التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً
٧١
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً
٧٢
وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
٧٣
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قال القًرْطُبِي: إنه - تعالى - لمّا ذكر طاعة اللَّه وطَاعَة رسُولِهِ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم.
وقال ابن الخطيب: لما رغَّب في طاعة اللَّهِ وطاعةِ رسُوله، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين، والحَذَر والحِذْر بمعنى؛ كالأثر والإثْر؛ والمَثَل والمِثْل، والشَّبَه والشِّبْه.
قيل: ولم يُسْمَع في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك.
يقال: أخَذَ حِذْرَهُ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه، والمَعْنَى: احْذَرُوا واحْتَذِرُوا من العَدُّوِّ، ولا تمكِّنُوه من أنفُسِكم.
وقال الوَاحِدِيُّ: فيه قَوْلاَنِ:
أحدهما: المُرَاد بالحِذْرِ [ها] هُنَا السِّلاح، والمعنى: خُذُوا سِلاَحَكُم، والسِّلاح يسمى حِذْراً؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر.
والثاني: "خذوا حذركم" بمعنى: احْذَرُوا عَدُوَّكم، فعلى الأوَّل: الأمْر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به، وعلى الثَّانِي: أخذ السِّلاح مَدْلُول عليه بِفَحْوَى الكَلامِ.
فإن قيل: إنَّ الَّذِي أمَر اللَّه - تعالى - بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُفْضي إلى الوُجُودِ، لم يَنْعَدِم، وإن كان الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ، فلا حَاجَة إلى الحذْر، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث، قال - عليه السلام -:
"المَقْدُورُ كَائِنٌ" وقيل: الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر.
فالجوابُ: أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع؛ فإنه يُقَالُ: إن كان الإنْسَان من أهْلِ السَّعَادة في قَضَاءِ اللَّه وقدرِه، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ، لم ينْفَعْه [الإيمانُ و] الطَّاعَة، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة.
واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء اللَّه - تعالى - كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر، وكان قَوْل القَائِل: أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَاقِضاً؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ.
قوله: "فانفروا [ثبات]" يقال: نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ، وخَرَجُوا للحَرْبِ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون: إذا حَثَّهُم على النَّفِير وَدَعَاهُم إلَيْه؛ ومنه قوله - عليه السلام -:
"[و] إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا" والنَّفِير: اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون؛ ومنه يُقال: فلان لاَ فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ.
وقال النُّحَاة: أصْلُ هذا الحَرْف من النُّفُور والنِّفَارِ؛ وهو الفَزَع، يقال: [نَفر] إليه؛ ونَفَر مِنْهُ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ، وفي مُضَارعه لُغَتَان: ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا، وقيل: يُقَال: نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش: "فانفُروا"أو انفُروا" بالضم] فيهما، والمَصْدَر النَّفِير، والنُّفُور، والنَّفْر: الجماعة كالقَوْم والرَّهْط.
[قوله]: "ثبات" نصب على الحَالِ، وكذا "جميعاً" والمَعْنَى" انْفِرُوا جَمَاعاتٍ [متفرِّقَة] [أي] سَرِيّة بعد سَرِيّة، أو مُجْتَمِعِين كَوْكَبَةً وَاحِدَة، وهذا المَعْنَى الَّذي أراد الشَّاعِر في قوله: [البسيط]

1821-......................... طَارُوا إلَيْه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانَا

ومثله قوله: { { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي: على أيّ الحَالَتَيْن كُنْتُم فَصَلُّوا.
قال أبُو حَيَّان: ولم يُقْرَأ "ثبات" فيما عَلِمْت إلا بكَسْر التَّاء. انتهى.
وهذه هي اللُّغَةُ الفَصيحَة، وبَعْض العَرَب يَنْصِب جَمْع المُؤنَّث السَّالم إذا كان مُعْتَلَّ اللام مُعوضاً منها تاء التأنيث بالفَتْحَة، وأنشد الفرَّاء: [الطويل]

1822- فَلَمَّا جَلاَهَا بالأيَّام تَحَيَّزَتْ ثُبَاتاً عَلَيْهَا ذُلُّهَا واكْتئابُهَا

وقرئ شاذاً:{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } [النحل: 57] [بالفتحة]، وحكي: سَمِعْتُ لغاتَهُم، وزعم الفَارِسي أن الوَارِدَ من ذلك مُفْردٌ لامهُ؛ لأن الأصْل "لُغَوَة"؛ فلما رُدَّت اللام، قُلِبَت ألفاً، وقد رُدَّ على الفَارِسي: بأنّه يلْزَمُهُ الجَمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْه، ويَرُدُّ عليه أيْضاً القِرَاءة المتقَدِّمة في الثبات؛ لأن المُفْرَد منه مكْسُورُ الفَاءِ.
["وثبات" جَمْعُ ثُبَة، ووزنها في الأصْل: فُعَلَة، كَحُطَمة، و] إنما حُذِفَت لامُها وعُوض عنها تاءُ التَّأنِيثِ، وهل لامها واواً أو يَاءً؟ قولان:
حُجَّة القَوْل الأول: أنها مُشتقَّة من [ثَبَا يُثْبُو؛ كَخَلا يَخْلُو، أي: اجْتَمع.
وحُجَّةُ القول الثاني: أنها مُشْتَقة من] ثبيت على الرجل إذا أثْنيت عليه؛ كأنك جمعت مَحاسنه، وتجمع بالألفِ والتَّاءِ، وبالوَاوِ والنَّونِ، ويجوز في فَائِهَا حين تُجْمَع على "ثُبين" الضَّم والكَسْر، وكذا ما أشْبَهَهَا، نحو: قُلة، وبُرة، ما لم يُجْمَع جَمْع تكْسِير.
والثُّبَة: الجَمَاعة من الرِّجَال تكُون فَوْقَ العَشرة، وقيل: الاثْنَانِ والثَّلاثة، وتُصَغَّر على "ثُبْيَة"، بردِّ المَحْذُوف، وأما "ثُبة الحَوْضِ" وهي وَسطُهُ، فالمحذُوفُ عَيْنُها، لأنَّها من باب المَاء، أي: يَرْجِع، تُصَغِّر على "ثُوَيْبَةٍ"؛ كقولك في تَصْغيرِ سَنَة: سُنَيْهَة.
فصل
قال القرطبي: قيل إن هذه الآية مَنْسُوخة بقوله:
{ { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [التوبة: 41] وبقوله { { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [التوبة: 39] [ولأن يكُون] { { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [التوبة: 41] مَنْسُوخاً بقوله: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً }، وبقوله: { { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [التوبة: 122] اولى؛ لأن فرض الجِهَادِ على الكِفْاية، فمتى سَدَّ الثُّغُورَ بَعْضُ المسْلِمِين، أسْقِطَ الفَرْضُ عن البَاقِينَ.
قال: والصَّحِيحُ أن الآيَتَيْنِ محكْمَتَانِ، إحَدَاهما: في الوَقْتِ الذي يُحْتَاجُ فيه إلى تعيُّن الجَميع، والأخْرَى: عند الاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرِهَا.
قوله: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } "منكم" خبر مُقَدَّم لـ "إنْ" واسمُها، و "لمَنْ" دخلت اللام على الاسْم تأكِيداً لما فَصَلَ بَيْنَه وبَيْنَهَا بالخَبَر، و "من" يجوزُ أن تكُونَ مَوْصُولة، [أو نكرة مَوْصُوفة] واللاّم في "ليبطئن" فيها قَوْلان:
أصحهما: أنها جَوَابُ قَسَم مَحْذُوف، تقديره أُقْسِمُ بالله لَيُبَطِّئنَّ، والجُمْلَتَان - أعْنِي: القَسَم وجَوابُه - صِلَة لـ "مَنْ"، أو صِفَةٌ لَهَا على حَسَبِ القَوْلَيْن المُتَقَدِّمَيْن، والعَائِدُ على كِلاَ التَّقْدِيرَيْن هو الضَّمِير المرفُوع بـ "ليبطئن"، والتَّقْدِير: وإنْ مِنْكُم لِلَّذِي، أو لَفَرِيقاً واللَّه لَيُبَطِّئَنَّ. واسْتَدَلَّ بعض النُّحَاة بهذه الآيَةِ على أنَّه يجوز وَصْلُ المَوْصُولِ بجملة القَسَمِ وجوابه [إذا عَرِيَتْ جُمْلَةُ القَسَم من ضمير عَائِدٍ على الموصول نحو: "جاء الذي أحْلِفُ باللَّهِ لقد قام أبوه" وجعله] ردَّا على قدماء النحاة، حيث زَعَمُوا مَنْعَ ذلك [ولا دلالة على ذلك]، إذ لقائل أن يقُول: ذلك القَسَم المَحْذُوفُ لا أقَدِّرُهُ إلا مُشْتَمِلاً على ضَمِيرٍ يَعُود على المَوْصُول.
والقول الثاني: نقله ابن عَطِيَّة عن بَعْضِهِم: أنَّها لام التَّأكِيد بَعْدَ تأكيد، وهذا خطَأٌ من قَائله، والجُمْهُور على "ليبطئن" بتشديد الطَّاءِ.
ومُجَاهد بالتَّخفيف. و [على] كلتا القِرَاءَتيْن يُحْتَمل أن يكُون الفِعْل لازماً ومُتَعَدِّياً، يقال: أبْطَأَ وبَطَّأ أي تَكَاسَلَ وتَثَبَّط، والتَّبْطِئَة: التَّأخُّر عن الأمْرِ، فهذان لزِمَان، وإن قُدِّر أنهما مُتَعَدِّيانِ، فمعُمُولُهُمَا مَحْذُوفٌ، أي: ليُبَطِّئَنَّ غَيْرَه، أي: يُثَبِّطُه ويُجِبْنُه عن القَتَالِ، و "إذ لم أكن" ظرف، نَاصِبُهُ: "أنعم الله".
فصل في تفسير "منكم"
قوله: "منكم" اختَلَفُوا فيه:
فقيل: المُرادَ منه: المُنافِقُون وهم عبدُ الله بن أبَيٍّ وأصحابه، كانوا يُثَبِّطُونَ النَّاس عن الجِهَادِ مع رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: تَقْدِير الكَلاَمِ يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم وأن مِنْكُم لمن ليُبَطِّئَنَّ، فإذا كان عَذا المُبَطِّئ مُنَافِقاً، فكيف يُجْعَلُ قِسْماً من المُؤمِن في قوله "إن منكم".
فالجواب: أنه جعل المُنافقين من المُؤمنين من حَيْثُ الجِنْسِ والنَّسَبِ والاخْتِلاَطِ، أو من حيث الظَّاهِر؛ لتشبههم بالمُؤمنين، أو من حَيث زعمهم ودَعْواهُم، كقوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ } [الحجر: 6].
وقيل: المراد ضَعَفَهُ المؤمنين، وهو اخْتِيَار جَمَاعَةٍ من المُفَسِّرين، قالُوا: والتَّبْطِئَةُ بمعنى الإبْطَاء، وفَائِدة هذا التِّشْديد تَكَرُّر الفِعْلِ مِنْهُ.
حكى أهْل اللُّغَة أن العَرَبَ تَقُول: ما بَطأ بك يا فُلانُ عَنَّا، وإدْخَالهم البَاء يَدُلُّ على أنَّه في نَفْسِهِ غير مُتَعَدٍّ، فَعَلَى هذا مَعْنَى الآية: أن فيهم من يُبطئُ عن هذا الفَرْضِ ويتثاقل عن الجِهَادِ، وإذا ظَفِر المسْلِمُون، تَمنَّوْا أن يكُونُوا مَعَهُم ليَأخُذُوا الغَنِيمَة.
قال: هؤلاء هُمُ الَّذِين أرادَ اللَّه بقوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ } [التوبة: 38]، قال: ويَدُلُّ على أنَّ المُرَاد بقوله: "ليبطئن" الإبْطَاء منهم لا تَثْبِيطَ غَيْرهم قوله: { يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ } عند الغنِيمة، ولو كان المُرادُ: تَثْبِيطَ الغَيْرِ، لم يَكُن لِهَذا الكَلاَمِ مَعْنًى.
وطعن القَاضِي في هذا القَوْلِ: بأنه - تعالى - حَكَى أن هؤلاَء المُبَطِّئِين، يقولون عن مصيبة المؤمنين: { قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } فيعدّ قُعُوده على القِتَالِ نِعْمة من اللَّه - تعالى -، وهذا إنما يَلِيقُ بالمُنَافِقين، وأيضاً لا يَليق بالمُؤمنين أن يُقال لهم: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ }، يعني الرَّسُول "مودة"، ثم قال: وإن حُمِلَ "ليبطئن" على أنه من الإبْطَاءِ والتَّثَاقُل، صح في المُنَافِقِين، لأنهم كانوا يَثَاقَلُون.
قوله: { فإن أصابتكم [مصيبة] } أي: قَتْل وهَزيمَة "قال قد أنعم الله علي" بالقعود، و { إذ لم أكن معهم شهيداً }، أي: شَاهِداً حاضراً في تلك الغَزْوَةِ، فيُصِيبُنَي ما أصابَهُم، و "إذا لم أكن" طرف نَاصِبُه: "أنعم الله"، { ولئن أصابكم فضل من الله } أي: ظَفَرٌ وغَنِيمة، "ليقولن" هذا المنافق { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [الآية] الجمهور على فَتْح لاَمِ "ليقولن" لأنَّه فِعْل مُسْنَد إلى ضَمِير "من" مبني على الفَتْحِ لأجل نُون التَّوْكِيد، وقرأ الحَسن بِضَمِّها، فأسْند الفِعْل إلى ضَمِير "من" أيضاً [لكن] حملاً له على مَعْنَاها؛ لأن قوله: "لمن ليبطئن" في معنى الجماعة والأصْلُ: لَيَقُولُونَنَّ وقد تقدَّم تَصْرِيفُه.
قوله: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } هذه "كأن" المُخَفَّفَةُ [من الثَّقيلَة] وعملُها باقٍ عند البَصْرِيِّين، [وزعم الكُوفيُّون أنها حين تَخْفِيفها لا تَعْمَل كما لا تعملُ "لَكن" مُخَفَّفَة عند الجُمْهُور، وإعْمَالُها عند البَصْرِيِّين] غَالباً في ضَمِير الأمْرِ والشَّأن، وهو وَاجِبُ الحَذْفِ، ولا تَعْمَل عِنْدَهُم في ضَمِير غَيْره؛ ولا فِي اسْم ظَاهِر إلا ضَرُورةً، كقوله: [الهزج]

1823- وَصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْر كَأنَّ ثَدْيَيْه حُقَّانِ

وقول الآخر: [الطويل]

1824- وَيَوْمَاً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ كأنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إلَى وَارِقِ السُّلَمْ

في إحْدى الرِّوَايات، وظَاهِرِ كلام سَيَبويْه: أنَّها تَعْمَل في غير ضميرِ الشَّأنِ في غير الضَّرُورَة، والجُمْلَة المنْفِيَّة بعدها في مَحَلِّ رَفع خَبَراً لَهَا، والجملة بَعْدَهَا إن كانت فِعليَّة فتكون مُبْدوءَة بـِ "قَدْ"؛ كقوله: [الخفيف]

1825- لا يَهُولَنَّكَ اصْطِلاؤُكَ لِلْحَرْ بِ فَمَحْذُورُهَا كَأنْ قَدْ ألَمَّا

أو بـ "لَمْ" كهذه الآية، وقوله: { { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } [يونس: 24] وقد تُلُقِيتْ بـ "لَمَّا" في قول عمَّار الكلبي: [الرمل]

1826- بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَِّيَالِي شَمْلَهُمْ فَكَأنْ لَمَّا يَكُونُوا قَبْلُ ثَمْ

قال أبو حيَّان: ويحتاج مِثْل هذا إلى سَمَاعِ من العَرَبِ، وقال ابن عَطِيَّة: "وكأن" مُضَمَّنة مَعْنَى التَّشْبيه، ولكنها لَيْسَتْ كالثَّقِيلَةَ في الإحْتِيَاج إلى الاسْم والخَبَر، وإنما تَجيءُ بعدها الجُمَل، وظَاهِرِ هذه العِبَارَة: أنها لا تَعْمَلُ عند تَخْفِيفها، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَوْل الكُوفيين لا البَصْرِييِّن، ويُحْتَمل أنه أراد بذلك أن الجُمْلَة بعدها لا تَتَأثَّر بها لَفْظاً؛ لأن اسْمَهَا مَحْذُوف، والجُمْلَة خَبَرُها.
وقرأ ابن كثير، وحفص من عاصم، ويعقوب: [يَكُنْ] بالياء؛ لأن المَوَدَّة في مَعْنَى الوُد [و] لأنه قد فُصِلَ بَيْنَها وبَيْن فِعْلِها، والبَاقُون: بالتَّاء اعْتِبَاراً بلَفْظِها.
قال الواحدي: وكِلْتَا القراءَتَين قد جاءَ التَّنْزِيل به؛ قال
{ { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [يونس: 57] وقال: { { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [البقرة: 275] فالتأنيث هو الأصْلُ، والتَّذْكِير يَحْسُن إذا كان التَّأنِيثُ غير حَقِيقيّ، لا سيِّما إذا وقع فَاصِل بين الفِعْل والفَاعِل، و "يكُون" يحتمل أن تكُون تَامَّةٌ، فيتعلق الظَّرْفُ بها، أو بِمَحْذُوفٍ، لأنَّه حالٌ من "مودة" إذ هو في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّم عليها، وأن تكُون نَاقِصة، فيتَعَلَّق الظَّرْف بمحذُوفٍ على أنه خَبرَهَا، واخْتَلَفُوا في هَذِه الجُمْلَة على ثلاثةِ أقْوَالٍ:
الأوّل: أنها اعْتِرَاضيَّة لا مَحَلَّ لها من الإعْرَابِ، وعلى هَذَا فما المُعْترض بَيْنَهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهَا مُعْتَرِضَة بين جُمْلَة الشَّرْطِ التي هِيَ { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } وبين جُمْلَة القَسَم التي هي "وَلَئِنْ أصَابَكُمْ"، والتَّقْدير: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } قال { قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } كأن لم تكن بينكم [وبينه مودة، ولئن أصابكُم فَضْل. فأخرت الجُمْلَة المعترض بها أعني قوله] { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } والنية بها التوسط، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتُريدي، وردَّ الرَّاغِب الأصْبَهاني هذا القَوْل بأنَّه مستَقْبَحٌ، لأنه لا يَفْصِل بين بَعْض الجملة [وبَعْض] ما يتعلَّق بِجُمْلة أخْرَى.
قال شهاب الدين: وهَذَا من الزَّجَّاج كأنه تَفْسِير مَعْنَى لا إعْرَاب، على مَا يأتِي ذِكْرُه عَنْهُ في تفسير الإعْرَاب.
الوجه الثاني: أنها مُعْتَرِضَة بين القَوْل ومَفْعُوله، والأصْل: ليقولنَّ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم كأن لَمْ يكُن، وعلى هذا أكثر النَّاسِ، وقد اخْتَلَفَت عِبَاراتُهم في ذَلِك، ولا يَظْهَرُ المَعْنَى إلا بِنَقْل نصوصهم فَلْنَنْقُلْهَا.
فقال الزَّمَخْشَري: اعْتِرَاضٌ بين الفِعْلِ الَّذي هو "ليقولن" وبين مَفْعُولِهِ وهو "يا ليتني" والمعنى: كأنَّه لم يتقدم له مَعَكُم مَوَدَّة؛ لأن المُنَافِقِين كانوا يُوَادُّون المؤمنين في الظَّاهِرِ، وإن كَانُوا يَبْغُونَ لهم الغَوَائِل في البَاطِنِ، والظَّاهر أنَّه تَهكُّم؛ لأنهم كَانُوا أعْدَى عَدُوٍّ للمؤمِنِين، وأشدَّهم حَسَداً لهم، فكيف يُوصَفُون بالمَوَدَّة إلا على وَجْهِ العَكْسِ والتَّهَكُّم.
وقال الزَّجَّاج: هذه الجُمْلَة اعْتِرَاضٌ، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنَّهُم كانوا يُوادُّون المؤمنين.
وقال ابن عَطيّة: المنافق يُعَاطِي المؤمنين المَوَدَّة، ويُعَاهِدُ على الْتِزَامٍ حِلْفِ الإسْلاَمِ، ثم يَتَحلَّف نِفَاقاً وشَكّاً وكُفْراً باللَّه ورسُوله، ثم يَتَمَنَّى عِنْدَما ينكشف الغَيْبُ الظَّفْر لَلمُؤمنينن فعلى هذا يَجِيءُ قَوْلُه: "كأن لم يكن" التفاتة بليغَة، واعْتِراضاً بين القَوْل والمَقُول بِلَفْظٍ يُظْهِر زيادَةً في قُبْحِ فِعْلِهِم.
وقال الرازي: هو اعْتِراضٌ في غاية الحُسْنِ؛ لأن من أحَبَّ إنْسَاناً فَرح لِفَرَحِه، وحَزِنَ لحُزْنِهِ، فإذا قَلَبَ القَضِيَّة فذلك إظْهَارٌ للعَدَاوَة، فحكى - تعالى - سُرُور المُنَافِقِ عند نَكْبَةِ المُسْلِمِين، ثم أرَادَ أن يَحْكِي حُزْنه عِنْدَ دَوْلَة المسْلِمِينِ بسبب فَوَاته الغَنِيمَة ـ فقَبْل أن يَذْكُرَ الكَلاَم بتَمَامِهِ، ألْقَى قوله: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } والمراد التَّعَجُّب؛ كأنه يَقُول: انْظُرُوا إلى ما يَقُولُه هذا المُنَافِقُ كأن لَمْ تكن بَيْنَكُم وبَيْنَهُ مودَّة ولا مُخَالَطَة أصْلاً، والذي حَسَّن الاعتراض بهذه الجُمْلَة وإنْ كان محلها التَّأخِير، كوْنَ ما بَعْدَهَا فَاصِلَة وهيَ لَيْسَت بِفَاصِلَة.
وقال الفَارِسِي: وهذه الجمْلَة من قَوْل المُنَافِقِين للَّذِين أقْعَدُوهُم عن الجِهَادِ؛ وخَرَجُوا هُمْ كأنْ لم تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْنَه أي: وبَيْن الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - مودَّة، فيخرجكم مَعَهُ لتأخذوا من الغنيمة ليُبَغّضُوا بذلك الرَّسُولَ إليْهم، فأعاد الضَّمِيرَ في "بَيْنَهُ" على النَّبي - عليه الصلاة والسلام -.
وتبع الفارسي في ذَلِكَ مُقَاتِلاً؛ مَعْنَاه: كأنه لَيْسَ من أهل [مِلَّتكُم]، ولا مودَّة بَيْنَكُم يريد: أن المبطّئ قَالَ لمن تَخَلَّفَ عن الغَزْوِ من المُنَافِقِين وضَعَفَة المؤمنين: ومن تَخَلَّف بإذْنٍ كأن لَمْ تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْن مُحَمَّدٍ مودَّة، فيُخْرِجَكُم إلى الجِهَادِ، فَتَفُوزُوا بما فَازَ.
[القول الثاني: إنها في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ، فيكون - تعالى - قد حَكَى بالقَوْلِ جملتين: جُمْلة التَّشْبيه، وجملة التَّمَنِّي، وهذا ظَاهِرٌ على قَوْلِ مُقاتِل والفَارسيٍّ: حيث زعَمَا أن الضَّمِير في "بَيْنَه" للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -].
القول الثالث: أنها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الضَّمِير المستَتِر في "ليقولن" كما تقول: مررْتُ بزَيْد وكأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلاً عن مودَّة، ونقل هذا عن الزَّجَّاج، وتَبِعَهُ أبو البَقاءِ في ذلك.
و "يا" فيها قَوْلاَن:
أحدهما: وهُوَ قول الفَارسيِّ إنها لمُجَرد، التَّنْبِيه، فلا يقدَّر مُنادَى مَحْذُوف، ولذلك باشَرَت الحَرْف.
والثاني: أن المُنَادَى مَحْذُوف، تقديره: يا هؤلاء، لَيْتَنِي، وهذا الخلاف جَارٍ فيها إذا باشَرَت حَرْفاً أو فِعلاً؛ كقراء الكسائيّ
{ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } [النمل: 25] وقوله: [الطويل]

1827- ألاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَة سِنْجَال................................

وقوله: [البسيط]

1828- يا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ.............................

على القول بفعليّة "حَبَّذَا" ولا يُفعل ذَلِكَ إلاَّ بـ "يَا" خَاصَّة، دون سائر حُرُوف النِّدَاء، لأنَّها أمُّ البَابِ، وقد كثرت مُبَاشرَتُها لـ "لَيْتَ" دون سَائِرِ الحُرُوف.
قوله: "فأفوز" الجمهور على نَصْبِه في جَوَاب التَّمَنِّي، والكُوفِيُّون يزْعمون نصبه بالخلافِ، والجرميّ يزعمُ نصبه بنفس الفَاءِ.
والصحيح الأوَّل، لأن الفَاء تَعْطِف هذا المَصْدَر المؤوَّل من "أنْ" والفِعْل على مَصْدَر مُتوهَّم، لأن التَّقْدِير: يا لَيْتَ لي كَوْنَاً معهم - أو مُصَاحَبَتهم - فَفَوْزاً.
وقرأ الحسن: فأفُوزُ رفعاً على [أحدِ وجهيْن:
إما] الاستئناف، أي: فأنا أفوزُ.
أو عَطْفاً على "كُنْتُ" فيكون داخِلاً في حَيِّز التَّمَني أيضاً، فيكون الكَوْن معهُم، والفَوْزُ العَظيم مُتَمنين جَميِعاً، والمُرَاد بالفَوْزِ العظيم: النَّصِيب الوَافِرُ من الغَنِيمَة.