وهو جوابُ الشرط بـ "إن" أي: فادفعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسدٌ؛ لأن الشّرط وجوابه، مترتِّبان على بلوغ النِّكاح وهو معارضٌ لقوله: { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } فَيَلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّب عَلَيْهِ، وذلك ممتنع.
والمعنى: ولا تأكلوها يا معشرَ الأولياءِ "إسْرافاً" أي: بغير حقٍّ، "وبداراً" أي: ومبادرة، ثم بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لهم من مالهم فقال: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } أي: فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً، والعفة الامتناع مما لا يحل.
قال الواحديُّ: استعفف عن الشيءِ وعَفَّ: إذا امتنعَ منه وتَرَكَهُ.
قال الزمخشريُّ: "استعفف أبلغ مِنْ عَفَّ كأنَّه طالب زيادة العفَّةِ".
قوله: { وَمَن كَانَ فَقِيراً }.
محتاجاً إلى مال اليتيم، وهو يحفظه ويتعمَّده { فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ }.
رُوِيَ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:
"إنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِي يَتيمٌ، فقال: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلا مُبَذِّرٍ وَلاَ مُتَأثِّل" .
واختلفوا، هل يلزمهُ القضاءُ؟ فقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير: يقضي إذا أيسر لقوله: { فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } والمعروف: هو أن يقترض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيْسَرَ قَضَاهُ.
قال عمرُ بن الخطّاب: "إنِّي أنْزَلْتُ نفسي من مال اللَّه بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففتُ، وإنْ افترقتُ أكَلْتُ بالمعروفِ، فَإذا أيْسَرْتُ قضيتُ".
وأكثر الروايات عن ابن عباس، وبعض العلماء أنّ القرض مخصوص بأصول الأموال من الذَّهب والفضَّة وغيرهما، فأمَّا التَّناول من ألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدَّواب، فمباح له إذا لم يضرَّ بالمال، وهذا قول أبي العالية؛ لأنه أمر بدفع أموالهم إليهم.
قال الشَّعْبيُّ: "لا يأكله إلا أن يضطر كما يضطر إلى الميتة".
وقال قوم: لا قضاء عليه لقوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً } وهذا يُشْعِرُ بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، وقوله { فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } أن للوصي أن ينتفع بمقدار الحاجة، وقوله
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً } [النساء: 10] يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلماً وغير ظلم، وإلاَّ لم يكن لقوله { ظُلْماً } معنى.
وأيضاً الحديث المتقدم، وأيضاً فيقاسُ على السَّاعي فإنَّهُ يُضْرَبُ له من الصَّدقات على قدر عمله، فكذا ها هنا.
وقال أبُو بكرٍ الرازيُّ: الَّذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنياً أو فقيراً، لقوله تعالى:
{ { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 2] إلى قوله { { حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2]، وقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً } [النساء: 10] إلى قوله { { سَعِيراً } [النساء: 10] وقوله: { { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىٰ بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 127].
فصل
قال القرطبيُّ: كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه كذلك عليه حفظ الصبيِّ في بدنه وتأديبه،
"رُوِيَ أنَّ رجلاً قال لِلنبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ في حجري يتيماً أآكل من ماله؟ قال: نعم غير متأثل مالاً ولا واقٍ مالك بماله قال: يا رسول اللَّه أفأضربه، قال: مَا كُنْت ضَارِباً منه وَلَدَكَ" .
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ }.
وهذا أمر رشاد، وليس بواجب، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ليزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة.
واختلفوا فيما إذا ادَّعى الوصيُّ بعد بلوغ اليتيم أنَّه دفع المال إليه هل يصدَّقُ؟
أو قال أنْفَقْتُ عليه المالَ في صغره؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ: لا يصدَّقُ.
وقال أبو حنيفة: "يصدَّقُ".
قوله: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }.
في "كفى" قولان:
أحدهما: أنَّها اسم فعل.
والثاني - وهو الصَّحيح - إنها فعلٌ، وفي فاعلها قولان:
الأول: وهو الصَّحيح أنَّهُ المجرور بالباء، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو:
{ { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [فصلت: 53] باطِّراد فقال أبُو البقاء: زيدت لتدلَّ على معنى الأمر إذ التقدير: اكتف باللَّه، وهذا القول سبقه إليه مَكِي والزَّجاجُ فإنه قال: دَخَلَتْ الباءُ في الفاعل؛ لأن معنى الكلام الأمرُ أي: الباء ليست بزائدة، وهو كلامٌ غيرُ صحيح؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين، و "بالله" متعلّق به، ومن حيث كون "الباء" دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو اللَّهُ تعالى، فيتناقض. وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضاً فإنه قال: "باللَّه" في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيَّن معنى الأمر في صورة الخَبَرِ أي: اكتفوا باللَّه، "فالباء" تدل على المراد من ذلك، وفي هذا ما رُدَّ به على الزَّجَّاجِ، وزيادة جَعْلِ الحرف زائداً وغير زائدٍ.
والثاني: أنَّه مضمر والتَّقديرُ: كفى الاكتفاء و "بالله" على هذا في موضع نصب؛ لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأي ابن السَّراج، وَرُدَّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله: [البسيط]

1758- هَلْ تَذْكُرُونَ إلَى الدَّيْرَينِ هجْرَتَكُمْ وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانُ قُرْبَانَا

أي قولكم: يا رحمان قرباناً، وقَالَ أبو حيان: وقيل: الفاعِلُ مضمر، وهو ضمير الاكتفاء أي: كفى هو أيْ: الاكتفاء، و "الباء" ليست زائدة، فيكون في موضع نصب ويتعلق أنذاك بالفاعل، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين: حذف الفاعل، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله، وفيه نظرٌ؛ إذْ لقائل أن يقول: إذا قلنا بأن فاعل "كفى" مضمر لا نعلق "باللَّه" بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ.
وقال ابْن عيسى: إنَّما دخلت الباء في "كفى باللَّه"؛ لأنَّهُ كان يتصل اتِّصال الفاعل [وبدخول الباء اتصل] اتصالَ المضافِ، واتِّصال الفاعل، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها، ويحتاج إلى فكر.
قوله: { حَسِيباً } فيه وجهان:
أصحهما: أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول "مِنْ" عليه، وهي علامة التمييز.
والثَّاني: أنه حال.
و "كفى" هاهنا متعدِّية لواحد، وهو محذوف تقديره: "وكفاكم الله".
وقال أبُو البَقَاءِ: "وكفى" يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفا هنا تقديره: كفاك اللَّهُ شرَّهم بدليل قوله:
{ { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 137] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه.
قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد: وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله:
{ { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 137] وهو محل نظر.
قال ابن الأنباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً: حَسْبُهُ اللَّهُ، [ومعناه: يحاسبه] الله على ما يفعل من الظُّلم، ومن الثَّاني قولهم: حسبك الله، أي: كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب، أو بالكافي.