التفاسير

< >
عرض

وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر، والفعل بعدها مجزومٌ بها، وقرأ الحَسَنُ وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبَّهوا "وليخش" بـ "كَيف" وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو: "وهْيَ" و "لَهْي" في أول البقرة.
قال القرطبي: حذفت الأولف من { وَلْيَخْشَ } للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم.
وأنشدوا: [الوافر]

1759- مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ

أراد لتفد وهو مفعل "يخشى" محذوف لدلالة الكلام عليه، و "لو" هذه فيها احتمالان:
أحدهما: أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين.
والثَّانِي: أنَّهَا بمعنى "إن" الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت ما معنى وقوع { لَوْ تَرَكُواْ } وجوابه صلة لـ "الذين" قلت: معناه: وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهُمْ لو شارفوا أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل: [الوافر]

1760- لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي

وقال ابن عطية تقديره: لو تركوا لخَافُوا، ويجوزُ حذف اللام من جواب "لو" ووجه التمسك بهذه العبارة أنَّهُ جعل اللامَ مقدَّرَةً في جوابها، ولو كانت "لَوْ" بمعنى "إن" الشَّرطيّة لما جاز ذلك، وقد صَرَّح غيرهما بذلك فقال: { لَوْ تَرَكُواْ } "لَوْ" يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره، و "خَافُوا" جوابُ "لَوْ".
وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ وابنُ مَالِكٍ، قال ابْنُ مَالِكٍ: "لو" هنا شرطية بمعنى "إنْ" فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتَّقدير: وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد "لو" هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بَعْدَ "إنْ" وأنشد: [الكامل]

1761- لاَ يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إلاَّ مُظْهِراً خُلُقَ الكِرَام وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا

أي: وإنْ تكن عديماً، ومثلُ هذا البيت قول الآخر: [البسيط]

1762- قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بأطْهَارِ

والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقاً في الماضي، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى "إنْ" توهُّمُ أنَّه لَمَّا أمر بالخشيةِ - والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم الذي ينافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ "لو" لفظ "إنْ" ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري "لَوْ" على فعل مستقبل، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال: "وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا".
قال أبُو حَيَّان: "وهو الَّذي تَوهَّموه لا يلزم، إلاَّ إن كانت الصِّلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذا معنى { لو تركوا من خلفهم } أي: ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في "لَوْ" أن تكون بمعنى "إنْ" إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل، فَإذَا كَانَ مَاضياً على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه". انتهى.
وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى "إنْ" أنْ تكن في الآية كذلك؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب "لو" محذوف مدلولٌ عليه بقوله: "لا يلفك" وهو نَهْيٌ، والنًّهْيُ مستقبلٌ فلذلك كانت "لَوْ" تعليقاً في المستقبل.
وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ "إذا"، و "إذا" للمستقبل. ومفعول { وَلْيَخْشَ } محذوفٌ أي: وليخش اللَّه.
ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ { وَلْيَخْشَ } يطلبُ الجلالة، وكذلك { فَلْيَتَّقُواّ } فيكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوَّلِ.
قوله: { مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ متعلِّقٌ بـ "تَرَكُوا" ظرفاً له.
والثَّاني: أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من "ذرية"؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.
قوله: { ضِعَافاً }، أمال حمزة: ألف { ضِعَافاً } ولم يبال بحرف الاستعلاء لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِِرِ الإمالةَ.
وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ "ضُعُفاً" بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء، والسُّلمي وعائشة "ضعفاء" بضم الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو: ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء، وقرئ "ضَعافَى" بالفتح والإمالة نحو: سَكَارى، وظاهر عبارةِ الزَّمخشري أنَّهُ قُرِئَ "ضُعافى" بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال: "وقُرِئَ ضُعَفَاء، وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى", فيحتمل أنْ يريد أنَّهُ قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها، ويحتمل أن يُرِيدَ أنََّهُ قُرِئَ "ضَعافى" بفتح الضَّاد دونَ إمَالَةٍ، و "ضَعافَى" بفتحها مع الإمالة [كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة، وسكارى بفتحها مع الإمالة]، والظَّاهِرُ الأوَّلُ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة.
قوله: { خَافُواْ عَلَيْهِمْ }. أمَالَ حمزةُ ألف "خَافُوا" للكسرة المقدَّرَةِ في الألف، إذ الأصل "خَوِفَ" بكسر العين؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو: "يَخَافُ".
وعلَّل أبو البَقَاءِ وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم، أو إحدى أخواته نحو: خِفْت وخِفْنَا، والجملةُ من "لَوْ" وجوابها صلةُ "الَّذينَ".
فصل
اختلفوا في المعنيِّ على أقْوَالٍ:
أحدها: أنَّهَا في الرَّجُلِ يحضره الموت فيقول مَنْ في حضرته: انظر لنفسك فَإنَّ أولادك ورثتك لا يغنون عنك من اللَّهِ شيئاً. قَدِّم لنفسك، أعْتِقْ، وتصدَّقْ، وأعْطِ فلاناً كَذَا، وفلاناً كذا، حتَّى يأتي على عامَّة ماله، فنهاهم اللَّهُ تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يأمروه بأن ينظر لولده ولا يزيد في وصيَّتِهِ على الثُّلُثِ فيكون خطاباً للحاضرين عند الميت. فقيل لهم: كما أنَّكم تكرهون بقاء أولادكم في الضَّعف، والجوع فَاخْشَوا اللَّهَ، ولا تحملوا المريض على أنْ يحرم أولاده الضُّعفاء ماله، ومعناه كما أنَّك لا ترضى لنفسك مثل هذا الفعل فلا تَرْضَاهُ لأخيك المسلم.
وثانيها: أنَّهُ خِطَابٌ للمريض بحضرة الموت ويريد الوصيَّة للأجانب، فيقول له من يحضره: اتَّق اللَّه وأمسك مالك على ولدك مع أنَّ القَائِلَ لَهُ يجب أنْ يُوصِيَ لَهُ.
وثالثها: أنَّهُ خِطَابٌ لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصيَّة، لئلا تضيع ورثته بعد مَوْتِهِ، فَإنْ كانت هذه الآية نزلت قبل تَقْدِيرِ الوصيَّة بالثُّلُثِ، كان المرادُ بها ألا يستغرق التركةَ بالوصيَّةِ، وَإنْ كانت نزلت بعد تقدير الوصيَّة بالثُّلُثِ كان المرادُ منها ألا يوصي أيضاً بالثُّلُث بل ينقص إذا خاف على ذُرّيّته، وهذا مَرْويٌّ عن كثير من الصَّحَابَة.
رابعها: أنَّ هذا خطابٌ لأولياء اليتيم، قال الْكَلْبِيُّ: كَأَنَّهُ يقولُ مَنْ كان في حِجْرِهِ فليحسن إليْه بما يجب أن يُفْعَلَ بذريته من بعده.
قال القاضي: وهذا أليقُ بما تَقَدَّمَ وتأخَّرَ من الآيات الواردة في الأيْتَام.
قوله: { فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }.
أي فليتقوا اللَّه في الأمر الذي تقدم ذكره، والاحتياط فيه، وليقولوا قولاً سديداً، والقولُ السديدُ هو العدل والصّواب من القول.
قال الزمخشريُّ: القولُ السَّديدُ من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب ويخاطبوهم: يا بني، ويا ولدي، والقول السّديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا: لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك [مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ] والقول السَّديد من الوَرَثَة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا إليهم القول ويخصوهم بالإكرام.